Aug 5, 2021 Sep 24, 2021
نجحت في تحطيم الثورات العربية في كل مكان انفجرت فيه، واليوم تسعى إلى تحطيمها في تونس، الحصن الأخير للثورات العربية الذي يمنح المنطقة الأمل، فإنها لم تعمل على إبقاء هذا الانفصال بين الخطاب السياسي والواقع، بل عملت على تفكيك المفاهيم السياسية ذاتها وتحطيمها وتحويلها إلى مفرداتٍ لا معنى لها، لتحطيم سياقها الجديد الذي جاءت به الثورات العربية، أي لتحطيم الخطاب المضاد للاستبداد.
أجبر الاستبداد الشعوب العربية على الاحتفال بالمنجزات التنموية الاقتصادية في ظل الفقر المتصاعد من كلّ جنب من جنبات الوطن العربي، كما أجبرهم على الاحتفال بالثورة العلمية في ظل التردّي التعليمي الصارخ، وكان عليهم أن يحتفلوا بالديمقراطية في ظلّ أقسى الأنظمة الديكتاتورية، لأنّ خطاب الاستبداد يفرض بالعنف على المواطنين/ الرعايا، أن يصدقوا ما تقوله السلطة المستبدة، حتى عندما تكون لا تصدق نفسها، ويدّعي الرعايا التصديق، خوفاً من عسف السلطة واستخدامها الاعتباطي العنف ضد أي بادرة معارضة. وبذلك، كرّر المواطنون خطاب السلطة، مرّة على سبيل الإذعان لخطاب السلطة تحت وطأة الخوف من العقاب، ومرّة على سبيل السخرية. وفي كلتا الحالتين، لم يحمل المواطن العربي هذا الخطاب على محمل الجد.
الاستبداد المديد جعل الخطاب السياسي مجرد تهويمات، ليس لها أي علاقة بالواقع الموضوعي. وبالصدام الذي حصل مع قوى الثورة المضادّة، والبنى العميقة للاستبداد التي تركتها هذه الأنظمة في بنية هذه الدول، تم الانتقال من انفصال الخطاب السياسي عن الواقع إلى عملية سياسية مدمرة، قامت على تفكيك العلاقة بين المفاهيم ومعانيها في الواقع، وتحولت اللغة إلى حالةٍ عبثية، وباتت المفردات لا تدلّ على معانيها، لأنّ هناك من عمل على سرقة المفردات. وبهذه المحاولات، ماعت اللغة وماعت المفردات، وأصبحنا عندما ندير نقاشاً في السياسة بعضنا مع بعض، يكون لا معنى له، لأنّ المفاهيم، ليس لها المعنى ذاته. الانقلاب يسرق الثورة من الشباب، ويدّعي أنّه "الثورة" كما حصل في مصر، واستبداد الأسد في سورية يتحوّل إلى عملية انتخابية ديمقراطية تنافسية. هناك مرشحون آخرون شاركوه الانتخابات (تحيا ديمقراطية الدمار الشامل)، تدافع عنه نخب، تدّعي اليسارية والإنسانية، ضد الحرب الكونية ضدّه وتمدح صموده! ونصل أخيراً إلى إجراءات الرئيس التونسي، قيس سعيّد، الذي يدافع عن الإجراءات الاستبدادية، وإلغاء العملية الديمقراطية، بوصفها تعزيزاً للديمقراطية.
مهزلة انتخاب الاسد
خلال السنوات العشر المنصرمة من عمر الثورات العربية التي كانت واعدةً بمستقبل أفضل، لم تقم قوى الثورة المضادّة، بالحفاظ على الانفصال بين الخطاب السياسي والواقع، بل فكّكت المفاهيم السياسية، وحوّلت النقاش السياسي إلى شيءٍ لا معنى له، بتفكيك المفاهيم السياسية الراسخة للمؤسسات السياسية الحديثة. وبذلك، لا يصبح المطلوب هو العمل على مطابقة الخطاب السياسي للواقع القائم فحسب، بل العمل على استعادة المفاهيم لمعانيها حتى يستقيم الجدل السياسي أولاً، وهو الشرط الشارط، لخطاب سياسي مطابق للواقع.
*
الجيش والتغيير
تقدّم لنا حركات الاحتجاج العربية التي اندلعت في عام 2010 درسًا نظريًا وسياسيًا في تاريخ الحركات السياسية العربية، وهو أن المؤسسة العسكرية هي القوة الحاسمة في أي تغيير، لا القوى السياسية التي ترفع شعار التغيير والإصلاح والعدالة؛ فتلك القوى السياسية يمكنها أن تدفع الأمور نحو التغيير، أو أن تساهم في إطلاقه، لكنها قلما تمكّنت من إدارة الشؤون العامة ومصالح الناس ما بعد التغيير، وهي فشلت في ذلك في معظم الأحيان، وتحوّلت، جرّاء فشلها، إلى واحدة من قوى الثورة المضادّة أو، في أحسن الأحوال، إلى قوة معيقة للتقدّم والإصلاح، ولم تستفد من معادلة "الإسلام + الديمقراطية" التي حظيت بدعم أميركي مكشوف.
في تونس وقف الجيش إلى جانب المحتجين في عام 2010، فسقط الرئيس زين العابدين بن علي. وفي مصر اتخذ الجيش موقف الحياد غير الإيجابي بين المحتجين والرئيس حسني مبارك في سنة 2011 فسقط مبارك. وفي عام 2013 وقف الجيش إلى جانب المحتجين على حكم الرئيس محمد مرسي، فسقط محمد مرسي. وتفكّك الجيش في ليبيا فانتهى حكم معمر القذافي. ووقف الجيش إلى جانب الرئيس قيس سعيّد فطار راشد الغنوشي من البرلمان. ولم يقف الجيش إلى جانب المحتجين في سورية فسقط الجميع وبقي النظام السياسي، ودفعت سورية أثمانًا باهظة جدًا جراء استعصاء الحسم بين النقائض.
مثل قبولها صيغة "الدولة المدنية"، وهي صيغة مُلفّقة تُضمر هروبًا من "الدولة الديمقراطية" العَلمانية الطابع. والإخوان المسلمون ضد مبدأ الديمقراطية عقيديًا، لأن الديمقراطية تعني، بالتعريف البسيط، حكم الشعب للشعب بواسطة الدستور. أما "الإخوان" فهم يريدون إقامة حكم الله بواسطة الشريعة في دولة مؤسّسة على منهج الخلافة الراشدة. ومع أن الإخوان المسلمين باتوا، منذ فترة قصيرة، يتحاشون استعمال مصطلحاتهم القديمة، كالخلافة والدولة الراشدة والإحياء والوسطية وأسلمة المجتمع وأسلمة المعرفة وإشاعة التربية الاسلامية وتكفير الدول والنظم السياسية الحاكمة، إلا أنهم اعتقدوا، منذ فترة قصيرة أيضًا، أي منذ عام 2011 فصاعدًا أنهم قادرون على إقامة هلال إسلامي يصل أوروبا بأفريقيا، أي أنه يمتد من تركيا إلى المغرب حيث أردوغان يحكم تركيا، ومحمد مرسي يحكم مصر، وغزّة تحكمها حركة حماس، ومصطفى عبد الجليل وخالد المشري يحكمان ليبيا، وتونس يحكمها راشد الغنوشي والمغرب يحكمه حزب العدالة والتنمية، ولا يبقى غير الأردن وسورية كي يكتمل الهلال الأخواني. وتوهّموا، فوق ذلك، أن سورية ستسقط حتمًا كالثمرة الناضجة بين قرني ذلك الهلال المتخيل، وحينذاك يصبح مصير الأردن ولبنان مجرّد وقت، وكذلك مصير السودان والجزائر. وكثيرًا ما اعتقد الواحد منهم أنه سيأتي بالضبع من ذيله، لكن الزمان دولاب سريع الانقلاب، فقُلّمت أظافرهم بسهولة فائقة في مصر وتونس والسودان وليبيا، وعصيت عليهم الجزائر وسورية، وباتوا بلا تأثير جدّي في الأردن ولبنان، وصار العراق، بطبيعة الحال، خارج حساباتهم، وها هي هزيمتهم في المغرب تطنطن بأجراسها، فانحطوا من 125 مقعدًا نيابيًا والمرتبة الأولى في سنة 2016، إلى 13 مقعدًا والمرتبة الطش في سنة 2021، ولم ينفعهم أنهم كانوا ملوك التطبيع مع إسرائيل لإرضاء الملك وحاشية القصر معًا.
*
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق