الاثنين، 1 نوفمبر 2021

أمين معلوف: خلاص البشرية يمر عبر استعادة أيديولوجية . صراع الحضارات

Nov 15, 2019

نشر الكاتب اللبناني أمين معلوف «غرق الحضارات»، وهو دراسة دقيقة وواضحة، يبدأ من غروب العالم العربي، ليصل إلى نهاية أيديولوجيات القرن العشرين والانزلاق المدمر الذي وصل إليه في كل جهات وثقافات الكوكب. بعد مرور كل عقد من الزمن، ولمدة 30 عامًا، يطل الكاتب والأكاديمي أمين معلوف (بيروت 1949) على هاوية الذاكرة وعلى المقاطع المأساوية للتاريخ الحديث للخوض في قراءة مريرة للماضي، في محاولة لفهم التأسف على الحاضر وخصوصا تحديات المستقبل. إذا كان الكاتب اللبناني في عام 1998 توقّع في كتاب سابق «الهويات القاتلة» وجود قومية فاعلة سياسية بارزة اليوم، وفي عام 2009 توقف عند اضطراب العالم من خلال فقدان القيم اليوم بلا منازع، فهي الآن تعتبر مواضيع الساعة، مثل الآلية، الذكاء الاصطناعي، التدهور البيئي، التطرف الإسلامي والخطر الذي يتربص بالمشروع الأوروبي وهذا ما يملأ صفحات «غرق الحضارات» الصادر عن دار النشر (Alianza) 2019.

«التاريخ الكارثي للعالم العربي في النصف الثاني من القرن العشرين». انطلاقا من حلم لبنان المجهض في شبابه، إلى الجهادية اليوم، مرورا عبر مصر العربية الناصرية أو الثورة الخمينية الإسلامية، التي كان شاهدا عليها، يحلل معلوف العواقب المأساوية للصدام الحضاري، الذي تنبأ به صموئيل هنتنغتون، الذي نشهده اليوم، بدون أن يغفل تحديات المستقبل، «رغم أن غرق مجتمعاتنا هو شيء واقع لا محالة، البشرية لن تسمح بزوال كل الإنجازات التي تحققت».

في منتصف القرن العشرين، تبنت العديد من الدول العربية، بقيادة مصر جمـــــال عبد الناصر قومية اشتراكية أو شيوعية، لماذا فشل هذا النموذج ومعه مفهوم العروبة؟
□ إنها قضية معقده، ولكن بشكل عام، فشلت النزعة القومية العربية من وجهتين. السبب الأول هو أنها بنت نفسها على المعركة ضد الغرب، وهذا شيء طبيعي تماما، لأن المستعمرين كانوا الغربيين، ولكن ذلك دمّر التعايش. السبب الثاني أنها اعتمدت على النموذج السوفييتي، الذي كما رأينا في وقت لاحق في U.R.S.S. نفسها، لا يمكن إلا أن تفشل. فقد أفلست سياسيا لأنها كانت تقوم على السلطوية وتقييد الحريات، واقتصاديا لأنها كانت تقوم على شكل مركزي وبيروقراطي للغاية على اشتراكية غير فعاله للغاية، واضطرت قوى التغيير في العالم العربي إلى اعتماد نموذج معطل، فعانت من عواقب هذا الاختيار.

ومع ذلك، فإن هذا النموذج لم يكن هو السبيل الوحيد، مثلا «لبنان»، الذي كان مثالا على تعايش متعدد الأعراق والطوائف، لماذا فشل هذا النموذج في وقت كان بإمكانه أن يكون منارا في المنطقة؟ هل كانت قوة هذا التكامل هي سبب ضعفه؟
□ إن فشل التجربة اللبنانية يرجع إلى عوامل مختلفة تماما، وكذلك مضادة. وما كان كارثيا بالنسبة للبلاد هو أنها أرادت تنظيم علاقات بين مجتمعاتها العديدة بطريقة مشروعة، فقط على الورق، ولكنها في الواقع كانت مضرة تماما. كان النموذج يريد الاعتراف بوجود مختلف المجتمعات المحلية، وأعتقد أن ذلك لا غنى عنه، ولكن الطريقة التي تمت بها، مع نظام التحصيص، في دولة مركزية ضعيفة عانت بشكل متزايد من ضغوط قوية من طرف كل الجماعات، كل ذلك أدّى إلى الفشل وعدم القدرة على بناء شعور حقيقي من الانتماء، والولاء الوطني. وبعد عقود من الحرب، نشهد اليوم ظاهره في شوارع بيروت، وهي ثورة ضد هذا الوضع الراهن. يحتج الناس على أنهم انقسموا إلى مجتمعات محلية وتم استغلالهم، وآملُ ان يؤدي ذلك إلى تغيير كان ينبغي ان يحدث قبل 40 سنة.

في عام 1967، كانت بداية نهاية العالم العربي ذي الاتجاهات التحديثية، ماذا كان دور الحرب مع إسرائيل والهزيمة التي تلتها؟
□ كانت حرب 67 (التي يطلق عليها العرب حرب الأيام الستة) بداية لنهاية قومية عربية سعت، رغم انها ليست علمانية بحتة، إلى تحقيق المساواة بين جميع الطوائف، وفصل الدين عن الحياة السياسية. ومنذ ذلك الحين، أصبحت النزعة القومية تستند أساسا إلى الدين، وكان الصراع بين العرب والإسرائيليين عاملا حاسما في هذا التطور، لأنه كان ذريعة لجميع أولئك الذين لا يريدون تغييرا حقيقيا. ولكن الأخطر من الصراع نفسه هو السبيل للرد عليه. في كتابي أتحدث عن حالات مثل كوريا الجنوبية، التي لما يقرب من 70 تواجِه تقسيم البلاد مع ديكتاتورية شيوعية محطمة في الشمال، والتي تجعلهم في خطر الحرب الدائمة. ولكن هذا لم يمنعهم من الحسم بأن الأولوية هي التنمية والتعليم والتقدم… مشكلة العالم العربي هي اننا لم نقل في أي لحظة سنحرز تقدما وسنرى كيف نحل هذا الأمر. كان هناك هاجس مشلول للغاية ومُفقرٌ مستمر حتى اليوم.

■ منذ تلك السنوات بدا العالم العربي ينجرف تدريجيا نحو الأصولية، ولكن كيف وصل مِن «زمن الخليفة الحكم» ـ تعبير لجمال عبد الناصر- إلى هذا العالم العربي التقليدي والراديكالي الذي نراه اليوم؟

□ حتى الستينيات من القرن العشرين، كانت الحركات الإسلامية تقريبا غير موجودة وبدون أدنى تأثير على الحياة السياسية والاجتماعية. كان النجم اللامع هو عبد الناصر والأيديولوجية المسيطرة هي القومية العربية. الحقيقة أن عبد الناصر كان ذا نفوذ كبير في المنطقة، ولقرون، عانت المنطقة من فشل يوازي هزيمة 67، كل ذلك أدى لتشويه العروبة كرد فعل، وعادت المصداقية للحركات التي عانت كثيرا من عبد الناصر.

وفي رأي معلوف، «منذ 1977/1978 الإسلاموية أضحت من الصعب إيقافها، عندما جاءت تلك الحركة إلى السلطة في بلد كبير وقوي مثل إيران، وعندما اندلعت الحرب الأفغانية الأولى، حيث ولدت الجهادية، التي كانت في ذلك الوقت ضد الاتحاد السوفييتي ومن ثم، قليلا قليلا، أصبحت ضد الغرب. دورة من الأحداث التي كان يمكن التنبؤ بها، والتي يوجه فيها الكاتب اللوم لجميع الأطراف على قدم المساواة. «ساهم السوفييت في تدخلهم الأخرق وغير المنتظم في أفغانستان، وكذلك الغربيون، وخاصه الأمريكيين، من خلال تشجيع الجهاد لمواجهة الاتحاد السوفييتي». حول الجهاد الحالي، يرى أمين معلوف أنه رغم هزيمة الدولة الإسلامية «يمكن بزوغ حركات جديدة من النوع نفسه، فهذه الجماعات المتطرفة، غالبا ما تكون مستعملة من أطراف أخرى لأهداف سياسية، لكن يعتقد الكاتب الأكاديمي أن الغرب أعطى أهمية مبالغا فيها لهذه المجموعة. «لقد سقط الغرب في فخ الوهم الذي أوجدته تلك الحركة، التي اتخذت اسما مزيّفا جدا، كما لو كانت خلافة أو دولة، وهذا أمر سخيف. إنها ببساطة جماعة راديكالية، شبيهة بتنظيم «القاعـــدة»، التي بســـبب عدم استقرار العراق وسوريا استقرت في أحــــد أقاليم البلدين. وأعتقد ان الغرب أعطاها الكثير من الأهمية لتكون قادرة على إعلان انتصار ما في يوم من الأيام».
■ سنة 1979، سنة لها أهمية داخل كتابك، السنة التي تُسمى بالثورة المُحافِظة. ماذا يمثل لك أشخاص كآية الله الخميني أو مارغريت ثاتشر؟ وأي عالَم ظهر حينئذ؟

□ ظهر العالم الذي ما زلنا نعيشه الآن، والذي تشكلت أحداثه منذ 40 سنة مضت، تزايد التطرف الإسلامي وادعاءات الهوية، كما تجلي منذ ذلك العام، خاصة بعد الثورة الإيرانية، أصبحت يوما بعد يوم عاملا رئيسيا في رأس المال السياسي. وعلاوة على ذلك، ننظر إلى ثاتشر، ومن ثم ريغان في الولايات المتحدة، وصعود الليبرالية اقتصاديا وسياسيا، والحركات المحافظة والقومية، التي بدأت منذ ذلك الحين، حيث لا يمكن وقفها، والآن الدور نفسه يظهر في الهند والبرازيل وإيطاليا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة.

صحيح أنه في هذا العصر الذي حققت فيه الإنجازات التقنية تحسينات لا يمكن تصورها، أصبح العالم أكثر انغلاقا مما مضى. وهذا نتيجة للشعور السالف الذكر بالتهديد، وأيضا لسقوط نعمة القيم التقليدية لليسار الغربي، خاصه الأوروبي، الذي هو بالتأكيد في أزمة. فكرة العالمية واحترام تنوع الثقافات التي جعلت من أوروبا بوتقة انصهار الأجناس، التي كانت في العقود الأخيرة، قد اختفت لصالح الرأسمالية، التي بعد اختفاء الشيوعية أبانت عن أسوأ وجه لها، والأكثر استغلالا للإنسانية، وهذا أمر يحتاج إلى تغيير، ولا يمكن ان يحصل إلا من خلال الضغط الداخلي للرأي العام.
■ الاتحاد الأوروبي نفسه، مفهوم أوروبا، معرض للخطر، كما نراه الآن بخـــــوج بريطانيــا من «البريكست»، لماذا يتجه العالم بأسره نحو التجزؤ، لماذا نعود إلى القبيلة؟
□ إن هذه ظاهرة عالمية، واعتقد أن السبب الرئيسي يكمن في اختفاء النقاش الفكري بين الرأسمالية والشيوعية، الذي حدد جزءا كبيرا من القرن العشرين. وقد اُستعيض عن ذلك بادعاءات الهوية الساخطة والعنيفة في كثير من الأحيان، التي تُجزِّئ جميع المجتمعات، وهذا تراجع أخلاقي وفكري. وفي أوروبا فإِن ما تحقق بعد الحرب العالمية الثانية، كان أكثر دراماتيكية، بحيث كان مشروع الاتحاد الأوروبي هو الأكثر جمالا الذي أنتجه العالم في القرن الماضي. ويجب أن ينتصر. من أجل ذلك ينبغي اتخاد قرارات حاسمة، مثل المدى الذي ستُدمج فيه البلدان ودورها في العالم. وقد يدرك الناس والقادة ذلك ويسعون إلى تحويل المؤسسات، لكنها ستكون عمليه طويلة ومعقدة.

■ تختتم الكتاب بالتحذير، وإن كان مع لهجة من الأمل، فالأخطار المختلفة هي أكثر في الحاضر من تلك المستقبلية، مثل الآلية، وتغير المناخ، والذكاء الاصطناعي… هل مازال ممكنا العودة إلى الطريق الصحيح؟
□ أرى أنه من المستحيل تجنب فترة من الاضطرابات، والتي اسميها غرقاً. سيحدث، نعم، ولكن بعدها يجب البناء، لن يكون ذلك نهاية العالم. إذا فكرتُ في شعوري العميق، أود ان أقول إننا سنمضي فترة صعبة للغاية، ولكننا سنستعيد عافيتنا وسنحاول بناء الأشياء على أسس أفضل. نحن بحاجه إلى البقاء هادئين، لأنه يتعين علينا بناء عالم قادر على العمل.
ليس ثمة حلول إعجازية، لكن ينبغي التفكير في طرق جديدة للتعايش، وهو أمر مُلزم لنا. ليست هناك عوالم أخرى من غير عالمنا هذا لنتقاسمها، لذا ينبغي تنظيم العيش بيننا. وهذا ليس سهلا، ذلك يتطلب الاحترام المتبادل ورؤية للإنسانية، والهوية تحتاج إلى عمل أكثر. كما يتوجب علينا أن نحاول استعادة أيديولوجية عالمية، شيء يضم جميع الحضارات كما فعلت في السابق الاشتراكية والشيوعية، بدون السقوط في مطباتهما. إنه عمل هائل ينتظرنا، وقبل كل شيء، مفتوح للأجيال الشابة، التي ستعيش في السنوات الأربعين أو الخمسين المقبلة.

*

صموئيل هنتنغتون وأمين معلوف… من صراع الحضارات إلى غرقها!


قليلة هي الرؤى المتفائلة التي تحاول أن تزرع التفاؤل والطمأنينة في قلوب النّاس هذه الأيام، فقد غاب التفاؤل، للأسف الشديد، مفسحاً المجال للتشاؤم الذي يبرز من حين إلى آخر، على شكل تحذيرات من المستقبل الفظيع الذي ينتظر البشرية؛ التشاؤم هذا، إن دل على شيء، فإنما يدل على عمق الأزمة التي يعيش فيها العالم، وأن وعود الغرب في مستقبل جميل ورائع، كما وعدت الحداثة، أصبح في خبر كان، على كل المستويات والأصعدة، السياسية والاقتصادية والثقافية.

لقد أخفق النموذج الليبرالي، بلا ريب، في تحقيق وعوده، التي أطلقها، وأكدها أكثر، بمجرد سقوط النظام الشيوعي وتفتت الاتحاد السوفييتي؛ لم يتحقق الفردوس الأرضي الموعود، لأنّ العقل الإستراتيجي الأمريكي، كان يرمي إلى سلوك درب آخر، كي يتحقق حلمه في الهيمنة والسيطرة على العالم، لم تهمّه الديمقراطية، ولا الحرية، ولا حقوق الإنسان، كان همّه الوحيد، ولا يزال، هو السيطرة الغربية سياسياً واقتصادياً وثقافياً وعسكرياً، من ثمّ، لا يمكن أن يقبل أي استراتيجيّة لا تتقاطع مع هذا الهدف النهائي.

يبدو أن الإستراتيجية الأمريكية رأت في أطروحة صراع الحضارات لصموئيل هنتنغتون المبتغى؛ فهي تلبي رغبة الأمريكي الذي يريد إخضاع الآخر والسيطرة عليه، عن طريق التأسيس للصراع مع المختلف على أساس الثقافة والدين والإثنية، واعتبرت الحرب الطريقة المثلى في التعامل مع الخصم، كما أنّ هذه الأطروحة، وهذا هو الأهم، جعلت الغرب كتلة واحدة في مواجهة بقية العالم.

في الحقيقة، كانت هناك محاولات خجولة وشحيحة، على الرغم من النوايا الطيبة لأصحابها، لمقاومة الصراع بالتأسيس للحوار، من قبيل الحوار بين الحضارات، والحوار بين الأديان، غير أنّها باءت كلها بالفشل، ذلك أنّ المقاصد الحقيقة في مثل هذا الوضع، لا تتحقق بالحوار، بل بالصراع والصدام، فكان الحوار مجرد خطاب استهلاكي مواز، يجتمع من خلاله المجتمعون من أجل أخذ الصور وتبادل الاطراءات والمديح، لا أكثر ولا أقل، فضلا عن ذلك، ما كان للحوار أن ينجح في عالم موبوء بالكراهية والإرهاب والعنصرية، إذ أعطى ظهور «القاعدة» وأسامة بن لادن و«داعش» وغيرها من التنظيمات، التي تتوسل العنف في تحقيق أهدافها، لاسيما بعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول، الشرعية والمصداقية لأطروحة الصدام، فانتصر بذلك عالم هنتنغتون، وصدقت نبوءته.

اليوم بعد مرور ما يقارب الثلاثين عاماً من التأسيس لخطاب الصدام، تقف البشرية أمام خيارين لا ثالث لهما، إما رفض هذا الخطاب، وتفكيك ألغامه: العنف، الكراهية، الحروب، الفوضى، الخوف، الإرهاب والجوع، بالتالي، إنقاذ ما يمكن إنقاذه، أو سيكون مصير البشرية، في الأخير، إذا استمر الوضع على ما هو عليه الآن، الانتحار الكوني، وهذا الخيار هو الأقرب إلى الواقع، خيار عبّر عنه أمين معلوف مؤخراً بـ«غرق الحضارات». أمين معلوف روائي ومفكر لبناني، ولد في بيروت عام 1949، اعتلى كرسي الأكاديمية الفرنسية للآداب والفنون في 2011، له العديد من الروايات والأعمال الأدبية، منها على سبيل المثال: «ليون الأفريقي، سمرقند، الحروب الصليبية كما رآها العرب، الهويات القاتلة، اختلال العالم، غرق الحضارات».

معلوف وصراع الحضارات
يرى معلوف أن صراع الحضارات أمر لا يمكن تفاديه، على الأقل في الوقت الحالي، وهذا ما يزيد، لسوء الحظ، من أحزان البشرية، ويضاعف من مآسيها وآلامها؛ فالعالم، كما هو معروف، بعد سقوط جدار برلين، انتقل من الانشطار الأيديولوجي إلى الانشطار على أساس الهوية، وهو هنا، بلا شك، يتفق مع هنتنغتون، إذ يقول: «كان (هنتنغتون) على حق في نقطة معينة، حيث إن معاصرينا باتوا يتفاعلون، أكثر فأكثر، وفق انتمائهم الديني»، معزراً رأيه هذا، بأن الأرثوذكسية عادت إلى روسيا بشكل لافت، والاتحاد الأوروبي يعتبر نفسه، حتّى إن أنكر، تجمعاً لأمم مسيحية، كما أن دعوات الجهاد تدوي في البلدان الإسلامية، وعليه، يقول معلوف: «لا يكون من غير الحصيف وصف عالم اليوم بأنه ساحات حضارية تتجابه». وإن كان معلوف يتقبّل أن تتخذ هذه النظرية كآلية في تفسير صراعات الحاضر وقراءة أحداثه وحروبه، حيث إنها ساهمت بالفعل «بتحسين فهم الأحداث التي أعقبت سقوط جدار برلين»، عندما صارت المجتمعات البشرية «تتحرك وفق انتماءاتها الدينية»، لكنه، في المقابل، يرفض أن تكون نظرية عامة للتاريخ، فتُتَخذ تبعا لذلك مفتاحاً لفهم صراعات الماضي أو أداة لاستشراف المستقبل؛ فالتفسير على هذا النحو سيكون قاصراً، ولا يحقق أي نتيجة مرجوّة، بل قد يضلل الباحث عن الحقيقة؛ فيتيه في الطريق ومنعرجاتها، في هذا الشأن يقول معلوف: «على أنّ أنصار هذه النظرية يضلون الطريق، في رأيي، حين ينطلقون من رصدهم للحاضر ليبنوا نظرية عامة للتاريخ، كأن يشرحوا لنا مثلا أنّ الأعلوية الحالية للانتماءات الدينية هي الحالة الطبيعية للجنس البشري.. أو أن المجابهة بين الساحات الحضارية هي المفتاح الذي يسمح لنا بفك رموز الماضي واستباق المستقبل».
على هذا الأساس، يصل معلوف إلى نتيجة مفادها أنّ «كل نظرية للتاريخ هي بنت زمانها»؛ فهي قد تصلح كأداة لفهم الحاضر وحوادثه، لكنها تفشل لا محالة في تقديم أي فائدة لفهم أغوار الماضي، بل قد تكون تفسيراتها تقريبية ومتحيزة، أمّا إذا قُدمت لاستشراف المستقبل، فتفسيراتها تكون «مجازفة، وأحياناً مدمرة». زيادة على ذلك، أنّ محاولة اختزال النزاعات الحالية في أنّها مواجهة بين ست أو سبع حضارات، هو اختزال لجوهر الصراع في جزئيات معينة، ربما الفائدة الوحيدة منها، على حد تعبير معلوف، هي «إضاءة منشطة للفكر»، من خلال تلك النقاشات والحوارات الدائرة، لكنها لا تساعد على فهم النزاعات الكبرى في التاريخ البشري؛ فليس كل صراع هو مجابهة بين الحضارات، فقد تكون الغاية منه الهيمنة والسيطرة، حروب أمريكا مثلا، بالتالي، فمن باب الحصافة إضافة مفاتيح أخرى قد تساهم بشكل أو بآخر في فهم جوهر الصراع الحقيقي. وعليه، من بين الأخطاء التي وقع فيها هنتنغتون أيضاً، وفقاً لمعلوف، أنه حمّل نظريته فوق طاقتها، عندما اعتقد بأن الناس «سيجتمعون داخل باحات حضارية واسعة ستقاتل بعضها بعضاً»؛ فالعالم الإسلامي اليوم، على ما يبدو، لا يشكل معسكراً، وإنما ميدان معركة، كما أنّ الاتحاد الأوروبي يسير بخطى حثيثة إلى التشتت والفرقة، أي أنّ ما يميز هذا العصر هو «التجزؤ والتحلل»، لا الوحدة والتكتل.
طريق الخلاص
هنا لا بد من لفت النظر إلى نقطة في غاية الأهمية هي أن صعود مثل هذا الخطاب في هذا الوقت بالذات هو نتيجة «تآكل كل ما يشكل الكرامة الخلقية لحضارتنا الإنسانية»، وذلك بسبب الميل العالمي إلى «كره الأجنبي، والتمييز العنصري، والتنكيل الإثني، والمجازر المتبادلة»، لكن السؤال الذي يطرح: كيف السبيل إلى إرجاع تلك القيم التي تعيد ترميم الكرامة الخلقية للحضارة الإنسانية؟ إن إدراك البشرية بحسب معلوف لمصيرها المشترك، واجتماعها حول قيم أساسية واحدة، ومثابرتها على تنمية التعابير الثقافية الأكثر تنوعاً، ليس بمعنى ذوبان الإنسانية في قالب واحد، بل على العكس من ذلك، يجب أن تحافظ «على كل لغاتها، وكل تقاليدها الفنية، وتقنياتها، وحساسيتها، وذاكرتها، ومعرفتها»، ذلك أنّ في التنوع إضافة، وفي الاختلاف إثراء، كل ذلك من شأنه أن يعيد الكرامة الخلقية إلى الحضارة الإنسانية. هذا هو طريق خلاص البشرية الذي يرسمه معلوف؛ قبول الآخر، تواصلا وعيشاً، بغض النظر عن دينه وهويته وثقافته؛ فالمصير المشترك للبشرية يحتم ذلك، أو الاستسلام أمام تيار الصراع الجارف، تتقدم الهويات، وتجعل من البشرية قبائل متناحرة ومتقاتلة، فيؤدي ذلك إلى اختلال العالم وحضارته، والنتيجة في التحليل الأخير «غرق الحضارة».
غرق الحضارات
تأتي أطروحة «غرق الحضارات» لتؤكد مرة أخرى الموضوعات القلقة التي أثارها معلوف منذ قرابة عشرين عاماً، لما أثار ظهور الهويات مبرزاً طابعها الدموي والتناحري، ما أدّي، والحال هذه، إلى اختلال العالم الذي يتمظهر أساساً في غياب النظم الاجتماعية العادلة، الأطروحة هذه، وإن كانت مقلقة وصادمة، لكنها، في الوقت نفسه، كاشفة للمخاطر والانزلاقات التي ستؤدي لا محالة إلى غرق الحضارة، يقول معلوف: «إننا على عتبة غرق شامل يؤثر في جميع جنبات الحضارة».
يؤكد معلوف في هذه الأطروحة أنّ العالم يتغير إلى الأسوأ، بسبب جملة من «التحولات الكبرى»، ما يؤثر سلباً في حضاراته المختلفة، فكل دول العالم اليوم تعاني «إشكاليات كبيرة»، حتّى تلك التي كانت إلى وقت قريب تمثل نموذجاً يحتذى، كالولايات المتحدة الأمريكية أو الاتحاد الأوروبي، بالتالي، فالسقوط شامل، والغرق لن يستثني أحداً، حيث سيكون مصير البشرية كسفينة «تيتانيك»، مادام العالم تمزقه التوترات الهويّاتيّة، مستمراً في تقديسه لأنانية الأمم والجماعات، رافضاً لفكرة الحوار والجوار وثقافة العيش المشترك، فالعالم، وفقاً لمعلوف، قد سلك «طريق القبلية، الذي لم يعد فيه أي نظام دولي جدير بهذا الاسم، صار حل المشكلات التي تطرحها العولمة أو تطور التكنولوجيات أو تنمية الصين أو الهند، مهمّة أصعب بكثير».
في الأخير، على الرّغم من تشاؤمية الطرح وسوداويته إلا أنّ معلوف يُبقى باب الأمل مفتوحاً، بشرط أن تنجح البشرية في «لمِّ الشتات، وبناء رؤية مغايرة إلى العالم»، تنبذ الأنانية، والتمركز حول الذّات، ساعيةً، في الوقت نفسه، إلى التقارب والتلاقي والعيش المشترك، عندئذٍ فقط ستتفادى الحضارات الغرق.
*

حضارات العالم... هل هي حقاً على وشك الغرق؟

أمين معلوف يدق ناقوس الخطر 2019
هاشم صالح 

 أمين معلوف أن يرفع معنوياتنا ويعطينا جرعة تفاؤل في هذا الزمن العصيب فإذا به يزيدنا تشاؤماً على تشاؤم. كنا نتوقع منه أن يشد من أزرنا نحن سكان سوريا ولبنان والمشرق العرب (منطقته الأصلية العزيزة على قلبه) فإذا به يسد علينا كل النوافذ والأبواب ويقول لنا إننا سائرون نحو الهاوية.
«قاربنا يغرق (المقصود قارب البشرية أو الحضارة الغربية على الأقل). ولم يبق لنا إلا أن نستسلم للأمور ونغرق معه بكل أناقة». ** كتاب انتحار الغرب **
 هنري ليفي في كتابه «الإمبراطورية والملوك الخمسة»؟ (المقصود الإمبراطورية الغربية الأميركية العظمى، وملوك العرب والفرس والترك والصين وروسيا الذين يريدون أن ينهشوها ويحلّوا محلها).
سفينة البشرية كلها سائرة نحو الغرق لا محالة تماماً كما حصل لسفينة «تيتانيك» الشهيرة عام 1912. هكذا تجدون أننا ما إن خرجنا من نظرية «صدام الحضارات» لصموئيل هانتنغتون حتى دخلنا في نظرية «غرق الحضارات» لأمين معلوف. سوف أركز نقدي على رأيه بمشكلة الأصولية التي تشغل العالم اليوم.
يعترف أمين معلوف بأن الأصولية الإخوانجية الداعشية هي المشكلة الأساسية ليس فقط للعالم العربي وإنما للبشرية كلها. بل ويصل به الأمر إلى حد القول بأن الظلمات عمّت العالم كله وغطّته عندما انطفأت أنوار لبنان والمشرق العربي. ولكن التفسير الذي يقدمه لظاهرة الأصولية الداعشية وغير الداعشية لا يرتفع إلى المستوى المطلوب. إنه تفسير صحافي، متسرع، أو سطحي أكثر من اللزوم
يلزمنا هيغل عربي أو كانط عربي يشرح لنا ماذا يحصل بالضبط، وفي العمق! وقد استنتجت بعد أن قرأت صفحاته عن الموضوع ما يلي: يمكن أن تكون كاتباً أدبياً كبيراً دون أن تكون مفكراً عميقاً.
فهو يعتقد أننا كنا نعيش عصر التنوير والتسامح أيام طفولته (وطفولتي أنا أيضاً لأنه يكبرني بعام واحد فقط مع الفارق في الطبقة الاجتماعية، فهو ينتمي إلى أعلى السلم في حين أنتمي أنا إلى أسفله). كنا نعيش العصر الذهبي إبان مصر الليبرالية حتى ظهور عبد الناصر، وإبان العهود اللبنانية المتعاقبة حتى انفجار الحرب الأهلية عام 1975. ولا ريب في أنه محق في ذلك عندما كان لبنان سويسرا الشرق. وعندما كانت بيروت مركز الثقافة والمثقفين ودور النشر والصحافة التعددية الحرة، إلخ. وعندما حلّت بيروت محل القاهرة كعاصمة للتنوير العربي. كل هذا صحيح. ولكنه أخطأ أو وقع في الأدلجة عندما استنتج أنه لم يكن للطائفية من وجود يُذكر آنذاك! فهو يقدم صورة وردية عن الواقع، إذ يقول ما معناه: كان الناس متعايشين آنذاك بكل وئام وسلام على الرغم من اختلافاتهم العرقية والدينية والمذهبية والطائفية. لقد أذهلني هذا الكلام بل وجعلني أخرج عن طوري. عندئذ عرفت أنه ليس مفكراً عميقاً أبداً. 
ولهذا السبب اعتبرت الكتاب سطحياً أكثر من اللزوم وأقلعت عن فكرة الكتابة عنه على الرغم من أني اشتريته بكل تلهف في اليوم التالي لصدوره وأنا أتوقع أني سأجد فيه الكشوفات الرائعة غير المسبوقة. كنت أتوقع أني سأجد فيه ضالّتي. ولكن خاب ظني!
 فقد رفع رأسنا نحن العرب وبخاصة السوريين واللبنانيين وعموم المشارقة. فهو العربي المشرقي الوحيد الذي وصل إلى الأكاديمية الفرنسية واحتل كرسي العالم الأنثربولوجي الشهير كلود ليفي ستروس. وقد قرأت له سابقاً عدة كتب واستمتعت بها كل الاستمتاع وبخاصة كتاب: أصول (عائلية). وهو عمل أدبي مكتوب بأسلوب رائع، جميل، أخّاذ، وأكاد أقول بوليسياً! وبالتالي فأمين معلوف فنان من الطراز الأول ولا يستهان به على الإطلاق. وإنها لَمتعة حقيقية أن تقرأ هذا الكتاب الجديد الذي يشبه المذكرات الشخصية ليس فقط له هو وإنما أيضاً للمنطقة كلها.
ولكني أقول وأكرر القول: إنه ليس مفكراً كبيراً. وأنا أود فيما يخص تشخيصه للأزمة العميقة للعالم العربي والإسلامي كله أن أقول له ما يلي: لا ينبغي أن ننظر إلى المجتمع في قشرته الظاهرية السطحية يا أمين معلوف إذا ما أردنا أن نفهم ظاهرة كبرى كظاهرة الأصولية. وإنما ينبغي أن ننزل إلى الطبقات التحتية. ينبغي أن نحفر أركيولوجياً حتى نصل إلى أسفل طبقة، إلى أعمق نقطة. فهذه الظاهرة الأصولية الإخوانجية الداعشية خارجة من أعماق أعماقنا تماماً كالزلازل أو البراكين المتفجرة. ولهذا السبب كرّست لها كتاباً كاملاً بعنوان «العرب والبراكين التراثية». وبالتالي فإذا لم تكن الطائفية موجودة في عهد طفولتك وعصرك الذهبي الذي تحنّ إليه بكل حُرقة ولوعة، فهذا لا يعني أنها لم تكن كامنة في الأعماق أو نائمة تنتظر فقط الشرارة أو اللحظة المناسبة للانفجار. وهذا ما حصل لاحقاً بالفعل. وإذا كنت محظوظاً تنتمي إلى علية القوم والطبقة البورجوازية الثرية التي لا تشكل أكثر من عشرة في المائة، فهذا يعني أن بقية الشعب من فلاحين وعمال وموظفين وطبقات شعبية متواضعة كانت تشكّل تسعين في المائة. ولهذا السبب فشل العصر الليبرالي العربي الجميل ذو القاعدة الاجتماعية الصغيرة الضيقة. وحل محله العصر الاشتراكي الآيديولوجي على الطريقة الناصرية أو البعثية أو حتى الشيوعية الماركسية. ولكنّ ذلك لم يدم طويلاً. فبعد هزيمة 5 يونيو (حزيران) 1967 وموت زعيم القومية العربية جمال عبد الناصر عام 1970 حل محل الجميع التيار الجارف للإسلام السياسي والإخوان المسلمين. نقول ذلك على الرغم من أن هذا التيار الأخير أصبح مرشحاً بدوره للانحسار والزوال عما قريب...
: ينبغي العلم بأن الإسلام لم يمر بمرحلة الغربلة التنويرية الكبرى على عكس المسيحية في أوروبا. ولهذا السبب فإن الصيغة الأصولية التكفيرية المتحجرة للتدين لا تزال مهيمنة عليه.
 وسوف تظل مهيمنة ما دام تراثنا الإسلامي لم يخضع لمنهجية النقد التاريخي التي خضع لها التراث المسيحي والتي قاومها رجال الدين المسيحيون طيلة 300 سنة متواصلة (من أيام سبينوزا وريشار سيمون في القرن السابع عشر إلى وقت انعقاد المجمع الكنسي اللاهوتي التحريري الكبير المدعو بالفاتيكان الثاني عام 1962 - 1965)
. هذه أشياء ينبغي أن تقال لكي يفهم الناس ماذا يحصل بالضبط في مشرقنا العربي المنكوب بالويلات. الحروب المذهبية الكاثوليكية - البروتستانتية التي اكتسحت أوروبا بدءاً من القرن السادس عشر لا تختلف في شيء عن الحروب المذهبية السنية – الشيعية التي تكتسح مشرقنا العربي حالياً.
 الفرق الوحيد هو أن الأولى حصلت قبل ثلاثمائة أو أربعمائة سنة في حين أن الثانية تحصل تحت أعيننا في بدايات القرن الحادي والعشرين. وهي مسافة التفاوت التاريخي بين العرب والغرب، أو بين الإسلام - والمسيحية الأوروبية. كل هذا كنت أتوقع أن أجده في كتاب أمين معلوف
هناك احتقانات تراثية متراكمة على مدار أكثر من ألف سنة متواصلة. وهي تنفجر في وجوهنا الآن كالقنابل الموقوتة. وأكاد أقول: حسناً تفعل! كل ما هو مكبوت ينبغي أن ينفجر ويشبع انفجاراً لكي يتنفس التاريخ الصعداء، لكي نتحرر من أنفسنا، من أثقالنا، من تراكماتنا، من طائفيتنا ومذهبيتنا. ثم لكي نتحرر بشكل خاص من مفهومنا القروسطي الإخوانجي الظلامي الداعشي القديم للدين والتدين. وهو مفهوم يسيطر على كل مناحي حياتنا من المهد إلى اللحد. كما أنه يسيطر على كل برامج التعليم العربية من المدرسة الابتدائية إلى الجامعات، ومن الجوامع إلى الفضائيات. كلنا غاطسون في ظلاميات القرون الوسطى وعقلية العصور الغابرة من أقصى العالم الإسلامي إلى أقصاه. وهنا تكمن المشكلة العالمية رقم واحد الآن. وسوف تهتز الأرض كلها قبل أن تنحلّ!
نحن ندفع الآن ثمن تصفية كل هذه الحسابات التاريخية دفعة واحدة. من هنا شراسة المرحلة الحالية وخطورتها. ولكن كل ذلك لا يخطر على بال أمين معلوف لحظة واحدة. ولهذا السبب أقول إنه ليس مفكراً عميقاً. «فسماء ملبدة بالغيوم السوداء لا يمكن أن تنجلي قبل هبوب الإعصار» كما يقول شكسبير. ولهذا السبب أقول إن اللحظة التي نعيشها الآن هي لحظة «تقدمية» في منظور فلسفة التاريخ وليست «تراجعية» على عكس ما توحي به المظاهر وعلى عكس ما يتصور معلوف. أقول ذلك على الرغم من فجائعيتها وكوارثها وضحاياها الذين يتساقطون بعشرات الآلاف وربما الملايين. فهذه هي الضريبة الكبرى التي ينبغي دفعها لكي يستيقظ العالم العربي يوماً ما ويخرج من ظلمات العصور الوسطى إلى أنوار العصور الحديثة.

 أمامي كتاب «الفوز المبين للأنوار» أو «الانتصار الكاسح للأنوار» لأستاذ الفلسفة وعلم النفس في جامعة هارفارد ستيفن بنكير. هذا الكتاب الذي هز الغرب هزاً أثلج صدري وأدخل الطمأنينة إلى قلبي. وهو يعد رداً مفحماً على جميع التيارات الأصولية والغوغائية والرجعية الكارهة للأنوار والحضارة الحديثة

فهو يظل شعلة تنويرية عربية على الرغم من كل الأخطاء التي ارتكبها في تصوراته أو منظوراته لفلسفة التاريخ. إن أستاذ جامعة هارفارد ستيفن بنكير يبرهن بالدليل القاطع والإحصائيات الدقيقة على أن الأنوار نجحت في مهمتها وأسّست أعظم حضارة على وجه الأرض. كما يقول إننا نعيش الآن أجمل لحظات التاريخ بفضل انتصار الأنوار الفلسفية والعلمية والسياسية. فمعدل العمر تضاعف قياساً إلى الماضي من 40 سنة إلى 80 سنة، وتقدم الطب قضى على معظم الأوبئة التي كانت تكتسح البشرية اكتساحاً، والفقر المدقع نزل من 90%عام 1820 إلى 10% حالياً. وهذا أكبر تقدم حصل في التاريخ ولكن لا أحد يراه أو ينتبه إليه. والأمية تراجعت بنسبة هائلة حتى في مجتمعات العالم الثالث. فمثلاً في عام 1870 كانت نسبة التعليم في العالم العربي بمشرقه ومغربه (1%) فقط! والآن أصبحت ماذا؟ 75% مع تدرجات متفاوتة من بلد إلى آخر. لاحِظوا الفرق. وموت الأطفال في عمر الزنابق كان عام 1950: 33% والآن أصبح 5% فقط. وأما في أوروبا وأميركا الشمالية فقد نزل إلى الصفر عموماً. وكل ذلك بفضل تقدم الطب والمعالجات وانتشار العيادات الطبية والمستشفيات في كل مكان. ثم يقولون لك إن التنوير لا معنى له! وقِسْ على ذلك كثيراً... فهل هذه حضارة تغرق؟ وكل ذلك تحقق بفضل انتصار الأنوار التي ابتدأت في القرن الثامن عشر على يد فولتير وديدرو وكوندورسيه وكانط، إلخ... والمثل العليا للأنوار في رأي المؤلف تتمثل في ثلاث كلمات فقط: العقل، والعلم، والنزعة الإنسانية. فكل الدول التي اعتمدت العقل والعلم أداةً أساسية للتخطيط وتطوير المجتمع نجحت نجاحاً باهراً في تحقيق التنمية والسعادة لشعوبها. **القبانجي**

ولكن من الأفضل بالطبع الاطلاع عليه في نسخته الأصلية الإنجليزية:
Steven Pinker: Enlightenment Now: The case for Reason ; Science,Humanism, and Progress.Viking.2018

لا أعتقد أن أمين معلوف يجهل كل هذه الفتوحات الفكرية. فهو مفكر مستنير وأديب كبير

أما إدغار موران فقد بلغ الثامنة والتسعين وهو يرفض أن يعترف بأنه يعيش مساء حياته! ومؤخراً صرح بأن الموت قد يباغته في أي لحظة ولكنه ليس مهيئاً له بعد ولا مستعداً لاستقباله والترحيب به. وقد كدت أموت من الضحك عندما قرأت هذا التصريح. ولكني لا أملك إلا الإعجاب بمدى شجاعته وتفاؤله..

*

صراع الحضارات كسياسة خارجية للدول

فكان في عدم وجود نسق عالمي يتحدى الديمقراطية الليبرالية بعد سقوط الأنموذج الشيوعي الإشتراكي فرصة ذهبية لعولمة مفاهيم العلاقات الدولية من المنظور الأميركي، وهذا هو جوهر الصراع بين الحكومات في كل من الصين وروسيا وأميركا، حيث تمثل
الديمقراطية سياسة توسع جيواستراتيجي تهدد السيادة الوطنية للصين وروسيا، وخاصة بعد صعود اليمين المتطرف في الدول الغربية الديمقراطية وبالتالي فشل الديمقراطية في عقلنة المنظومة الاجتماعية وبروز جماعات تقوم على الهوية والقومية والأبعاد الدينية المتطرفة وزرع النظم الديمقراطية في ثقافات لا تعبر الديمقراطية عن مسلمات تلك الشعوب وعاداتهم وقيمهم المتأصلة في مورثهم الشعبي ما أدى بدوره إلى فوضى خلاقة حيث ينتشر الفساد وسوء إدارة الموارد وثروات الدولة وسيطرة النخب على الاقتصاد وغيره من محاور ومكونات الدولة وتفشي الصراعات الأثنية وربط الديمقراطية بالطبقة الوسطى، وبالتالي أصبحت الديمقراطية العرجاء والنسبية أداة ضغط وتحكم بالشعوب والحكومات والثروات والموارد والأهمية الجغرافية لتلك الدول.

من جهة أخرى، من المهم أن يستقل عالمنا العربي عن التبعية الفكرية للغرب وعدم الركون غير النقدي إلى آراء المفكرين والمستشارين الأجانب للحكومات العربية وكبرى مؤسساتها، وتسليط الضوء على المفكرين والاستراتيجيين والمستشارين الذين يمثلون المجتمع المحلي، حيث إنه في الغرب والدول الكبرى على وجه العموم تُعد مراكز البحث والدراسات والتفكير ودعم القرار والجامعات والمؤسسات الحكومية الاستراتيجية الممثلة بمواطني تلك الدول الداعم الأساسي في صناعة توجهات تلك الدول.

وبدورها تهيمن على السياسة الخارجية للدول الكبرى فكرة الأهمية العالمية لثقافتهم بالنسبة لبقية العالم، وقد أتاح التطور المستمر لوسائل التفاعل بين الناس، والتوسع المطرد في أشكالها، وموثوقية الاتصالات واستقرارها، فرصاً غير محدودة للتفاعل بين الثقافات من دون وساطة تقريباً، وأصبحت تدفقات الهجرة واسعة النطاق في العالم الافتراضي تصب في تطور النظام العالمي ووضع الدول الكبرى أهدافاً سياسية لها تكون عملية وقصيرة الأجل، والهدف الرئيس منها هو ضمان الموقع العالمي الرائد لها وتطبق الدول الديمقراطية من هذا المنطلق غالباً ممارسات تكون غير ديمقراطية، بل رجعية، وقوى قومية، وقوى محافظة متطرفة لا تجعل العالم مكاناً أكثر راحة واستقراراً وأمناً.

 Jul 9, 2021Apr 13, 2021*

غرق الحضارات" الكتاب الفائز كُتب قبل الجائحة لكنه يتماشى مع الواقع الحالي والتطورات التي نعيشها.

مُوحيا لنا أن الحضارات يمكن أن تغرق فجأة مثلما حدث لـ“التيتانيك”.
 سبب إخلالات حركة النهضة العربية التي بدأت في منتصف القرن التاسع عشر، هي أنّ المجتمعات العربية لم تتمكن من الاستجابة الفعلية لدعوات الإصلاح والتحديث بل ظلت مشدودة إلى الماضي، وبعد نيلها لاستقلالها، وخلاصها من الهيمنة الاستعمارية، صعدت إلى كرسي السلطة أنظمة متسلطة وفاسدة حكمت الشعوب بالحديد والنار. وقد زاد ذلك في تعميق الجراح والأزمات، وسمح للحركات الأصولية المتطرفة باكتساح المجتمعات العربية.

يعتقد معلوف أن المفكر الأميركي هنتنغتون صاحب نظرية “تصادم الحضارات” كان على حق في نقطة معينة، وهي أن الشعوب غالبا ما تستند راهنا إلى الدين في خلافها مع المخالفين لها في العقيدة. إلاّ أنه لا يتفق معه في العديد من النقاط الأخرى إذ أن العالم الإسلامي مثلا لا يجسد مجموعة متماسكة ومتوحدة مثلما يعتقد هنتنغتون، وإنما يشكل بالأحرى ميدانا للمعارك والحروب بين الإخوة الأعداء، وفيه تقوم الحركات الأصولية المتشددة بقتل مسلمين باسم الإسلام.

في كتابه يتعرض معلوف لما سماه بـ”الردة الكبرى” في العالم. فمنذ بداية السبعينات بدأ العالم الغربي، صانع الحضارة الحديثة، يشهد تدهورا على مستويات متعددة، وشرعت الأحزاب والحركات اليسارية والثورية في التراجع أمام الأحزاب اليمينية والمحافظة التي وصلت إلى السلطة في بريطانيا مع مارغريت تاتشر وفي الولايات المتحدة مع رونالد ريغن.

أما في العالم الإسلامي فقد سمحت الثورة الإيرانية لرجال الدين المتشددين بالصعود إلى كرسي السلطة. وكل تلك التحولات السريعة والفجئية أحيانا أدت إلى الاضطرابات الخطيرة التي يواجهها العالم راهنا، والتي قد تغرق العالم في الفوضى القاتلة والمميتة إن لم تتوصل البشرية إلى إيجاد الحلول الضرورية والناجعة في أقرب وقت ممكن.

 كتابه الأول “الحروب الصليبية كما رآها العرب” الذي تناول فيه الصراع بين الشرق العربي – الإسلامي والغرب المسيحي من وجهة نظر طريفة وذكية، إلى كتابه “غرق الحضارات”.

عكس معلوف في مؤلفاته نشأته المتعددة الثقافة خصوصا ولادته في لبنان في فبراير العام 1949، وعمله في المجال الصحافي قبل هجرته إلى فرنسا بعيد اندلاع الحرب الأهلية في بلاده عام 1975.

*

هنتنغتون في كتابه "صراع الحضارات" أن المعركة القادمة هي بين الرأسمالية والشرق أي الإسلام، ولكن ليس الإسلام الأيديولوجي؛ إنما هويته المترسخة، ولا بد من خلع تلك الهوية حتى يرضخ في نهاية المطاف إلى دخوله العالم الرأسمالي بشكل نهائي ويصبح العالم الإسلامي كله عالم مستهلك للمنتجات الغربية.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق