الأربعاء، 4 سبتمبر 2019

هل يمكن معرفة مراد الله؟ واحتكار فهم الدين****

أورد موقع الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين خبرا يقول إن عضو مجلس أمناء الاتحاد، محمد الحسن ولد الددو، قدم محاضرة بعنوان "التكوين المنهجي للعلماء" ضمن فعاليات الملتقى العلمي الدولي الأول للشباب في مدينة يلوفا التركية، قال فيها إن "العلماء هم المؤهلون في الحقيقة لمعرفة مراد الله أكثر من غيرهم"، مستشهدا بالآية القرآنية "وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون".

الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين هو مؤسسة تتبع للتنظيم الدولي للإخوان المسلمين وقد قام بتأسيسه الشيخ يوسف القرضاوي في عام 2004 وظل يترأسه حتى عام 2014 حيث تم استبداله بالمغربي أحمد الريسوني.

قد ظلت قضية معرفة المراد أو القصد الإلهي تمثل أحد الإشكالات الكبيرة في الفكر الإسلامي، وكذلك في تاريخ المسلمين، حيث تم استخدامها كذريعة للسيطرة وادعاء الحديث باسم الله، ذلك لأن من يملك الحق الحصري في معرفة المراد الإلهي سيكون هو الجهة الوحيدة التي تحتكر الحقيقة، ومن ثم القدرة على التوسط بين الله والخلق.

إن محاولة معرفة مراد الله من خلال تفسير النص الديني "القرآن" عبر إعمال أدوات اللغة بعد انقطاع الوحي يعتبر أمرا غير ممكن، ذلك لأن المفسر، "الإنسان" الذي يقوم بذلك الدور، يخضع لمنظومة واسعة ومعقدة من التحيزات والسياقات تشمل الثقافة والمصالح السياسية والاجتماعية والأيدولوجية (العقائدية) وغيرها، وبالتالي فإن ادعاء تطابق تفسير أو تأويل ما للقصد الإلهي يصبح أمرا مستحيلا.

ادعاء إمكانية معرفة العلماء لمراد الله ليس سوى محاولة لتكريس نوع من الخطاب يجعل منهم الوسيط الأوحد بين الله والمؤمنين

في هذا الإطار يقول المفكر المصري الراحل خليل عبد الكريم إن "معرفة حكم الله في أي قضية أو نازلة أو مشكل متعذر، بل هو مستحيل، لأن المرجع وهي "النصوص المقدسة" يختلف البشر فيها، لاختلاف مداركهم ومشاربهم ونزعاتهم ومصالحهم ومكانتهم في المجتمع أي مواقعهم الطبقية، يختلفون في تفسيرها ومن يدعي منهم أن تأويله هو الأصح المطابق لإرادة الرب الذي أنزل النص، أو الرسول الذي قال "الحديث" فإنه يكون متعسفا".

إن التصور القائم على فرضية أن نزول القرآن باللغة العربية وحده كاف لإثبات إمكانية الوصول إلى القصد الإلهي يعتبر تصورا قاصرا وغير علمي، ذلك لأن اللغة نفسها تنمو وتتراجع في إطار أشمل منها يتضمن مستوى ثقافة الناس وحدود معرفتهم وقدرتهم على إنتاج دلالات اللغة عبر الشرح والتفسير والتأويل.

ومن ناحية أخرى، فإن اللغة ـ كما يقول علي مبروك ـ ليست فضاء محايدا وشفافا يكون الناس فيه أحرارا، بحيث يسلكون في رحابه على النحو الذي يشاؤون، بل إنها وسيطا يفيض بالانحيازات والتحديدات المعتمة التي تفرض نفسها على مستخدميها بصرف النظر عن نواياهم ومقاصدهم.

لا يستطيع أحدٌ معرفة مراد الله بشكل نهائي، ذلك لأن المعرفة ـ بحسب إبراهيم غرايبة ـ "تتشكل وفقا لما تدركه الحواس وما ينشئه العقل على هذه المدركات بما يعني ذلك من خبرات وتجارب وتقدم وتخلف وأهواء ومصالح ورغبات وغرائز واتجاهات أخلاقية، ويكاد يشمل ذلك كل شيء، فنحن نرى الضوء المنعكس عن الأشياء، ولذلك فإننا لسنا متأكدين إن كنّا نرى الأشياء بالفعل كما هي في الحقيقة، أو إن كنا نراها أساسا".

إن معرفة المقصد الإلهي كانت متاحة فقط للرسول الكريم محمد لأنه ـ بحسب عبد الكريم ـ "كان مؤيدا بالوحي يدله على حكم الله في كل واقعة، ويهديه إلى الصواب في كل مشكلة، ويمده بالجواب الصحيح عندما كان يُسأل سواء من أتباعه أو خصومه، ويصحح له كل ما يفعله، ويرشده إلى الحق والعدل والصواب إلخ".

إن الفرضية القائلة بإمكانية معرفة مراد الله تستبطن تناقضا واضحا يتمثل في محاولة إيجاد نوع من التطابق المستحيل بين النسبي والمطلق، ذلك لأن البشر "العلماء في حالتنا هذه" أصحاب قدرة نسبية محدودة، بينما يمتلك الله القدرة المطلقة، وقد أخبرنا النص القرآني بوضوح أن البشر لا يستطيعون الإحاطة علما بالله "ولا يحيطون به علما"، وهو ما يعني بالضرورة استحالة الإحاطة الكاملة بالمقصود الإلهي في النص.
وإذ تستبين عدم إمكانية معرفة مراد الله من واقع طبيعة اللغة والتحيزات الحتمية ونسبية القدرة البشرية، فإن زعم محمد الحسن ولد الددو بأن "العلماء" هم المؤهلون لمعرفة مراد الله، يمهد الطريق أمام تكوين طبقة من رجال الدين "الكهنوت" الذين يسيطرون على عقول العامة بحسبان أنهم الفئة الوحيدة التي تمتلك المعرفة الكاملة بمراد الله والتفسير الحقيقي للنصوص الدينية وأن ما عدا ذلك ليس سوى محاولات غير صحيحة.
بطبيعة الحال لا يمتلك الددو تعريفا محددا للعلماء الذين يعنيهم في كلامه، ولكنه بالضرورة يتحدث عن علماء المذهب السني، ذلك لأنه توجد خلافات كبيرة بين المذاهب الإسلامية تصل في مداها الأقصى إلى تكفير بعضها للبعض الآخر، ولكل مذهب بالطبع طبقة من رجال الدين يسمون أنفسهم بالعلماء (مثال علماء الحوزات العلمية الشيعية)، وهنا يطرأ السؤال التالي: إذا كان العلماء السنة/الشيعة يعرفون مراد الله فلماذا يختلفون كل هذا الاختلاف؟
من الجلي أن الخلافات المذهبية كانت نتيجة مباشرة للتجربة التاريخية الإسلامية منذ وقوع الفتنة الكبرى، حيث استخدمت أطراف الصراع المختلفة النص الديني لتعضيد مواقفها، وبالتالي تم توظيف القرآن والحديث لخدمة المواقف السياسية، وهو الأمر الذي يؤكد أن "تفسير/تأويل" تلك النصوص يتم في السياقات النسبية ووفقا للرغبات البشرية المتأثرة بالتحيزات المختلفة وبما في ذلك طرائق استخدام اللغة.
والحال هكذا فإن حديث الددو مأخوذا في سياقه، لا يخرج عن إطار المحاولات الرامية لإعطاء المشروعية لفئة محددة من رجال الدين لاحتكار فهم النصوص الدينية وادعاء تطابق تأوليهم لها مع المقصد الإلهي، ولا يحتاج المرء لكثير عناء حتى يربط المحاولة بالخطاب الذي تتبناه الجماعة التي ترعى الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، وأعنى الإخوان المسلمين، التي تدعي تطابق فكرها مع الإسلام تطابقا تاما.
في إطار نقده المعمق للخطاب الديني، أشار المفكر المصري الراحل، نصر حامد أبوزيد، إلى إحدى الآليات التي يستخدمها ذلك الخطاب وأطلق عليها مسمى "التوحيد بين الفكر والدين" حيث يتم من خلالها إلغاء المسافة الضرورية بين "الذات والموضوع" وبالتالي يُصبح التأويل الخاص للجماعة للنصوص الدينية متطابقا مع الدين نفسه.
يؤدي هذا النوع من الخطاب إلى نتائج خطيرة من بينها أن أصحابه لا يحتملون أي نوع من التأويل المختلف للقضايا الدينية ويعتبرونه خروجا على ما يسمونه "صحيح الدين" الذي يدعون أن جماعتهم تمثله وهو الأمر الذي يجعل منها، أي الجماعة، متحدثا حصريا باسم الله في خاتمة المطاف.
ظلت قضية معرفة المراد أو القصد الإلهي تمثل أحد الإشكالات الكبيرة في الفكر الإسلامي
على جاويش، إن "الدعوة التي أسسها الإمام حسن البنا، رحمه الله، هي ذات الدعوة التي أتى بها النبي صلى الله عليه وسلم ولا تختلف عنها إلا بقدر ما يبذل القائمون بها من جهد وما يحققون من عمل صالح".
قد يندهش البعض لهذه الجرأة الشديدة من الأستاذ جاويش في وصف دعوة البنا بأنها "هي ذات الدعوة التي أتى بها النبي"، ولكن هذا الاستغراب سيزول سريعا إذا ما علموا أن الرجل لم يبتدع شيئا وإنما هو يسير على خطى المرشد المؤسس البنا، الذي قال في رسالة المؤتمر الخامس إن "على كل مسلم أن يعتقد أن هذا المنهج (أي منهج الإخوان المسلمين) كله من الإسلام، وأن كل نقص منه نقص من الفكرة الإسلامية الصحيحة".
إذن، خلاصة الأمر هي أن ادعاء إمكانية معرفة العلماء لمراد الله ليس سوى محاولة لتكريس نوع من الخطاب يجعل منهم الوسيط الأوحد بين الله والمؤمنين، وبالتالي يفسح المجال أمام الجماعات التي ينتمون إليها لتصبح بدورها الوحيدة القادرة على تجسيد الإسلام الصحيح.
++++++++++++++

التدين لا يكون عبر احتكار فهم الدين الصحيح


"إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق ولا تبغضوا إلى أنفسكم عبادة الله".

"الإنسانية قبل التدين"
 "أما أنا فإني أصلي الليل أبدا، وقال آخر أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا. فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم فقال: أنتم الذين قلتم كذا وكذا.. أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني".

وأشار إلى أن الرسول أدرك أن الخطر حينما يعتقد المرء أنه أتقى الناس وأعلمهم بأمور الدين، ومن هنا يبدأ في الحكم على عبادات وعلاقات الإنسان بربه، وهو منبت التطرف؛ لذا جاء ذلك الموقف ليعلمنا الرسول أن احتكار فهم الدين باب للفتنة عليه أن يُغلق.

++++++++++++
خطيئة احتكار الدين

وحصر القيام بالدين والقيام علي الدين علي طائفة بعينها، أو شخص بعينه، لما ينطوي عليه ذلك الاحتكار من أخطاء وخطايا بل وجرائم ليس في حق الدين وحسب، بل وفي حق الجماهير كذلك، حيث يقوم الإعلام الديني اليوم بكل أشكاله ومرجعياته الفكرية، حتي التابع منه للمؤسسات الرسمية كالأزهر والكنيسة عن طريق التكرار والإلحاح علي مسامع الناس أن فهم الدين قاصر وحسب علي طائفة أو فئة بعينها من دون الناس
 جميعا، فقاموا بإطلاق الألقاب ذات القداسة والصبغة الدينية الاحتكارية علي بعض الأشخاص ليرسخوا في نفوس الناس مشروعية ودينية احتكار الدين واحتكار فهمه والتحدث باسمه وفرض الوصاية الفكرية والدينية عليهم من خلال تلك الألقاب، وهي:

(أسقف، شيخ، عالم، فقيه، راهب، مفتٍ، إمام، بابا، كاهن، داعية، مرجع، آية الله، حجة الله)، مما رسَّخ في وعي الناس وثبَّت في قناعاتهم أن من لم يحظ بموافقة ومباركة نيل أي من هذه الألقاب من قبل هذه الفئة فليس له الحق في فهم الدين أو التحدث فيه أو عنه.

وكفي بهذه الخطيئة من جرم في حق الناس، إذ في احتكار الدين واحتكار فهمه والتحدث فيه وعنه هو عملية سلب مقصودة لحق الجماهير في التفكير في أهم وأقدس وأخطر خصوصية تهم إنسانيتهم في حياتهم وبعد مماتهم وهي خصوصية الدين، بل والأشنع هو إخراج الجماهير من الخطاب الإلهي الذي خاطب به الناس جميعا، وكأن الله لم يخاطب بدينه ورسالاته سوي فئة بعينها من الناس، أما بقية الجماهير فما هم إلا قطعان من الغنم يسوقهم الرعاة، وكذلك حرمانهم من أقدس حقوقهم الدينية والإنسانية علي الإطلاق، وهي المسئولية الفردية للشخص المؤمن عن معتقداته وأفعاله وسلوكياته واختياراته وطريقة عيشه أيا كان دينه، وأنه هو وحده دون غيره المسئول بمفرده عن كل قناعاته الإيمانية وكل سلوكياته الدينية والدنيوية، وأنه هو وحده وبمفرده من سيقع عليه تبعة قناعاته تلك وتبعة سلوكياته الدينية والدنيوية أمام الله يوم يقوم الناس لرب العالمين. فكيف يمارس الإنسان هذا الحق الفردي وهذا التكليف الذاتي؟ وكيف يستشعر هذه المسئولية الفردية وقد حرمته منها فئة بعينها قامت باحتكار وسلب واغتصاب أقدس وأخص حقوقه بل وإعفائه منها، وتحويله إلي شاة يقودها راعِ ينعق بها لتسير حيث يريد هو منها لا حيث تريد هي أن تسير؟

ويمكن القول إن الاحتكار الديني هو الأب الروحي والشرعي الذي فرخ كل ألوان الاحتكارات الأخري، فالاحتكار الديني الذي عشش وفرخ في رؤوس الناس منذ طفولتهم تسبب في ميلاد احتكارات أخري لا تقل بشاعة عن الاحتكار الديني، فالاحتكار الديني قد أدي إلي احتكار فئات بعينها لجميع مناحي وشئون الحياة الأخري، وهو ما نعاني منه جميعا الآن، فما احتكار الحقيقة السياسية والحقيقة الاقتصادية والحقيقة الفكرية والحقيقة الإعلامية وحق التفرد بالسلطة والوظيفة والمنصب وحق التفرد بالصلاحية القيادية إلا إفراز للاحتكار الديني، فنحن شئنا أم أبينا مجتمعات تعتاش وتقتات علي الدين، والدين هو إكسير حياتنا، سواء كان دينا حقيقيا أم توليفة عطار، والغالب الأعم أن من نراهم اليوم في الإعلام الديني لأي دين ليسوا بدعاة دين ولا رجال دين بل هم مجموعة عطارين يرتزقون من آلام الناس وأوجاعهم وجهالاتهم وحماقاتهم.

فثقافة الاحتكار الديني التي يبثها القائمون علي الإعلام الديني اليوم بجميع توجهاتهم الفكرية والدينية علي مسامع الناس ليل نهار وأنهم هم وحدهم ملاك الحقيقة الدينية وهم وحدهم ملاك الفهم الحق للدين من دون الناس جميعا قد أدي وبشكل واقعي وحقيقي أليم إلي فقدان الجماهير الثقة في ذواتهم وفي عقولهم وفي أفكارهم وفي دينهم بل وفي ربهم و في إمكانية تحملهم للمسئولية الفردية عن أي شيء، بل كادوا يصلون إلي فقدانهم الثقة في صلاحيتهم للحياة، مما جعل من يحتكرون حقائق الأشياء لا يجدون كثير عناء في استغفال الجماهير واستحمارهم وامتطاء ظهورهم، مع أن عظمة الدين أي دين وبخاصة الدين الإسلامي وقمة عدالته وواقعيته أن نوه وأكد في عشرات المواضع من القرآن الكريم علي أهمية مسئولية الفرد وحده ليس فقط عن أعماله وسلوكياته واختياراته بل حتي عن فهمه وفكره ومعتقداته وأكد هذه الحقيقة في عدد من المواضع قائلا: (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ). (38- المدثر). (فَيوْمَئِذٍ لَّا يعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ وَلَا يوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ). (25:26فجر). (وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيهَا). (164- الأنعام). (يوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا). (111- النحل). (وَاتَّقُواْ يوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيئاً). (48- البقرة). (يوْمَ يفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيه وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يوْمَئِذٍ شَأْنٌ يغْنِيهِ). (34: 37- عبس).
فخطيئة الاحتكار الديني للدين وقصر فهمه والتحدث باسمه علي فئة بعينها أو أشخاص بعينهم يجعل هذه النصوص هي والعبث سواء.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق