أدب الرحلة الأوروبية والوساطة الاستشراقية.. الشرق في عيون السرد الألماني
لماذا لهم استشراقيون يعكفون على دراستنا وليس لنا استغرابيون؟
د. محمد أركـون، ود. مكسيم رودنسون، ود. برنـارد لويـس، ود. كلود برنار ردًا على أفكار نشرت حول ظاهرة الاستشراق وإن كانت رؤية أولئك المفكرين الاستشراقيين تقوم على فرضيات واحتمالات وليست على أمور علمية، إلا أن الاستشراق فرض نفسه كظاهرة وليس كعلم داخل الفضاءات الجغرافية العربية الإسلامية، وأخذ صورًا متباينة إلا أنه لم يجتذب إليه قطاعات اجتماعية واسعة.
المستشرق البريطاني د. هاملتون جب وخاصة كتاب "الاتجاهات الحديثة في الإسلام".
فالكتاب يعتمد على التحليل واستخلاص النتائج أكثر من الاعتماد على السرد التاريخي وهو في الأصل ست محاضرات ألقاها د. هاملتون في جامعة شيكاغو عام 1946م ضمن برنامج محاضرات عن الأديان المقارنة.
الفصل الأول عن منابع الفكر الإسلامي القرآن والسنة والإجماع.
الفصل الثاني يتحدث عن الاتجاهات والحركات الفكرية في الإسلام بين القرن الثاني عشر والتاسع عشر الميلادي "الخامس والثاني عشر الهجري"، ثم تأتي الفصول الثلاثة التالية دراسة متكاملة عن العصرانية في الإسلام، ويحلل في الفصل الأخير مستقبل الإسلام في العالم وبخاصة مستقبل التجديد.
أكثر الكتب إثارة للمشاعر، فبعد أن يرصد التطورات الأخيرة في المسيحية من القرن التاسع عشر والعوامل التي أدت إلى ظهور الحركة التجديدية في الغرب يقول: "يجب علينا أن ننتظر تطورات في حركة التفكير الإسلامي بشكل موازٍ للتفكير الغربي في القرن التاسع عشر، إذ إن الأوضاع التقليدية في الإسلام بوجه عام مشابهة لأوضاع الدين المسيحي في القرن الثامن عشر في أوروبا، وأن انتشار العلمانية في المئة سنة الأخيرة عرضت بعض النخب في العالم الإسلامي لنفس التأثيرات التي دفعت إلى ظهور الفكر الديني الغربي الحديث، وإذا كانت نفس الأسباب تؤدي إلى نفس النتائج فيجب علينا أن نتوقع حدوث تطور مماثل في الفكر الديني الإسلامي".. فهل تحقق توقعه؟،
وجه الخطأ والقصور في منهج د. هاملتون وكأنه يرغب بلوغ نتيجة مرسومة سلفاً هذا الظن المتهافت قامت عليها تحليلاته واستنتاجاته عن الإسلام، ولم يتوقف عند هذا الحد في تحليلاته فهو يطالب باستخدام الفكر الحديث في تفسير المصادر الإسلامية بعيداً عن آراء الفقهاء والعلماء.
دون أن يكون قادرًا على تصور الفرق بين التفكير الإسلامي والتفكير المسيحي الأوروبي.
ومع وضوح خطأ منهج د. هاملتون في التفكير إلا أن تطبيق المنهجية الغربية التاريخية على الإسلام أو العرب يرتبط في الغالب بموقف فكري أنتجه تاريخ طويل من سنوات الاستعمار العسكري والفكري التاريخي وفي هذا تجنٍ على المعرفة. فالمفكرون الغربيون حين يتناولون هذه الظواهر وكأنها ظاهرة طارئة عليهم أو أنها خارج ثقافتهم فطريقة رؤية الغرب للإسلام أو الحضارة الإسلامية أو العرب تحددها معايير المصالح والمطامع والمنطق النفعي المادي وليس الحق والعدل.
هاشم صالح
كيف يمكن لمثقف عربي أن يعلن إعجابه بالاستشراق والمستشرقين؟ كان ينبغي له أن يشتمهم فوراً ويكرر نفس المعزوفة: استعمار، إمبريالية، عدوان على التراث والأمة الإسلامية... إلخ. هذا الشيء لن ينالوه مني أبداً لأني أعتبر أن الاستشراق قدم أكبر خدمة للتراث العربي الإسلامي. وأعترف شخصياً بأني لم أفهم تراثي العربي الإسلامي جيداً إلا بعد أن سافرت إلى فرنسا وأقمت فيها 33 سنة متواصلة واطلعت على كتب الاستشراق الرصينة. ولكني أقصد هنا الاستشراق الأكاديمي المتبحر في العلم لا الاستشراق الآخر المسيس الرخيص
لم يأت هذا الهجوم الصاعق على الاستشراق من طرف المحافظين والتقليديين عموماً وإلا لهان الأمر. وإنما أتى أيضاً من جهة مثقفين حداثيين كبار مثل أنور عبد الملك وإدوارد سعيد وآخرين. وصب كل ذلك في طاحونة الأصوليين الظلاميين وكل المؤدلجين الرافضين لتفكيك الانغلاقات التراثية
كتاب الاستشراق الشهير. ففيها يوضح موقفه من استغلال الأصوليين لكتابه ويتأسف على ذلك ويتبرأ منه. والواقع أن الرجل لم يكن معادياً للثقافة الغربية التنويرية. كيف يمكن أن يكون معادياً لها وهو مشبع بها؟ فالشيء الذي كان يزعجه ليس الغرب ككل وإنما فقط ذلك التيار اليميني العنجهي المتغطرس. فإدوارد سعيد ليس أصولياً! وإن كان كتابه قد استغل بفرح شديد من قبل الأصوليين والقومجيين وبقية الغوغائيين. ولا ننسى أن كتابه رغم ألمعيته يعاني من بعض الأخطاء والأحكام المتسرعة بسبب عدم تخصصه في الدراسات العربية والإسلامية. ولكن إدوارد سعيد كان في نهاية المطاف مثقفاً كبيراً ذا نزعة إنسانية عميقة تشمل برحمتها وظلالها سكان الشرق والغرب. كان يشكل جسراً حضارياً رائعاً بين العالم العربي من جهة، والعالم الأوروبي – الأميركي من جهة أخرى. انظروا النص الذي نشره في مجلة الـ(لوموند ديبلوماتيك) في شهر سبتمبر (أيلول) 2003 قبيل رحيله بعنوان: «النزعة الإنسانية: آخر متراس لنا ضد البربرية». ففيه دعا إلى تشكيل نزعة إنسانية علمانية كونية تشمل الجميع دون استثناء. وفي هذا النص الذي يشبه الوصية الأخيرة يوجد نبذ كامل للعنصرية والطائفية. إدوارد سعيد، لحسن الحظ، ليس سعدي يوسف! فهذا الأخير وصل به الأمر إلى حد التعاطف مع داعش واعتبار الخليفة البغدادي محرراً للعراق! كيف يمكن أن يسقط شاعر كبير مثل هذه السقطة؟ كيف يمكن أن تعمى به الرؤيا إلى مثل هذا الحد؟ هذا شيء يتجاوز عقلي وإمكانياتي...
المنهجية التاريخية الاستشراقية كانت قد طُبقت أولاً على التراث اليهودي - المسيحي قبل أن تُطبق لاحقاً على التراث العربي الإسلامي من قبل المستشرقين الكبار من أمثال غولدزيهر وتيودور نولدكه وجوزيف شاخت وسواهم الكثيرين. وهذا يعني أن علماء أوروبا طبقوا ذات المنهجية العلمية على تراثهم أولاً قبل أن يطبقوها على تراثنا ثانياً. وبالتالي فما كان هدفهم تدمير تراثنا الإسلامي اللهم إلا إذا كانوا يرغبون في تدمير تراثهم المسيحي أيضاً! العلم لا يدمر إلا الجهل والمعارف الخاطئة. العلم يعمر ويبني ويفتح الآفاق الواسعة. ولكنه مضطر أحياناً لأن يدمر الأفكار الخاطئة والتصورات القديمة الراسخة قبل أن يعمر ويبني الأفكار الصحيحة. فالتصورات الغيبية التي تعمر رؤوس التقليديين عن تراثهم الديني تبجيلية ولا تاريخية في معظم الأحيان. وهذا ينطبق على جميع المتدينين من كل الأديان. والعلم الاستشراقي لكي يتوصل إلى الصورة الحقيقية للتراث الإسلامي مضطر إلى تفكيك الصورة التبجيلية الموروثة عن الماضي منذ مئات السنين. ولذلك نشبت المعارك بينهم وبين أقطاب الأصوليين والشيوخ المسلمين. انظر هجوم شخصيات إسلامية كبرى كالشيخ المصري محمد الغزالي والشيخ السوري مصطفى السباعي على المستشرق الشهير غولدزيهر لأنه طبق المنهجية التاريخية على القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف. فقد اعتبرا ذلك بمثابة العدوان على قداسة التراث ومحاولة للنيل منه. وكان ذلك بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة. ولكن يمكن القول بأن طه حسين ومحمد حسين هيكل وبقية التنويريين والنهضويين العرب تعرضوا لذات الهجوم العنيف من قبل الشيوخ التقليديين الذين اعتبروهم بمثابة مستشرقين جدد أو تلامذة للمستشرقين. وعموماً فإن مثل هذه الهجمات على الاستشراق من طرف المحافظين التقليديين لا تحصى ولا تعد. وهي لا تدهشنا أبداً بل نعتبرها شيئاً طبيعياً ومتوقعاً تماماً. ولكن الشيء الذي ما كنا نتوقعه هو أن يرتكب مثقفو الحداثة ذات الخطأ! لذلك نقول: كفانا محاربة لنور العلم في العالم العربي والإسلامي كله! كفانا معاكسة لحركة التاريخ! ينبغي أن يعلم الجميع ما يلي: سوف يخضع تراثنا العربي الإسلامي في السنوات القادمة للمنهجية التاريخية - النقدية مثلما خضع لها التراث المسيحي في أوروبا بعد طول مقاومة وعناد وعركسة ومعاكسة من قبل الأصوليين المسيحيين. هذا تطور تاريخي لا مفر منه. ومن مصلحتنا القبول به إذا ما أردنا أن نلحق بركب العصر ونخرج من تقوقعنا المزمن وانحطاطنا التاريخي الطويل. لا يمكن للمشرق العربي أن يتخلص من وباء الطائفية الذي يمزقه ويمنع تشكيل وحدته الوطنية إلا بعد القيام بهذا العمل الفكري التحريري العظيم، بهذا الفتح المبين. لا يمكن لعالم الإسلام كله أن ينهض إلا بعد حل المشكلة الأصولية. فهذه المشكلة لا تخص العرب فقط وإنما جميع الشعوب الإسلامية قاطبة. يضاف إلى ذلك أن هذه التصورات الخاطئة عن التراث والمكرسة في برامج التعليم هي السبب في تفريخ ملايين المتطرفين والدواعش الإرهابيين. ولا يمكن مواجهة هذه الحركات إلا بعد تفكيك تصوراتها اللاهوتية التي تعمر عقول الشباب والتي تضرب بجذورها في أعماق التاريخ. ومعلوم أن اللاهوت الديني القديم - أو الفقه التكفيري - هو الذي يخلع المشروعية الإلهية على هذه الحركات المتطرفة وهو الذي يعطيها ثقة هائلة بالنفس ومقدرة هائلة على القتل والذبح. ولولا ذلك لما تجرأت أصلاً على القيام بكل هذه الفظاعات والتفجيرات العشوائية التي تحصد المدنيين بالعشرات أو بالمئات أو حتى بالآلاف كما حصل صبيحة 11 سبتمبر. وبالتالي فمكافحتها ينبغي أن تتم على أرضيتها الخاصة بالذات: أي أرضية الفكر الديني الذي سطت عليه واتخذته رهينة وإلا فلا يمكن التخلص منها ومن وبائها المستفحل الذي أصبح بحجم العالم. إن الإسلام كدين عالمي كبير يستحق مصيراً آخر: إنه يستحق نظرة أخرى وفهماً تجديدياً مستنيراً، فتراثنا من أعظم التراثات الدينية للبشرية. ومن خدمه وجدده هم كبار المستشرقين من أمثال لويس ماسينيون، وجاك بيرك، وأندريه ميكل، ومكسيم رودنسون، وكلود كاهين، وروجيه أرنالديز، وجوزيف فان إيس، وآلان دو ليبيرا والعشرات الآخرون. إن تراثنا العظيم يستحق أن تُطبق عليه أحدث المناهج العلمية والمصطلحات الفكرية بغية تحريره من الظلاميات التكفيرية وإبراز صورته المشرقة التي أضاءت العالم يوماً ما. ولهذا السبب فإننا ندعو إلى ترجمة أمهات الكتب الاستشراقية إلى اللغة العربية. هناك بحر من الكنوز المعرفية عنا وعن تراثنا في مختلف اللغات الفرنسية والإنجليزية والألمانية. وللأسف فهي لا تزال مجهولة من قبلنا؛ وذلك لأن القوى المحافظة المهيمنة تمنع ترجمتها أو تصادرها إذا ما غامر أحدهم وترجمها!
«ثلاجة التاريخ» محنطاً كما يفعل التقليديون والمحافظون. وإنما يكون في تحريره من انغلاقاته الداخلية كما فعل علماء المسيحية في أوروبا بالنسبة للتراث المسيحي وخرجوا بنتائج باهرة، نتائج تحريرية. أقصد بأنها حررتهم من غياهب الماضي وعقلياته التكفيرية ومجازره الطائفية الكاثوليكية - البروتستانتية. وهي ذات العصبيات التي تكاد تدمر العالم العربي والإسلامي اليوم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق