الاثنين، 25 أكتوبر 2021

"مجتمع النخبة العربية".. قراءة في أزمة الفاعلية والأيديولوجيا

May 1, 2020

الفيلسوف الألماني هربرت مركيوز -في كتابه "الإنسان ذو البعد الواحد"- أن الإنسان الحديث
 مؤدلَجٌ بطبعه، وأن دعوى الحرية التي تتغنى بها الرأسمالية والليبرالية ليست حقيقةً، وإنما هي لعبة تمارَسُ ضدّه فتسوّر إرادته الحرّة، وتوجّه أفكاره نحو ثقافة وطريقة تفكير ماديّة محددة، حتى صارت سمة العالم أنه يفكّر بطريقة "أحاديّة البعد".

 اعتمد ماركس نظريّته في تغيّر وسائل الإنتاج وانعكاساته سببًا أساسيًّا في تبدّل الدور التاريخي على نحو حركي دائم، إلا أن هذه الفكرة انهارت نظريًّا قبل انهيار الاتحاد السوفياتي عمليًّا، وذلك بتغيّر الحكم الاشتراكي إلى شكلٍ جديدٍ من طبقات ومسؤولي الدولة والاستبداد والمنتفعين.

وفي المقابل؛ رأى أرنولد توينبي تفسيرًا أن تبدّل الحضارة يكون بدايةً بسبب ضعف النخبة التي توجّه الحضارة وانقلابها إلى سلطةٍ تعسفية، إضافة إلى انفضاض الشعب عن تأييد النخبة ورفض محاكاتها، ليؤدي الانشقاق وتفتّت المُجتمع دوره في السقوط الأخير.

وبهذا؛ فإن توينبي يرى في فشل النخبة في توجيه المجتمع وصنع آرائه سببًا في السقوط الحضاري، ويؤكّد أن انفكاك النخبة عن إلهام المجتمع أحد أسباب هذا الفشل.

إن ترسيخ الوعي العام والدعوة إلى تحقيق الديمقراطية والعدالة، والدفاع عن قيم الحرّيّة وحقوق الإنسان، وربط المجتمع بعمليّة النهوض الفكري والحضاري؛ من أهم أدوار النخبةِ في واقعنا المعاصر، إلا أننا نلاحظ أن النخب العربية ما زالت تخفق في الدعوة المجرّدة إلى الإصلاح السياسي والاجتماعي، ونجد أيضًا أن الأزمات العربية تتفاقم عقداً تلو آخر جارفة معها آمال الشعوب في التغيير

إن غالبية المحسوبين على النخب العربية عجزت -بمختلف أوجهها- عن تحقيق اندماجٍ مؤثّر لها مع النسيج الاجتماعي والفكري، بل إنها -على النقيض من ذلك- آثرت الانعزال في دوائر بشريّة وثقافيّة خاصّة بها؛ فأصبحت بذلك طبقة تعيش بمعزل عن التحولات العنيفة التي أفرزها الربيع العربي، وآثرت اتخاذ مواقف نخبويّة بناءً على رؤى معيّنة وأفكار مسبقة أيديولوجيّة منفصمة عن الواقع.

العلاقة بين الأيديولوجيا والنخبة: إن الأيديولوجيا أداةٌ لغويةٌ ومعنويّة تنطوي على تحفيزات مختلفة موجَّهةٍ للمؤمنين بها، ولذا نرى أن الأشخاص المؤدلَجين ينجحون دائمًا في إقلاق الآخرين، رغم فشل أيديولوجياتهم في البقاء أو الانتشار، فتدخل الأدلجة بذلك في التمحور حول الماضي وجعله أداة لفهم الواقع وطريقًا للمستقبل.

لقد تمركزت نخبنا الثقافية ردحًا طويلاً من الزمن حول الماركسية بشكلها السوفياتي المعادي لكل أشكال الدين، وثمّة فريق نخبويٌّ آخر موازٍ لها تمركز حول الارتباط بالغرب باعتباره الجنّة الحضاريّة التي يملك أصحابها التفوّق والفكرَ التنويريّ، بالتوازي مع رفض ونقد جميع ما جاءنا عبر تاريخنا الديني والقومي والفكري. كما نلاحظ أن فئة واسعة من اليسار ارتحلت نحو الوجه الليبرالي للأيديولوجيات الجديدة، إلا أن سمة الإقصاء والنظرة الفوقية هي سمةٌ مشتركة لدى المؤدلَجين على العموم.

لا ينطلق السؤال الصحيح في فهم الأيديولوجيا وتفكيكها من "هناك" بل من "هنا"؛ كما يقول المسيري  ويتطلب تفكيك الأيديولوجيا إلى مسارٍ نظريٍّ يفهم تاريخ الأفكار في السياق الغربي، ومسارٍ عمليّ يظهرُ العوامل الخفيّة التي تعمل على ترسيخ الأيديولوجيا.

وبحسب هيغل؛ فإن دورة التاريخ محكومة بقانون الحركة والتناقض المستمر، فالروح الكُلّيّة تحركه إلى الأمام دومًا. وحين صدح فرانسيس فوكوياما بنظريته حول "نهاية التاريخ"؛ فإنّه كان مرتبطا في ذلك بفحوى مدرسة هيغل التي ترى في التقدم الغربي ووعيه الحضاريّ والفكري السقفَ الأخير للتقدم الإنساني. كما أكّد فوكوياما مقولة انتصار الليبرالية التي هي جوهر أيديولوجية هيغل الكبرى في فهم مسار التاريخ.

إن مشكلة الليبرالية ومستلزماتها هي أنها تفرض حريّة مختلفة بين المؤمنين بها، وجوهر هذه الحرية هو الإتاحة العشوائية، ولذا نرى اختلافًا واضحًا بين حريّة الطبقات الوسطى والفقيرة والغنية، كما أن هذه الإتاحة مختلفة في البلاد المسلمة عن البلاد غير المسلمة.

لكن ما السبيل لفرض هذه الإتاحة؟ إنها العولمة التي تقضي بفتح الحدود وجعل العالم سوقًا واحدةً للأفكار والسلوكيات، وأي شيء خارج نطاق الليبرالية -كالدين مثلًا- لا اعتبار له، وهذا بالضرورة داخل ضمن الأدلجة، إلا أنه مختلف في ظاهره عن التمسك بأيديولوجيا الأنساق الكبرى المفروضة من قبل أشخاص أو سلطات بعينها.

لقد اختلف مفهوم الصراع حالياً؛ فأصبحت تأتينا صراعات الرجال والنسويّة، وأخرى بين المثليّة والغيريّة، وبين المعرفة والسلطة، وبين تأويل النص الديني بانضباط وتفتيته إلى ما لا نهاية من الآراء.

لم تختفِ الأيديولوجيا إذن؛ إلا أن طبيعتها والمستهدفين منها هم الذين اختلفوا، ولم يبقَ مُتّسَعٌ -والحال هكذا- للتمحور حول فرضيّات ثنائية، بل توجّهت أفكار العالم كله للدفاع عن معتقداتها أو التماهي مع متطلبات السوق الكبرى. فالبشر اليوم أبعد ما يكونون عن الحرية، بدءًا من اختيار اللباس وانتهاء باختيار الرؤساء؛ فالإعلام اليوم يوجّه الفرد ويصنع خياراته.

أيديولوجيا النخبة أم أزمة النخبة
 بعيدًا عن الجدل الدائر حول دور النخب في إطلاق الربيع العربي ودعمه توجيهيًّا وسياسيًّا؛ فإننا نرى أن طبقات النخبة ذهبت إلى الانكماش على ذاتها لجملةٍ من العوامل بعضها وثيق الصلة بالنخب نفسها، كتكلّس أفكارها حول قضايا جامدةٍ رغم ضرورة تجديد تناولها لمختلف القضايا.

أين هي النخب الجديدة المؤثرة في الوعي؟ ما زالت النخب القديمة تنتج عصبتها وجماعاتها مرةً تلو مرة، ونرى -من ناحية أخرى- نُخبًا مضادّة تعقد صفقاتها مع الاستبداد وأغصان الخرافة، لتستمد مشروعية البقاء في هذا الزمن المأزوم.

إن وجود النخبة أمر طبيعي في المجتمع الإنساني، فهي القائد المفكر والموجه لعمليات التحوّل وحركات التأثير، ومن ثمّ فإن تأزمها يؤدي إلى انحلال التأثير في المجتمع شيئًا فشيئًا، وظهور بدائل غير صحّية من تياراتٍ وأفكار لا يمكن ضبطها، وإنما تنشر وعيًا زائفًا كما هو حال ظاهرة "مشاهير مواقع التواصل" الذين يتحدثون لمجرد الوصول لمتعة الظهور والشهرة.

جدير بمختلف النخب أن تنخرط في التأثير المباشر في صناعة الواقع الحضاريّ، باستقطاب مزيد من الشباب المثقف لتحقيق نهوضٍ فكريٍّ مستمرّ لا ينبتُّ عن ماضيه وقواعد فكره، وأن تقترب النخبة من الشارع، وتنقّب في التراث الروحي والفكريّ الذي يؤمن به؛ لتفهم أطره الفكرية أولاً، وتلتمس طريق نهضته بما يناسبه ثانيًا، وإلا فإننا سنظل مرهونين للتبعية وطغيان الإقصاء على الدوام.

محمد سرميني
المدير العام لمركز جسور للدراسات

*

مفهوم النخبة العربيّة خلال القرن العشرين. والشاعر اللبناني الكبير سعيد عقل

 الشاعر الذي اطلع على ثقافات العالم القديمة والحديثة ،وتعمّق في دراسة أعمال عمالقة الفكر والفلسفة في جميع العصور ،وتشبّع بالمعارف الإنسانيّة في جميع المجالات 
حاول في أشعاره كما في محاضراته والحوارات التي أجريت معه، أن يمنح للثقافة العربية أبعادا انسانيّة تحررها من المحلية الضّيّقة، وتعيد لها المجد الذي كانت تفتخر به عن جدارة في العصور الخوالي.

ونحن نعثر على أوسع وأعمق مفهوم لمفهوم النخبة العربية في محاضرة ألقاها سعيد عقل في الجامعة الأمريكيّة ببيروت في شهر ديسمبر عام 1954.وفي بداية هذه المحاضرة، هو يحدّد مفهوم النّخبة قائلا :”ليست النخبة أفرادا أفذاذا، بما هم أفراد أفذاذ. ولا طبقة مثقفين بما هم طبقة مثقفين. إنّها جسم حيّ ذو معرفة في مستوى المصائر الكبرى، واع ذاته ودوره في العالم". ومعتمدا على قولة الفيلسوف اليوناني الشهيرة التي فيها يقول :”سأخاطب الحكيم فابعدوا الجهّال" يرى سعيد عقل أن العامة والدّهماء "خطر على القيم الكبيرة". غير أن خطر العامة هذه يمكن أن ينحسر، بل قد يزول تماما في حال وجود خاصّة ،أو نخبة .ثمّ يطرح سعيد عقل السؤال التالي :ولكن أين نحن في الشرق من تكوّن النخبة؟ تلك النّخبة التي تكون بحسب رأيه ك"جسم حيّ ، ما هي كالآلة تستقبل الوجود، وإنما كالإنسان تقصد الوجود، وكذات معرفة وخُلُق في مستوى المصائر الكبيرة ،لا تجهل شيئا بلغة العقل في أيّة بقعة من بقاع الأرض ، ولا تفتقر الى شيمة تحلّي بها في أيّة رقعة من رقاع التمدّن، من تلك الشيم التي تدرّع الناس حيال الشرّ، وإغراءات الشرّ. وكواعية ذاتها ودورها في العالم ، لا تتصرف تلقائيّا أو اندفاعا في تيّار وإنما على فعل إرادة ، وعن ادراك بأنها هي المسؤولة في النهاية عن مستقبل الإنسان في الأرض، وربّما في ما وراء الأرض".

 فوق "شهوة السلطة". وإذا ما كان الحكم "أسلوب لتعهّد الأمّة ، أو العالم، في صعوده نحو مصير عظيم"، فإنّ النخبة هي "هذا المصير العظيم".

فالصهيونيّة ، يكتب صاحب "رندلي" تشكّل كلّ يوم تحدّيا لوجود العرب غير أن العرب يفتقرون الى نخبة "تعمل بمستوى المصائر الكبرى". وهنا يكمن السبب في الهزائم المتلاحقة التي منيوا بها في مُجمل حروبهم ضد اسرائيل

*

مخطئ من يؤمن بوجود نمط حياة عام تأخذ فيه النخب السياسية والثقافية صوت الشعب بعين الاعتبار.

غياب النخبة أو فشلها في أداء دورها. فما هي النخبة ومن يمثلها؟ هل نعني بها النخبة السياسية أم الثقافية؟ هل ترغب الأولى حقا في تغيير ما يجري في بلداننا نحو الأفضل، أم أنّها لا تروم سوى تحقيق مصالحها، وتمكين أتباعها من مراكز النفوذ والسلطة، ولو على حساب مصير البلاد؟ وهل تملك الثانية قدرة على الدّفع إلى حل الصّعاب، وقوة الضغط على الحكام، أم أن دورها يقتصر على نقد الأوضاع القائمة والتنديد بما يحصل من انحرافات في تسيير شؤون الدولة؟

كالنخبة الثقافية والنخبة السياسية. وهي في وجه من الوجوه شريحة من الشعب لها مكانة في قمة السلم التراتبي، وهي التي تمسك عادة بالسلطة.

يفترض مصطلح النخبة مبدأ الأفضلية والاختيار أو الانتخاب. والعبارة في مقابلها الفرنسي مستمدة من اللاتينية electus اسم مفعول من الفعل eligere ومعناه اقتطف أو اختار. ومنها نتجت فكرة التفوق، لأن من نختاره هو الأفضل والأصلح والأحسن، أو هكذا يفترض أن يكون. نجد ذلك حتى في الأنظمة الديمقراطية، والحال أن الديمقراطية، نظريا على الأقل، تشترط المساواة بين سائر المواطنين، فالمساواة، طبيعية أو مدنية أو سياسية أو اجتماعية، هي مطمح كل المجتمعات ولكن لا الثورة الفرنسية ولا الثورة الروسية أفلحتا في تحقيق ذلك.

في الغرب مثلا، صارت الجدارة méritocratie مقدَّمة على المساواة، لأن المجتمعات الغربية صاغت تقنيات اصطناعية للترقي الاجتماعي: تقنيات مادية قائمة على الممتلكات، وتقنيات ثقافية قائمة على العلم والمعرفة. وصار الإفراط في الاستئثار بالوسائل الغايةَ المنشودة، ما جعل تلك التقنيات تتجمع بين أيدي النخبة (التي تملك المال أو المعرفة) فمن يملك الوسيلة يملك الغاية.

ولم يخل مفهوم النخبة، برغم بساطته الظاهرة، من تباين في تحديده، فهذه عالمة الاجتماع الفرنسية نتالي هاينيش مثلا تتحدث عن نظريتين ومفهومين للنخبة، مفهوم أحادي يعتبر النخبة فئة اجتماعية أحادية تستند إلى وظيفة السلطة، وهو مفهوم يتبناه ماركس وتشارلز ورايت ميلز وبورديو؛ ومفهوم تعددي تفقد فيه النخبة صفتها الأساسية لتصبح “نتوءًا” داخل عدة فئات اجتماعية، حيث تتميز برصيدها البشري أو برصيدها الثقافي.

بصرف النظر عن تعدد المفاهيم يمكن القول إن النخبة لغةً هي المختار من كل شيء، يصحّ ذلك على مستوى فئة اجتماعية، أو قطاع مهني أو صناعي أو مالي أو سياسي أو ثقافي، فالمقصود بها أشخاص لهم في مجال معيّن مركزٌ متقدّم حازوه بفضل تحصيلهم العلمي أو ثرائهم أو انتمائهم إلى القوى المتنفّذة والعائلات الحاكمة.

سواء استُعملت بصيغة المفرد “نخبة” أو بصيغة الجمع “نخب” فهي تعني “قشدة” القوم في مختلف المجالات، وعادة ما توضع في مقابل كتلة صمّاء من الأفراد، أو السواد الأعظم من المواطنين الذين ينتمون إلى طبقات شعبية، تقع بالضرورة في أسفل السلّم الاجتماعي.

لكنّها تأخذ عندنا معنى السائس والمسوس، حسب التقسيم الذي ارتآه عالم الاجتماع الإيطالي فيلفريدو باريتو، بين نخبة حاكمة ودهماء محكوم فيها.

فهل تنطبق صفة “نخبة” على من يحكمون تونس اليوم، وأغلبهم ليس له ما يميزه عن الدهماء سوى انتمائه إلى حزب وصل إلى السلطة بالرشوة وشراء الذمم والتلاعب بالصندوق واستغلال جهل العامة وفقرها؟ فلا تفوّقَ دراسيّا لأفرادها، ولا فكرَ سياسيّا، ولا مشروعَ تنميةٍ لإخراج البلاد مما تعانيه، ولا كاريزما تؤهلهم كي يُحسَبوا على النخبة. وقد رأينا واحدا ممن يزجّ بهم تجوّزًا ضمنها، بعد أن عُيّن وزيرا للخارجية في استهتار واضح بالأعراف الدبلوماسية، لا يعرف عاصمة تركيا، ولا طول سواحل بلاده، بل لا يفرّق بين كلام الجاحظ وكلام الله، رغم انتمائه إلى تنظيم ديني إخواني.

لئن اتُّفِق في مرحلة ما على الاستعانة بذوي الخبرة في المجالات العلمية والتقنية والمالية، أولئك الذين أطلِقت عليهم صفة “التكنوقراط”، فراج الحديث عن نخبوية الـ”ميريتوقراطيا” أي حكم ذوي الجدارة والاستحقاق، وسرعان ما بان فشلهم هم أيضا، لأنهم لم يتعودوا على تسيير مفاصل دولة ينهشها الفساد في كلّ زاوية؛ فإنّ ما آل إليه الأمر الآن يصحّ فيه ما وصفه الكندي ألان دونو بـالـ”ميديوقراطيا” أي نظام الرداءة، الذي أفرز نخبوية من نوع جديد، لا يجمعها سوى الجهل والفساد وضيق الأفق والدجل بكل معانيه.

نخبوية الجدارة أو الذكاء، تفترض حيازة أفرادها صفات مخصوصة، أهمها قوة الشخصية، والنباهة، والفكر الوقّاد، وبُعد النظر، فضلا عن التحلي بالأخلاق الفاضلة وإيثار الصالح العام على المنفعة الشّخصية، على غرار ما تصوّره أفلاطون، أوّل من وضع فلسفة سياسية عن النخب، حيث الفيلسوف/ الملكُ والحرّاس هم الشخصيّات المفاتيح لنخبة مهمتها ضمان العدل في المدينة وفرض احترام القوانين.

الثانية أي نخبوية الرداءة، فهي عنوان منظومة سياسية تشجع الرديئين، وتعلي من شأن من ليس لهم كفاءة، وبذلك تغيب الجدارة ليحل محلها تفضيل الأقارب والأنصار والموالين في مفاصل الدولة، وتمكينهم من شتى الوظائف دون خبرة ولا مؤهلات.

المثقفون، أو جانب منهم على الأقلّ، يصنَّفون هم أيضًا ضمن النخبة، ولكنهم ليسوا كلهم يعملون على التغيير ويدفعون إليه، إذ منهم فئة أرستقراطية تكتفي بمتابعة الأوضاع من أبراجها العاجية ونقدها في كتب ومجلات لا تلامس من يملك القدرة على قلب الطاولة وما عليها على رؤوس الحكام، أي الشعب. ومنهم فئة تناضل بالفكر والمراس، للتنبيه إلى الأخطاء، والتحذير من مغبة اتباع سياسات تضرّ باقتصاد البلاد، ولكن دورها، على أهميته، يظلّ قاصرا عن تغيير مجريات الأحداث، وإيقاف الانحدار إلى الهاوية.

أولا، لأنهم يتوسلون بخطاب يتوجه إلى النخبة السياسية أكثر مما يتوجه إلى الطبقات الشعبية، ويميلون إلى المكتوب أكثر من المنطوق. فما وزن خطاب ثقافي متعال، لا تفهمه الغوغاء، أمام قفّة انتهازي يغري بها أهل الجوع لتحقيق مأرب، ورشاوى مهرّب، ووسائل إعلام محترفِ تهرّبٍ جبائيّ وتبييض أموال؟

لمّا كان النّظام الديمقراطي يقوم على التمثيل النيابي الذي يمر عبر الاقتراع، فإن الحكم لا تقرره النخب المثقفة، بل عامة الشعب التي لا تميز أحيانا بين الغث والسمين

ثانيا، لأنهم لا يملكون الوسائل المادية الكفيلة بتحقيق حضور أوسع، وإيصال أصواتهم إلى كل الشرائح المجتمعية، ومن لم يملك عصب الحرب لا يحلم بكسب مآلها. ومن يملك الوسيلة يملك الغاية، كما أسلفنا.

ثالثا، بعض من يتصدر المشهد اليوم في مكافحة الفساد وفضح السياسات العقيمة، التي تخرب اقتصاد البلاد ومكتسباتها المادية والقانونية والتشريعية، كان يضفي على استبداد النظام البائد شرعية، ويغمض عينيه عن تجاوزات العائلة الحاكمة، ونهبها المال العام، واستئثارها بكل الصفقات. فأي مصداقية بعدئذ لمن كان بوق دعاية لذلك النظام، يرسم تصوره الثقافي، ويحرر خطبه، ويحظى بكرمه؟

ولمّا كان النّظام الديمقراطي يقوم على التمثيل النيابي الذي يمر عبر الاقتراع، فإن الحكم لا تقرره النخب المثقفة، بل عامة الشعب التي لا تميز أحيانا بين الغث والسمين، بين صاحب المشروع الذي يمكن أن يساعدها على الخروج من ضيقها، وبين من يزيّن لها المستقبل فلا تظفر منه بغير السراب. ففي غياب الوعي، من الطبيعي أن تفوق أصوات عشرة حمير صوت عالم، كما قال أينشتاين، ولنا في سيرة أكاديمي تونسي تقدّم مرة لمنصب رئيس شعبة دستورية أيام المخلوع، فمُني بالهزيمة أمام رجل أمّيّ، إذ كان الأكاديمي المثقف يخاطب عقول العامّة، بينما كان منافسه الأمّي يخاطب بطونهم، بذبح العجول والخرفان وإقامة المآدب.

وفي كل الأحوال، مخطئ من يؤمن بوجود نمط حياة عامة تكون فيه النخب السياسية والثقافية مهيأة لأخذ صوت الشعب بعين الاعتبار، وترجمة ذلك بكل شفافية في شكل قوانين وسياسات عامّة. لأن النخب، في شتى عناوينها، تعتقد أن الشعب ليس مطبوعا على إسماع صوته، بل جُبل على أن يكون محطّ أنظار النخبة بفروعها وقت الحاجة، فهي التي تزعم أنها تنير له واقعه في يومه وغده، ثمّ توجهه الوجهة التي ترتضيها له. قد توهمه، في هذه المناسبة أو تلك، بأنها تسمع شكاواه ومطالبه، ولكنها في الواقع تجد ألف علّة للتنصّل من وعودها، وتجاهُلِ ما يريده الشعب فعلا، لكونه في تصور تلك النخب غوغاء مشتتة، قصيرة النظر، عديمة الكفاءة، لا تعرف ما تريد بالضبط، ولا ترتيبَ أولوياتها بشكل عقلانيّ.

وإذا كان ماركس يفسر تلك الظاهرة اقتصاديا، ويرى أن الإمساك برافعة الآلة الاقتصادية يمنح الطبقةَ التي تمسكها السيطرةَ على جهاز الحكم، فإنّ فيلفريدو باريتو يعتقد أن كل المجتمعات نخبوية، ولا تختلف إلا في الأسلوب؛ فالنخب، سواء لجأت إلى الحيلة أو العنف، لا غاية لها إلا تكريس الهيمنة. بل إن الديمقراطية البرلمانية في رأيه ليست سوى خدعة موصوفة لما يسميه “حكومة أثرياء وغوغائية”.

* Apr 11, 2021
Jul 5, 2021


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق