Jan 19, 2021
د. عبدالوهاب المسيرى يكفر بفكر الحداثة ومجتمع الحداثة الذى يقوم على «خذ وهات»، و«مصلحتى ومصلحتك»، أو «نمط التعاقد»، أو «الفكر التعاقدى»، الذى يقوم أصلاً على المادية البحتة، و«المصلحية المجردة». عرّف البعض الحداثة بأنها «التخلى عن العلاقات الأولية مثل علاقات القرابة والانتماء للقبيلة والدين»، وهؤلاء يعتبرون التراحم فكراً تقليدياً عقيماً ينبغى هجره، حتى رابطة الزواج يرفضونها، ليتحول من إطار شرعى وقانونى منضبط إلى علاقة «منح لذة مقابل لذة». وهذه الحداثة الغربية التى أراد بعض مفكرينا قصيرى النظر التشدّق بها ترى أن الأمومة لا تتّفق مع التعاقد، لأنها عطاء ورحمة بلا حدود، ولذلك وقع فى بعض بلاد الغرب ازدراء الأمومة والعزوف عن الإنجاب أو الزواج الشرعى القانونى.
جعل د. المسيرى يعظّم مجتمع التراحم الذى ضربنا له المثال الأول الذى أعرف أبطاله الذين يسكنون بالقرب من عيادتى، ورأيته فى آلاف النماذج التى عشت بعض فصولها بنفسى، فما من شاب مصرى يرى امرأة تحمل كرتونة أو شنطة على رأسها إلا واندفع بحماس يحملها عنها. وقد كانت أمى تحكى لى ذلك دوماً كلما سافرت للقاهرة، وكانت جدتى تتاجر فى الغلال بعد موت والدها التاجر، فتأتيها المرأة الفقيرة باكية: ليس عند أولادى طعام، فتقول لها خذى كيلة قمح هدية، وظلت تفعل مثل ذلك حتى أفلست. كانت جارتنا أم عربى لا تترك مديناً إلا وساعدته حتى تراكمت الديون على زوجها، فغضب منها غضباً شديداً، ولولا تسديد أولادها، لوقعت فى مأزق كبير، وكل ذلك من شدة رحمتها، حتى إنها كانت يمكن أن تهدى ثوبها الجديد لمن تبدى إعجاباً به من الفقراء.
تراحم الشعب المصرى وشعوب العرب التى تربت على التواصل والتراحم من الدين والعرف هو الذى جعل د. المسيرى يدشّن نظرية مفادها «مجتمع التراحم أتقى وأطهر وأبقى وأسمى من مجتمع التعاقد الحداثى»، ويضرب لذلك أمثلة شهيرة معروفة عنه وهى «نقطة العريس» فى الأفراح المصرية، التى لولاها ما استطاع أحد سداد بعض ما عليه من نفقات الزواج. وكذلك قصته مع عامل النظافة الذى كان ينظف له منزله بالسعودية، والذى كان يصر فى كل مرة على قوله عند تسلّم الأجر أسبوعياً، «بلاش يا بيه خليها علىَّ هذه المرة»، وكأنه يقول لـ«المسيرى» رغم أننى أعمل خادماً عندك وأدخل معك فى علاقة تعاقدية، إلا أننا من الناحية الإنسانية متساويان وندخل فى علاقة تراحم لى عندك ولك عندى، وليس مجرد خدمة مقابل نقود، يمكنك تأجيل الدفع الآن.
وهذا يحدث فى كل إيجارات الشقق للفقراء، فقد يؤخر المالك المستأجر عدة أشهر، وقد يتنازل له عن بعضه، وقد يدفع الجيران بضعة أشهر للمستأجر الفقير، أو يتركه يسكن دائماً بلا مقابل، كما رأيت مراراً فى حياتى مع أرامل، ومعاقين. ويثمن «المسيرى» عدم فتح المصرى للهدية وقبولها مغلقة كما هى، حتى لا تتحول من قيمة معنوية تراحمية إلى مادية تعاقدية، وما رغيف العيش الذى كانت تتلقاه أمى من جيرانها حينما يخبزون أو ترسله إليهم حينما تخبز إلا صورة من هذا التراحم. لقد انتصر «المسيرى» لمفهوم مجتمع التراحم، وهذا المجتمع العظيم لم ينبت فجأة، ولكنه نبت من تعاليم الرسل التى ترسخت عبر آلاف الأجيال حتى صارت كالعرف السائد المتجذر فى أرض القلوب، ومنها «من لا يَرحم لا يُرحم»، «الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ، ارْحَمُوا مَنْ فِى الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِى السَّمَاءِ»، «لا تُنزَعُ الرَّحمةُ إلَّا من شقىٍّ»، «خيرُ الناسِ أنفعُهم للناسِ»، وقول المسيح «طوبى للرحماء».
*
نظام التعاقد
العقد هو اتفاق بين طرفين حول مجموعة من الحقوق والواجبات من أجل تحقيق هدف مشترك. وقد ميز جان جاك روسو (1712-1778) في كتابه "العقد الاجتماعي" بين عقد يكون على حق، وآخر يكون على باطل، وقد عبر عن رفضه لهذا العقد الباطل بالقول:
إذا ما خاطب إنسان إنسانا، أو خاطب إنسانا شعبا قائلا: وإني أقيم معك اتفاقية عليك وزرها ولي أنا كل نفعها، لظل هذا القول منافيا للصواب،
كان حق الاستعباد باطلا، ليس لأنه غير مشروع فحسب، وإنما أيضا لأنه غير معقول ولا يعني شيئا".
العصر الحالي هو عصر العبودية الحديثة التي تفاقمت مع فرض سياسات التصحيح الهيكلي من قبل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي على اقتصادات الدول المتخلفة، إنه العصر الذي فقد فيه الإنسان حصانته الإنسانية وتحول إلى أداة للاستغلال. ومن مظاهرة هذه العبودية إلزام الموظف بتوقيع عقد ينص على الكثير من الواجبات والقليل من الحقوق، وكأن هذا الموظف عبارة عن أي شيء يجب عليه أن يقبل أي شيء.
أصبح شعار "ليس هناك قوة عمل لا يستغنى عنها، أو مهارة فنية لا يستغنى عنها" هو الذي يتألق أكثر فأكثر، حيث يتطلب تعظيم أرباح الأسهم تبني سياسة قتل الكلفة الذي يطبقه اقتصاد السوق. ومن أجل ذلك، تدفع وكالات العولمة والضغط (البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، واتفاقات التجارة الدولية، ووكالات التنمية الدولية) إلى إنهاء الضمانات الوظيفية، وتحرير الأسواق بالقضاء على دولة الرعاية.
المغرب كان من الدول التي طبقت نظام التوظيف بالعقدة في قطاع التربية والتعليم، حيث اشترطت الحكومة المغربية منذ نهاية عام 2016 توقيع التزام وعقد -مرتبط بزمن أو أجل محدد- قبل وبعد اجتياز مباراة التعليم، وقد اعتبرت الحكومة هذا الشرط خيارا إستراتيجيا، وأنه خطوة نحو الجهوية المتقدمة.
المشكلة ليست في العقد ومضامينه، بل في الجهة التي صاغت العقد وتحرص على تطبيقه. فقد تبين أن هذه الجهة لا تملك ضميرا ولا تعرف ما معنى إنسان أو إنسانية. لذلك فقبل التفكير في إرساء نظام تعاقدي في قطاع ما من القطاعات، يجب أولا توفير أو توفر مجموعة من الشروط والظروف، لعل أهمها:
- الاعتراف بالإنسان وتغيير طريقة تفكير الجهات المتسلطة ونظرتها إلى الإنسان والأستاذ، فتقارير التنمية البشرية تؤكد على أن الثروة الحقيقية للأمة تكمن في ناسها، وتحريرهم من الحرمان بجميع أشكاله، وتوسيع خياراتهم لا بد أن يكون محور التنمية في البلدان الضعيفة. إن رأس المال البشري والاجتماعي يسهم بما لا يقل عن 64% من أداء النمو، بينما يسهم رأس المال المادي والبنى التحتية بمقدار 16%، وتسهم الموارد الطبيعية بما مقدار 20%.
- محاربة الأمية والفساد، فالتقارير الدولية لا تزال تنظر إلى المغرب وباقي دول شمال أفريقيا والشرق الأوسط على أنها شديدة الفساد، حيث تشهد تراجعا في مؤشر محاربة الفساد.
- إصلاح الإدارة وإرساء نظام ديمقراطي حقيقي، لأن النظام المغربي رغم تقدمه في مؤشر الديمقراطية، لا يزال يعتبر نظاما هجينا، مما يعني أنه يعتمد إجراء انتخابات كأحد مظاهر الديمقراطية، لكن مع استمرار ممارسة سلطوية.
- التوزيع العادل للثروة وإرساء جهوية متقدمة. والجهوية لا تعني التوظيف بالعقدة، لأن التوظيف الجهوي يمكن أن يكون بعقد أو دون عقد. لذلك فاختزال السلطة مشروع الجهوية المتقدمة في التوظيف بالعقدة يطرح أكثر من عملية استفهام.
* Jul 16, 2021
الظروف المعيشية الصعبة والصراع من أجل لقمة العيش وانعدام الخدمات في البيوت، على علاقة الجيران ببعضهم بعضا، فلم يعودوا يجدون فرصة للتواصل وتعزيز العلاقات فيما بينهم، وإحياء العادات والتقاليد الأصيلة، بل زاد التنافس بينهم وكثرت الضغينة وقلت الرحمة والمودة. ودعا الخبراء إلى ضرورة تمسك الجيران باحترام بعضهم للبعض الآخر حتى يزداد التعاون والتآزر.
خبراء علم الاجتماع أن تماسك المجتمع يبدأ بالإحسان إلى الجار. والجار هو القريب من المنزل والمسكن، سواء كان قريباً من حيث الدم أو الصداقة، وسواء كان من الدين نفسه أو غيره، ذلك أن الاجوار هم أكثر الناس معرفة ببعضهم بعضا، حتى أن هناك مقولة شائعة تقول إن الجار قبل الدار.
نسبة عالية من الجيران تعيش علاقات متوترة للغاية خاصة بسبب التوسع العمراني وما ينتج عنه من خصام بين الجيران عند فتح نوافذ مطلّة على مسكن جاره.
القضايا المنشورة في المحاكم أكبر دليل على هذا الإشكال القائم بين الجيران فضلا عن عدم احترام بعض الجيران لقيم الجوار وأخلاقه ومبادئه التي تحتم حدّا أدنى من الاحترام.
من الجيران من يتجرّأ على التلفظ بألفاظ سوقية على مرأى و مسمع من جيرانه وأحيانا يكون متعمدا في ذلك، وقد يصل الأمر ببعض الجيران إلى محاولة جسّ النبض من أجل التحرش والإتيان بأفعال لا يقبلها لا العقل ولا الدين.
كان الجيران إخوة بكل ما في الكلمة من معنى، يصونون حرمة بعضهم البعض، ويحافظون على العادات والتقاليد والأعراف، وهو ما كان يطمئن الجميع ويشعرهم بالأمان.
كانت أملاك الجار وما حَوَتْ دارُه، أمانة في عنق جاره إذا غاب عنها، وعليه الحفاظ عليها حتى يعود. بل كانت استعارة بعض لوازم المطبخ منتشرة بشكل كبير بين الجيران، فلم يكن بمقدور أهل البيت شراء كل اللوازم والأواني المنزلية التي يحتاجونها في المطبخ، فكان الناس يستعيرونها من بعضهم بعضا، و كانوا يستعيرون من القهوة المطحونة لعمل فنجان قهوة للضيف، حيث لم تكن القهوة تتواجد باستمرار في البيوت، لأن الشاي كان هو المشروب الشعبي السائد، وكانت القهوة تقدم فقط للضيوف الغرباء. وإذا نفد الخبز من بيت أحدهم، كان يستعير بعض الأرغفة من جيرانه، ثم يردها إليهم في اليوم التالي. وتابع “أين نحن اليوم من كلّ هذا سوى المشاحنات والبغضاء والتنصت على البعض ومراقبة حركاتهم؟”.
بعض المجتمعات العربية ضعفا في احترام هذا الموروث والالتزام الديني والأخلاقي بين أفراد المجتمع الواحد، وهذا لا ينسجم مع عاداتنا وتقاليدنا الأصيلة. فالمودة والرحمة واجب أساسي يجب الالتزام به، تجاه أسرتنا وجيراننا ومجتمعنا، وعلى الإعلام ومنظمات المجتمع المدني النهوض بواقع عملهم الإنساني والتأكيد على هكذا موضوعات هادفة تخدم المجتمع وتعزز روح التسامح والسلم الاجتماعي.
رغم تنامي الاعتقاد في أن المودة والتراحم قد رفعا من الدنيا لاستفحال الأنانية، وكثرة المشاكل بين الأجوار، وغياب القدوات الحسنة التي يستحي منها الأفراد في زمن المادية الغالبة، إلا أنهما قد اتخذا أشكالا جديدة يتم التعبير عنها من خلال حملات التيليتون بالتلفزات ومن خلال مشاريع التضامن في المساحات التجارية الكبرى وعن طريق الجمعيات الخيرية والمنظمات الوطنية الكبرى ذات النشاطات الصحية والاجتماعية وأيضا عن طريق هياكل النهوض الاجتماعي بالدولة.
لسه مقال الراسمالية المتوحشة ++++++++
كلما تمسك الجيران باحترام بعضهم بعضا ازدادت أواصر القوة والمنعة ضد كل تيار معاد للمجتمع، وزاد الاحترام والتآزر
غير أن التضامن يرتفع مدة من الزمن في بعض المواعيد الدينية مثل شهر رمضان وفي عيد الأضحى وكذلك عند بعض المناسبات ويأتي في مقدمتها الختان والزواج… أما المودة فلا تبرز بشكلها اللافت إلا في حالات الحوادث والأمراض الخطرة والمآسي الاجتماعية.
نحب لهم ما نحبه لأنفسنا ونفرح لفرحهم ونتألم لألمهم.
Jul 24, 2021
أفكار اليسار على نبلها الظاهر تندرج تحت "قطاع اللذة" الذي "يَعِدُ الإنسان بفردوس أرضي سيريحه تماما من عبء التاريخ، والالتزام الخلقي، والإحساس بالمسؤولية تجاه الآخرين"، على حد وصفه.
مثل مفكرين آخرين أمثال خالد محمد خالد وعادل حسين، انتقل المسيري من اليسار إلى اعتبار الإسلام حلًّا أجدى لمشاكل البشرية المادية والروحية، قائلا إن "النسبية الإسلامية هي أن يؤمن الإنسان بأن هناك مطلقا واحدا هو كلام اللّه، وما عداه اجتهادات إنسانية نسبية في علاقتها بالمطلق الذي يوجد خارجها".
إيمان يستند إلى رحلة عقلية طويلة، ولذا فإنه إيمان عقلي لم تدخل فيه عناصر روحية، فهو يستند إلى عجز المقولات المادية عن تفسير الإنسان وإلى ضرورة اللجوء إلى مقولات فلسفية أكثر تركيبية".
فالموضوعية العلمية التي دعا إليها طبقها كما تراءى له في تلك الموسوعة الضخمة، إلى حد أن بعض منتقديه رأوا فيها تعاطفًا مع اليهود، لأنه كان موضوعيا وفصل بين الديانة اليهودية ومعتنقيها وبين الصهيونية.
أفكاره لا تحذر من الصهاينة اليهود فحسب، بل من الصهاينة المسلمين أيضا، كما قال في إحدى الندوات متنبّئا قبل 26 عاما "من الآن فصاعدا سنجد يهودا في ثياب مسلمين، اليهودي الوظيفي مسلم يصلي معنا العشاء في المسجد لكنه يقوم بالدور نفسه الذي يقوم به الجنرال اليهودي، وعليه يجب تحليل تلك الظاهرة حتى لا يتحول كثير منا إلى يهود من دون أن يدروا".
صكّ المسيري عددا من المصطلحات الجديدة التي مثلت أساسا لنظرياته الاجتماعية، منها ما يسميه بـ"النزعة الجنينية" للإنسان في مقابل "النزعة الربانية"، وكذلك مصطلح (العلمانية الشاملة) المختلفة عن (العلمانية الجزئية).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق