الاستهلاك ليس مجرد فعل اعتباطي أو رغبة ذاتية حرة، إنه نظام ثقافي كامل، يقوم على أفكار مدروسة بدقة، تتسرب إلى لاوعي الفرد في ما يتعلق بمشاعره، وإلى وعيه في ما يتعلق بأفكاره، إنها منظومة كاملة تسير على التحكم في وعي ولاوعي الفرد أو المجموعة، لخلق مستهلكين مسيرين وكأنهم مخدّرون بهوس، يتسوقون بحرية في الظاهر بينما هم في الواقع تحت تأثيرات متعددة مخدرة للإدراك، تجعلهم كالعميان في المولات، إذن الأمر ليس ببساطة الإشهار أو التسويق التقليدي الساعي إلى الترغيب في الشراء، إنه أبعد من ذلك، إنه ثقافة وبث أفكار نجحت في أن تتحول إلى مشاعر.
ترتبط النزعة الاستهلاكية وانتشارها بما بات يُعرف بالعولمة وما نتج عنها من سلوكيات وممارسات اقتصادية، بالإضافة إلى هيمنة رأس المال وتغوّله وسعي الشركات الكبرى للاستحواذ على الأسواق في عالم مفتوح لا تحكمه أيّ أخلاقيات أو معايير إنسانية أو نظم محددة.
ولعل الفجوة أو الفارق الاقتصادي المهول بين الدول الغربية المتطورة صناعيا ودول العالم الثالث، قد وسّع الفجوة الكبيرة في مستوى الحياة وأنماطها، وفي الوقت الذي بات فيه الناس في الدول الصناعية أسرى لرأس المال تكبلهم الديون والبطاقات الائتمانية، ما زال نظراؤهم في دول العالم الثالث في منأى نسبي عن هذه الهيمنة.
لكن مجتمعات العالم الثالث تحولت، بفضل هذا الفارق الكبير، إلى أسواق مفتوحة ومستسلمة لطوفان البضائع والسلع الواردة من العالم الصناعي، الأمر الذي نتجت عنه سلوكيات جديدة، حدّت من تطور الصناعات وعطلت حركة الإنتاج في تلك البلدان بسبب انعدام القدرة على المنافسة، ومع ذلك ظلت العادات الخاطئة والتقاليد البالية تلعب دورا كبيرا في النزعة الاستهلاكية لمواطني تلك البلدان، على الرغم من عدم تطور تجارة الإنترنت ونظم الدفع الآلي فيها، فتحول الاستلاب الذي يعاني منه الأفراد في المجتمعات الغربية إلى حالة من التفاخر اللاواعي في بلداننا.
إنّ مظاهر الاستلاب في الغرب مثلا تتمحور حول الرضوخ للديون السهلة واعتماد النظام الآلي في الدفع وانكشاف خصوصيات الأفراد وميولهم أمام شركات الإنتاج الكبرى التي باتت، بطريقة أو بأخرى، تعرف أدقّ التفصيلات عن طبيعة حياتهم ونظامهم الغذائي والسلع التي يميلون إليها، سواء عن طريق مشترياتهم والدفع في البطاقات الإلكترونية وبطاقات الائتمان أو من خلال صفحاتهم الخاصّة في مواقع التواصل الاجتماعي، فتستهدفهم بواسطة الإعلانات المغرية لترسيخ تلك الميول لديهم وتنميتها.
على الرغم من أن الأفراد في مجتمعات العالم الثالث ما زالوا بعيدين عن هذا المستوى المتقدم من الخدمات المتطورة، إلّا أن سعيهم لركوب موجة التقليد والتشبه بالغرب ومحاولتهم المستميتة لمواكبة التكنولوجيا الجديدة وشراء السلع وتقليد الصرعات التي تطلقها دور الأزياء ومن ورائها شركات الإنتاج الكبرى، قد حولهم إلى مجتمعات استهلاكية غير منتجة، ونمّى لديهم سلوكيات مجتمعية دخيلة لكنّها تترسخ باستمرار، أدت في المحصلة إلى تغيير نمط العلاقات الاجتماعية والاقتصادية.
لكن ما هي ثقافة الاستهلاك وهيمنة نزعة الاستحواذ والتباهي بامتلاك الأشياء غير الضرورية؟
في الواقع يعرف معظمنا أننا لا نحتاج حقا لأحدث سيارة أو أسرع تقنية أو أحدث صرعات الملابس، لكننا مع ذلك نستمر في الاستهلاك لأننا نريد هذه الأشياء، لأن وسائل الإعلام تخبرنا بأننا نحتاج إلى الانضمام إلى مجموعاتنا الاجتماعية ومجاراتها في ما تفعل.
لكن من جهة أخرى، عندما نفكر في الاستحواذ والاستسلام لرغبة الإنفاق، يمكن أن يتحول انتباهنا إلى الداخل وحدوث بعض النكوص في الفكر أو الفعل. وهو منطلق جيد للبحث العميق في ثقافة الاستهلاك ومخاطر الوعي الذاتي، لأنّنا على الأقل نعلم أننا مستيقظون وبكامل وعينا عندما نمارس تلك الرغبة. تعزو أغلب الدراسات السلوكية بدايات نزعة الاستهلاك إلى التوسع الصناعي في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. فمع اكتشاف مصادر جديدة للطاقة وتقنيات التصنيع، أدّى الإنتاج الصناعي إلى إغراق السوق بمجموعة من المنتجات الاستهلاكية مثل الملابس الجاهزة والأجهزة المنزلية.
بحلول القرن العشرين ارتفع الإنتاج بشكل كبير إلى درجة أن العديد من المعاصرين باتوا يخشون أن يكون العرض قد تجاوز الطلب وأن المجتمعات ستواجه قريبا العواقب المالية المدمرة لهذا الإنتاج الزائد. فحاول رجال الأعمال تجنب هذه الكارثة بواسطة تطوير استراتيجيات تسويق جديدة غيّرت مفاهيم التوزيع وحفّزت ثقافة جديدة لشحذ رغبة المستهلك.
ومن أولى هذه المحفزات تحول عملية التسوق -كحاجة إنسانيةـ إلى متعة استهلاكية، فعمدت الشركات الرأسمالية الكبرى إلى فتح المتاجر الكبيرة وتوفير كافة أنواع البضائع تحت سقف واحد، كما وفرت أماكن للراحة والاسترخاء وتناول الأطعمة والمشروبات فيها بالإضافة إلى توفير أماكن خاصّة لمجالسة الأطفال ولهوهم من أجل إتاحة الفرصة لذويهم بالتمتّع والشراء، وهو ما بات يُعرف في أيّامنا هذه بنظام الـ”مولات” الذي بات يركز على تقديم العروض المغرية وأساليب جذب المتبضعين وتزويدهم ببطاقات امتياز وهمية تخولهم الحصول على بعض الخصومات أو التخفيضات غير المجدية.
تطوير ثقافة الاستهلاك
فكرني بالشيوعي الذي دخل جنة الراسمالية السوق الذي يحتوي علي كل شىء فسقطت الشيوعية
لقد أدت نزعة الشراء، مع ظهور كتالوجات الطلب بالبريد، والمجلات واسعة الانتشار، والعلامات التجارية المتميزة، إلى زيادة رغبة المستهلك. كما عززت صناعة السيارات ثقافة الاستهلاك الجديدة بواسطة تشجيع استخدام بطاقات الائتمان، وأصبح الشراء بالتقسيط متاحا للجميع تقريبا. وعلى سبيل المثال، ازداد الإنفاق الاستهلاكي للأجهزة المنزلية بنسبة تزيد على 300 في المئة عما كان عليه في عشرينات القرن الماضي.
وقد أدى تأسيس ما بات يُعرف بالشركات الصناعية متعددة الجنسية التي تقيمها الدول الصناعية الكبرى في الدول الفقيرة واستغلال تدني الأجور فيها، إلى جعل السيارات والهواتف النقّالة وملابس العلامات التجارية المعروفة في متناول ذوي الدخل المتوسط أو المحدود، الأمر الذي رسّخ نزعة استهلاكية غير مسيطر عليها.
لقد حاول الكثير من الخبراء دراسة ما بات يُعرف بثقافة المستهلك أو المجتمع الاستهلاكي، مركزين بالدرجة الأساس على تصنيف ذلك السلوك (الاستهلاك الواعي أو الرشيد أو الرمزي أو الاستهلاك بحكم العادة المتصلة بالروتين)، إضافة إلى نوع آخر يسمّى الاستهلاك الاستثنائي (في المناسبات الخاصة والعطلات). وكل ذلك عن طريق ربط الاستهلاك الفردي بالتغييرات الاجتماعية والثقافية والسياسية الشاملة وطبيعة المستهلكين كفاعلين في الأسواق المحلية والعالمية.
الاستهلاك كجانب من جوانب الحياة اليوميّة، بما في ذلك العادات داخل الأسر وفي أوساط الأطفال والشباب كمستهلكين محتملين من منظور متعدد الثقافات، بالاستناد إلى البحوث الاجتماعية والأنثروبولوجية في ما بات يُعرف بالاقتصاد الأخلاقي المتخصص في دراسة مجموعات المستهلكين غير المستقرة وردودها، ورصد العمليات الاجتماعية-الثقافية المتعلقة بتطوير الاستهلاك في السياقات المعولمة، ومحاولة إيجاد الروابط بين الدراسات التسويقية التي تنطلق من نظريات العلوم الاجتماعية. فمن ناحية تقوم الشركات بتطوير منهجيات “عالمية” وعملية انعكاسية قابلة للتطبيق في مجال التسويق، ومن ناحية أخرى تسعى لجعل الاستهلاك محفزا لترسيخ الهويات وتحديد نوع معين من العلاقات الاجتماعية والثقافية.
التسويق العاطفي
إنّ المشترين اليوم مشغولون جدا، وليس لديهم الوقت أو الطاقة لمقارنة مزايا سلعة ما مع سلعة أخرى أو تحديد مدى حاجتهم الفعلية إليها.
تطور التقنيات وانتشار ظاهرة المتاجر الإلكترونية وتيسير سبل الدفع، فإن رغبة المستهلك بالاقتناء باتت مرتبطة بنقرة صغيرة على فأرة الكومبيوتر قبل أن ينتقل للبحث عن سلعة أخرى، وتجمع أغلب الدراسات على أن ما يُقدر بنحو 90 في المئة من قرارات الشراء تتم بشكل غريزي لا واع.
وهو الأمر الذي باتت تعتمده أغلب الشركات الكبرى في التسويق، لجهة بناء انطباع إيجابي لدى الجمهور على مستوى اللاوعي. وهو ما يعني توظيف الصور والقصص التي تبني علاقات إيجابية مع العلامات التجارية في عقول الناس التي تختلط فيها تلك الأفكار والصور والخبرات والمشاعر بطريقة تحفز رغبة الشراء.
تحاول العديد من العلامات التجارية الوصول إلى المستهلكين بواسطة ما بات يُعرف بالجاذبية الزائفة أو التسويق العاطفي، حسب عالم النفس الحائز على جائزة نوبل دانييل كانيمان، الذي يعزو عدم عقلانية القرارات الشرائية للتحفيز اللاواعي الذي تتسبب به وسائل الترويج والإعلانات الجذابة التي باتت تستند إلى علم النفس الاقتصادي عن طريق خبراء ومستشارين متخصصين في كيفية اشتغال السلوكيات اللاواعية لدى الإنسان وطرق الوصول إليها وتحفيزها.
ويوصي هؤلاء في الغالب باختيار موظفين أنيقين ذوي حضور مؤثر يسمح بتحفيز المشاعر لدى الجمهور وتوظيف الانطباع الأوّل الذي يتشكل، حسب علماء النفس، في أقل من ثانية، بواسطة النظر إلى تعابير الوجه والملابس وحركة الجسم.
وعلى سبيل المثال تقوم شركة آبل وشعارها البسيط والأنيق، بمحاكاة ما أسماه ستيف جوبز بالاحتياجات البشرية ذات المستوى الأعلى، أو تلك التي لها علاقة بالإبداع واحترام الخلق الذاتي، فركزت الشركة، حسب جوبز، على تلبية هذه الاحتياجات وتوفير منصة تقنية لإطلاق العنان للإبداع الشخصي، الأمر الذي يشعر هؤلاء المهتمين بأنّهم جزء من الثورة التكنولوجية والرقي العصري، أو بالأحرى جزء من تلك الحركة الثقافية، وليس من المستغرب اعتماد جل مصممي الرسوم والفنون التقنية أجهزة Mac في عملهم حتى أصبحت مرتبطة، كعرف لا واع بالإبداع مع مرور الزمن.
*
الاستهلاك كمرضٍ للأمَّة
يستهلك هذا العالم مُنتجات مُختلفة، لا تُصنَع أغلبيّتها محلياً، ويُفضّلها المرء على كلِّ ما يُنتَج في ربوع بلاده.
عالمٍ طغت عليه ثقافة ليبراليَّة رأسماليَّة لا يهمّها سوى الربح المادّي المَحْض، ولو على حساب صحّة الإنسان الجسديّة والعقليّة والنفسيّة وعلاقاته العائليّة والاجتماعيّة، أصبح الاستهلاك، منذ حركات التَّصنيع الأولى، نمط حياة قائماً بذاته، له خصوصيّاته ومقوّماته وميادينه المختلفة.
يرتبط الاستهلاك في وعي الناس ولاوعيهم بالرفاهية والخير والبركات، لكنَّه يُعدُّ في العُمق سجناً كبيراً يختاره المرء في بعض المرات طواعيةً، ويُفرَض عليه في الكثير من الأوقات بوسائل شتّى، عن طريق أدوات الدّعاية والتسويق للمُنتجات المختلفة، مما يحتاج إليه الإنسان وما لا يحتاجه أبداً، ولكنّه يقتنيه، على الرغم من ذلك، من أجل الاقتناء فقط.
سَلْب الإنسان حريّته وإلحاقه بعالم البضائع، ليُصبح بضاعةً تُباع وتُشترى، تُستعمَل أو تُستغَلّ، وتُرمى أو تُهمَل في ركنٍ ما، ما لم تعد لها قيمة شرائيّة تسمح بأن تبقى موضِع اهتمام السوق.
هذا العالم مبنيّ على أساس التلاعُب بالكرامة الإنسانيّة،
لكي تتضخَّم أرباحه، يُراهِن على إغراق السوق العربية بأكبر كميّةٍ من البضائع المختلفة، وعلى تقديم الجديد دائماً، سواء على مستوى الطراز أو البضائع نفسها. وتكون النّتيجة حدوث حركة استهلاكيّة دائبة،
نساءٍ ورجالٍ لا يفوتهم أيّ جديد في السوق.
ولا يحقّ للمرء أن يسأل مَن لا يملك بالتأكيد ثمن ما يقتنيه من أين له ذلك! لأنَّ "المِلكية الخاصة" هي الآلهة الجديدة التي ابتدعتها الرأسمالية: "إنَّ الاقتناء والامتلاك والربح من الحقوق المُقدَّسة للفرد في المجتمع الصناعي. ولا يلعب إشكال مصدر هذا المُلْك أو ما إذا كان امتلاكه مرتبطاً بأية مسؤولية كانت، أيّ دور يُذكَر. والمبدأ الشائِع في هذا المجال هو: "ليس من حقّ أيّ أحد أن يسألني أين وكيف حصلت على ما أملكه أو ماذا أعمل به. إنَّ حقّي في هذا الإطار غير محدود ومُطلَق". (إريك فروم، الامتلاك أو الوجود، 1956).
ولا يقتصر الاستهلاك على البضائع التكنولوجيَّة، من هواتف محمولة وحواسيب وألعاب إلكترونية وأدوات منزلية وسيارات... بل يتعدّاه ليقتحم ثقافة الإنسان العربي الغذائيَّة، مع كلّ ما يترتَّب على ذلك من مشاكل صحّية ونتائج نفسيّة.
انتشار الأمراض النفس-جسديّة لدينا، والتي يُسبِّب "الاستهلاك" المُعاصِر غالبيّتها العُظمى بما لا يدع مجالاً للشك، فالوجبات التي تُنعَت بـ"الخفيفة" هي في العُمق معامل كيماوية ملغومة بكلّ أسباب أمراض القلب والشرايين والجهاز الهضمي والتنفّسي، لأنّ نسبة السكّر والملح والدهنيات وكلّ الكيماويات التي تُحسّن الذوق مرتفعة فيها إلى درجةٍ عاليةٍ جداً.
برامج ومُسابقات ترفيهية همّها الأساسي "تنويم" المشاهِد أو المُستَمِع مغناطيسياً في وَهْم عوالِم تُبهره وتوحي إليه بأنَّ باستطاعة أيٍّ كان أن يصبح نجماً في الغناء أو السينما أو الكتابة، ناهيك بـ"استعمار" الكثير من المحطّات التلفزية الأجنبية وأفلامها وبرامجها صالونات العرب، وطبعهم بما يطبع به المواطن الغربي كذلك، بـ"تلقينه" أنَّ عليه أن يكون "مُستهلِكاً جيداً"، بما أنه أضاع حقّه في أن يكون "مواطِناً جيداً"، أي مُنتقداً للأوضاع الاقتصادية والاجتماعية المُزرية التي يعيشها.
التبعيّة العمياء لمنطق الاستهلاك
لم يعد المرء يُميِّز بدقّةٍ بين أناه والبضاعة، فالإنسان لم يعد ما هو عليه، بل ما يملكه، لأنَّ عُمق الامتلاك الاستهلاكيّ يتمثّل بإحكام السيطرة على الآخرين، فباقتنائي شيئاً ما، أتوهَّم أنني أتحكَّم به، لأنه ملكي، وأتماهى مع فكرة امتلاكي له، إلى أن أصبح جزءاً منه أو يصبح جزءاً مني، حتى يظهر في السوق ما توهمني وسائل الدعاية الاستهلاكية بأنه أهمّ منه.
مقادير تهيئة شخصية مُكتئبة في مطبخ الاستهلاك قد توفّرت، بل أكثر من هذا، يصبح الإنسان العربي فأر تجارب لمُختبرات التصنيع الغربية، وأداة فعَّالة لإلهائه عن مشاكله الحقيقية، فالفردانية التي تغنَّت بها ثقافات التنوير الغربي أصبحت لدينا أنانية غير مقنعة، والحرية أصبحت فوضى، والالتزام السياسي بقضيةٍ ما أصبح تدجيناً مرناً مقابل بعض الدولارات لجحافل من الشباب العربي في مختلف أقطار العالم العربي لبثِّ الفتنة.
الخوف، القلق، عدم الثقة، الشكّ في كلّ شيء، بما فيها الذات، الاكتئاب الفردي والجماعي، والهلوَسات... وتسويق البضائع الغربية في الأسواق العربية، وبالتالي إبقاء العرب في تبعيّةٍ دائمةٍ للغرب على هذا المستوى.
استهلاك ما تُنتجه الصّناعة الحربيّة الغربيّة، تحت الضغط المباشر لسياسات غربية نجحت في استمرار التّفرقة بين "الأشقاء" العرب وترهيب بعضهم من بعض، وافتعال نزاعات تنتهي بحروبٍ داميةٍ طويلة الأمَد في الدّول العربيّة، فكم اقتنى الحكّام العرب معدَّات حربية من الغرب، لا يُمكن أن تُستعمَل إلا بمُساعدة اختصاصيين غربيين أو هي معدَّات قديمة مُعرَّضة للصَدأ في صحارى بلداننا!
لجوء مُترفي العرب إلى استهلاك إكسسوارات تكون قيمتها المادية كافية لبناء مدرسة أو مستشفى في مدينةٍ عربيةٍ ما. وفي هذا الإطار، يدخل اقتناء ساعات يدويّة بأثمانٍ خياليّة، أو مراحيض ذهبية بأكثر من مليون دولار، أو سيارات فارِهة...
ولا يقتصر هذا النوع من الاستهلاك على حكّام الإمارات والممالك العربيّة البتروليّة، بل يمتدُّ أيضاً إلى دول أقلّ ما يُقال عنها إنها فقيرة، من مثل شمال أفريقيا.
الاستهلاك، كأداة لتطويع العالم العربيّ، هو سلاح فعَّال في يد الغرب، يستعمله من دون إعلان حربٍ شاملةٍ على العرب، ويمكن تأطيره في ما يُسمّى عبثاً "الحروب الناعِمة"، فتُسلَب من الإنسان العربي كلّ مقوّمات شخصيّته الأصلية والأصيلة، ويُلبَس عباءة الطاعة العمياء للغرب، ويُدفَع الحكّام العرب من خلاله، إما إلى التقاتُل في ما بينهم وإما إلى الإسراف في أموال شعوبهم التي اؤتمنوا عليها، بنيَّة صرفها لتأمين رفاهية هذه الشعوب، لا قهرها وحرمانها من أسُس الحياة الكريمة.
ندعو إلى مُقاطعة المُنتجات الإسرائيليَّة، مهما كان نوعها، كما ندعو إلى مُقاطعة البضائع الغربية، جملةً وتفصيلاً، وهي الوسيلة الوحيدة لنا لنشفى من أمراضنا ونستعيد حريّتنا وكرامتنا من الغرب نفسه، ومِمَّن نصَّبهم بالقوَّة حكّاماً علينا
*
دهاء تجاري يعتمد محفزات مرئية تحرك غريزة الشراء لدى الإنسان
لا أسوأ من فكرة “اِشتر الآن وادفع لاحقا” لأن “لاحقا” هذه لا تبالي بالقلق الذي يمكن أن تتسبب به الديون للمشتري، فهي ببساطة تقدم لك إغراء الشراء، ولا تقترح عليك حلول الدفع!
يعاني أغلب البريطانيين والأميركيين من مرض اقتصادي واجتماعي مستمر اسمه القرض العقاري، أوصل العديد منهم إلى الانهيار الأسري والانتحار، في لحظة العجز المستمرة عن تسديد أقساط قرض المنزل للمصرف الدائن.
هذا المرض لا ينجو منه إلا الأثرياء القادرون على دفع مبلغ شراء المنزل دفعة واحدة، أو الذين استكملوا تسديد القرض وصارت منازلهم ملكا لهم، حتى هؤلاء يتوقون إلى منزل أكبر وقرض جديد.
مرض القرض العقاري عادة ما يستمر مع الموظف صاحب الراتب المتوسط أكثر من عشرين عاما، فيبقى عبدا للعمل من أجل الاطمئنان على الاستمرار في الشعور بأن المنزل سيكون يوما ما ملكه.
مكر الشركات والمتاجر نقل العدوى إلى مرض جديد يشبه القرض العقاري لكن بمبالغ أقل، خلال أزمة الإغلاق إثر انتشار وباء كورونا؛ فقد عرضت التسوق على الإنترنت والدفع لاحقا. لكن العدوى مستمرة بين المتسوقين خصوصا في بريطانيا حتى بعد إنهاء الإغلاق. وقدرت ديون المتاجر على المتسوقين مؤخرا بأربعة مليارات جنيه إسترليني.
الدفع الآجل يحمل نفس إغراء المقامرة، خصوصا عند الذين لا يخططون لدفوعاتهم الشهرية، فمتعة الاستهلاك بالشراء لا تستمر طويلا، لكن قلق تأخير الدفع له آثار نفسية على الإنسان تهدد علاقته بالمحيط الأسري.
الطموح حق مشروع كما حلم الثراء، لكن القناعة أيضا كنز حقيقي للاستقرار النفسي. والتجارب علمتنا ما معنى الإنفاق بقدر ما يملك الإنسان عندما لا يكون مضطرا إلى الاستدانة. الدهاء التجاري يعمل على كسر تلك القناعات الإنسانية من أجل هدف واحد لا يعبأ بالمستهلك ويتمثل في زيادة أرصدة مالكي الشركات، بينما يحتاج الإنسان المتوازن إلى عدم فقْد صوابه وعدم الخضوع إلى غريزة الشراء.