الثلاثاء، 2 نوفمبر 2021

يستغرب المرء فظاعة الصمت الذي اكتنف رحيل حسن حنفي . الرجل أكثر المُفكّرين تهميشاً ونفياً داخل مصر.

الوقائع الدينية وتاريخ الدلالات 

 التاريخ رواية، والرواية رؤية يرويها المؤرخ. فهناك جانب ذاتي في التاريخ. ولا أحد يستطيع الادعاء بأن روايته 
هي ما حدث بالفعل دون نقص ولا زيادة. فالراوي له رؤية، وكل راو آخر من بعده له هو أيضاً رؤيته الخاصة به.. خاصة إذا ما كان قد مر بين الحدث التاريخي وكتابة الرواية حوله عدة قرون. فقد كتبت التوراة في القرن السابع قبل الميلاد في بغداد أثناء الأسر البابلي. كتبها «عزرا» خوفاً من ضياعها إذا بقيت شفاهية. وبين زمن موسى عليه السلام وتدوين التوراة حوالي ستة قرون. وكذلك تقريباً الأناجيل، فهي سيرة المسيح عليه السلام، وقد تم تدوينها بعد أربعين إلى مائة عام مما يسمونه عملية «الصلب». 

عندما تطول الفترة الزمنية على الحوادث وهي في الذاكرة، فإنها تتفاعل مع العواطف والانفعالات البشرية، خاصة إذا كانت الحوادث ذات مسحة قدسية. ومن هنا يأتي التضارب في روايات ما يسمى «الأحاديث الضعيفة». 

وأدوات العصر قد لا تكفي للتحقق التاريخي من الروايات كوثائق، أو للبحث في الوقائع الجغرافية ومواقع التلال والآبار والأشجار في مكة المكرمة والمدينة المنورة وما بينهما وما حولهما حيث دارت أحداث السيرة النبوية، بل إن إحدى أهم الأدوات المنهجية العصرية تتمثل في التفرقة بين الحامل والمحمول، بين الواقعة والدلالة. فقصص الأنبياء تاريخ دلالات بالأساس. وما الحوادث إلا حوامل لهذه الدلالات، لذلك لا يهم طول عصا موسى، ولا عدد حيات سحرة فرعون.. بل المهم دلالة المعجزة ذاتها، أي أن القوة الإلهية قادرة على تعطيل ما أوجدته من نواميس وعلى إخضاع مخلوقاتها من القوى البشرية وقهرها. والدلالات في حياة المسيح أكثر وأقوى: الميلاد من غير أب، المعجزات الكثيرة، ومنها شفاء المرضى، وإحياء الموتى، والبعث، والصعود إلى السماء.. وهي حوادث تاريخية تختلف عليها الفرق والطوائف المسيحية كحوادث تاريخية وقعت في الزمان والمكان، أما دلالاتها الدينية فيفهمها الجميع، ومنها القدرة الإلهية التي تجلت في تلك المعجزات حتى يؤمن اليهود بآخر أنبياء بني إسرائيل وأكثرهم إقناعاً، حتى بنزول مائدة من السماء. الحامل التاريخي لا يتمثله المتدين، فهو حامل يتغير زمانه ومكانه، لكن دلالته ثابتة وعامة، وهي أساساً ما يتمثله المتدين ويستحضره.

ساد المنهج التاريخي في القرن التاسع عشر، والذي حاول المستشرقون تطبيقه على القرآن الكريم بغية إعادة ترتيبه طبقاً لأوقات النزول، وللتمييز بين السيرة النبوية والحديث الشريف، رغم أن الحديث جزء من السيرة. السيرة حركات الرسول صلى الله عليه وسلم وتنقلاته، والحديث أقواله. فالحديث يخرج من بطن السيرة. وقد وضع القدماء مناهج لضبط علم الحديث سموها «علم مصطلح الحديث»، والذي فرّقوا فيه بين المتن والسند، وركزوا على نقد السند، وقسموه إلى «متواتر» و«آحاد». والتواتر له شروط وإلا فهو آحاد. وشروط التواتر العدد الكافي من الرواة، وتجانس الرواية في الزمان، أي أن يكون الحديث معروفاً بنفس الدرجة عبر الأجيال الأربعة حتى ساعة التدوين، استقلال الرواة عن بعضهم البعض منعاً للتواطؤ على الكذب، وأخيراً الإخبار عن حس وليس عن غيبيات لم يرها أحد.

+++++++++++++++

العقل والإيمان.. رؤية جديدة

2020

تحت تأثير الفلسفة الإسلامية، ظهر التيار العقلاني الحديث ابتداءً من ديكارت («أنا أفكر فأنا إذن موجود»)، والدليل الأنطولوجي على وجود الله. واستمر عند الديكارتيين، خاصة «اسبينوزا» الذي رفض إخراج الاستثناءات الديكارتية، العادات والتقاليد ونظم الحكم، من حكم العقل في «رسالة في اللاهوت والسياسة»، وطبّق النقد العقلي على النصوص المقدسة، وانتهى إلى نتائج وخلاصات رفضتها الكنيسة. وأثبت «ليبنتز» التوحيد بالعقل الطبيعي في «المونادولوجيا»، والعدل الإلهي في «الثيوديسيا». ورأى «مالبرانش»، في «البحث عن الحقيقة»، أن قدرة الله تتجلى في كل شيء. ووحد «لسنج» بين العقل والإيمان، بين الدين والطبيعة.. وجعل دين العقل آخر مرحلة في تطور الوحي من الحس (اليهودية) إلى الوجدان (المسيحية) إلى العقل وفلسفة التنوير (الإسلام). وكان «برنشفيج» آخر العقلانيين المعاصرين. فالعقل هو روح التاريخ، ونموذجه الرياضيات، ومعيار الحقيقة فيه الاتساق وقانون الهوية، وهي الصيغة الرياضية للتوحيد. واستمر التيار العقلاني عند «كانط» والفلاسفة من بعده، فالدليل على وجود الله هو مفهوم الواجب والأمر المطلق في «العقل العملي»، وهو الدليل الغائي في «نقد ملكة الحكم». والدين في حدود العقل يكشف عن حضور مبدئي للخير والشر في الإنسان، ثم الصراع بين النفس المطمئنة والنفس الأمارة بالسوء، ثم انتصار الخير على الشر، دون ما حاجة لواسطة بين الإنسان والرب.

فوحّد «شلنج» بين العقل والروح، بين الروح والطبيعة. وأخيراً جاء «هيجل» ووحّد بين العقل والإيمان، بين الله والتاريخ، بين الفن والدين والفلسفة.. تحت تأثير المتصوفة المسلمين.
وأخيراً، ورغم أهمية ثنائية العقل والإيمان، فإنها ثنائية معرفية خالصة، لا تخرج عن دائرة الذات العارفة إلى الفضاء الفسيح والعالم الرحب. وهي الآفاق:

ما طرحه محمد عبده في رسالة التوحيد»
ما وقر في القلب وصدقه العمل 
الوحي واقع وليس تامل

++++++++++++

حسن حنفي.. الحاضر الغائب في حوار "الطيب" و"الخشت"

منذ فجر النهضة العربية، وهي إشكالية الموقف من التراث، وعلاقة الأصالة بالمعاصرة، وكيف نعيش عصرنا دون أن نفقد أصالتنا وهويتنا، وكيف نُعيد للدين رسالته الحضارية والإنسانية، ونجعله رافدًا من روافد تقدمنا، دون أن يكون الفهم الخاطئ لجوهره ودوره مُعوقا لنا.

فرصة للفت الأنظار إلى أهمية الفكر في حياتنا ونهضتنا، وبالتالي دفعنا لإعادة قراءة خطابات النهضة العربية، والجهود الفكرية التي قدمها علماء الأمة المخلصون، والاستفادة من أفكارهم في سعينا لتجديد فكرنا، وإعادة بناء وعينا، والخروج من كبوتنا الفكرية والسياسية والحضارية؛ لكي لا نبدأ مشوار تجديد الفكر المُستهدف من الصفر.

الكتاب الشهير "التراث والتجديد.. موقفنا من التراث القديم".

مشروعه الفكري التجديدي إلى إخراج الحاضر من رحم الماضي، وتوليد الجديد من باطن القديم، حتى نحافظ على وحدة الهوية والشخصية الحضارية، ولكي يصبح الإنسان العربي المسلم الجديد مواطنًا عصريًا يجمع في حياته وفكره وعمله بين الأصالة والمعاصرة.

والدكتور حسن حنفي هو الذي دعا- منذ زمن طويل وبشجاعة منقطعة النظير- لتجديد علم أصول الفقه، وإعادة ترتيب أولوياته؛ لأن كل كتب الفقه تبدأ بالعبادات وتثني بالمعاملات، ولا بد من تجديد يبدأ بالمعاملات قبل كل شيء، ليربط الإسلام بالواقع والعصر وحركة التاريخ، ويوضح للناس موقف الإسلام من القضايا المُستجدة والمشكلات الراهنة.

وقال إن السياسة من هذا المنظور ترتبط بالهوية، والمصلحة الوطنية، والأمن القومي، وتُجسد ثوابت الأمة التي لا سبيل للمساومة عليها.

أما السياسات، فهي متغيرة وراهنة، ولذا يجب أن تدور في فلك السياسة، وتعمل وفقاً لإطارها العام.

وقد قال في هذا الصدد إن عودة الأمة الإسلامية إلى ناصية الحضارة تتطلب البعد عن تركيز الخطاب الديني الحالي عن الغيبيات، لأن في هذا فصلاً للدين عن الواقع وعن مجريات الأحداث وحركة التاريخ، ولا بد من ربط الدين بالحياة؛ ليعود "الوحي" فاعلا في التاريخ.
Sep 3, 2019
*

تراه هذه الجماعات من أهل الضلال. والمترفقون بحنفي أطلقوا على اجتهاداته وصف اليسار، ولم يزعجه الوصف، فكتب عنه!

متأثراً برجل أسبق هو عثمان أمين

كان عثمان ومن بعده حنفي، من المتأثرين بالشيخ محمد عبده إمام التنوير.

 عزلة حنفي الاختيارية في السنوات الأخيرة من حياته لم تغير في قناعاته، ولم تفرض عليه قيودا في تصوراته

*Oct 24, 2021

لعل أهمها في ميدان فلسفة الأخلاق إمام عبد الفتاح إمام، صاحب كتاب "الطاغية"، الكتاب العلامة في تشريح ظاهرة الطغيان والاستبداد في الشرق.

يتبنَّى حنفي رؤية الفيلسوف الألماني فريدريك هيغل، في معنى الوعي التاريخي، وخلاصتها أنَّ التجربة التاريخية تؤثر بعمق في تشكيل وعي الإنسان وذهنيته. هذه حقيقة لا يسع الإنسان الحديث إنكارها. 

نحن الآن نتعلَّم الكثير من الغرب. لكنَّنا لا نساهم جدياً في مسارات الاختراع والاكتشاف والتطوير؛ لأنَّنا داخل الإطار التقني لحضارة الغرب، لكنَّنا خارج إطارها الثقافي. لعلَّنا خدعنا أنفسنا حين تصورنا أنَّ مئات الآلاف من الأطباء والباحثين الذين درسوا في الغرب، أو اتبعوا المنهجَ الغربيَّ في البحث العلمي، سوف يشكلون، في نهاية المطاف، مجتمعاً لعلم الطب، شبيه بذلك القائم في الغرب، مجتمع ينتج العلم ويساهم في البحث والابتكار مثلما تساهم الأكاديميات ومراكز الأبحاث الغربية.

لكننا نعلم أنَّ هذا لم يحدث، رغم مرور قرن من الزمن على اتصالنا بالغرب، في هذا المجال العلمي، وفي غيره. ما تحقق فعلياً هو أنَّ أولئك الباحثين والعلماء أقاموا «توصيلة» لعالم الطب الغربي، يشبه توصيلة التلفون، أما السنترال، فما زال هناك، وسيبقى هناك.

الطريق السليمة هي «عصرنة» الثقافة العامة، أي إعادة وصلها بعالم اليوم وما فيه من تيارات وعلوم وهموم. وهذا يتطلب – بالضرورة – التحرر من الارتباط القسري بالموروث، وتحويله إلى موضوع يتحكم فيه الإنسان ولا يسلم له أو يخضع لإملاءاته. سيطرة الإنسان على حياته وخياراته هي الخطوة الأولى لإعادة بناء ثقافة تمدُّ جذورها في أعماق الماضي، وتتشابك في الوقت نفسه مع تيارات الحاضر.

عندما تُوفي أستاذنا الدكتور حسن حنفي قبل أيام، تذكرت أنّ أول كتابٍ قرأته له مطلع السبعينات كان ترجمة لرسالة في اللاهوت والسياسة لاسبينوزا، مع دراسة تقديمية تُضاهي النصّ الأصلي في الحجم أو تزيد عليه. ومن يومها، استقر في أذهاننا انطباعٌ عنه أنه متخصص في الفلسفة الأوروبية الحديثة. وما علمتُ إلّا في الثمانينات من القرن الماضي أن أطروحته عند المستشرق برونشفيك بالسوربون كانت عن أصول الفقه. وهو على أي حال، تخرج في قسم الفلسفة بجامعة القاهرة في مطلع الخمسينات.

خطة حسن حنفي التراثية مختلفة تماماً عن خطة محمد عابد الجابري،

 يعتمد المقاربة التي تقع بين الإبستمولوجيا والتأويل؛ إنما عند الجابري بقطيعة، وعند حنفي من دون قطيعة. وفي حين يصير الجابري إلى صرامة منهجية منذ البداية، ثم يعود فيعدل عنها في المجالين السياسي والأخلاقي، متجاهلاً تيارات «العقل العربي» الثلاثة التي افترضها (عند محمد أركون: العقل الإسلامي)، فإنّ حسن حنفي يظلُّ مُصراً على التحرير الإبستمولوجي أو الفينومولوجي في كل مجالٍ معرفي، وبشكلٍ منفصلٍ، عبر المداخل المتنوعة بحسب تقديره لموضوعات كل علم.
ما المشكلة أو القضية المركزية في التراث، أو الموروث العربي أو الإسلامي، ليس لدى الجابري وحنفي فقط، بل لدى نحو عشرين دارساً عربياً عرضوا رؤى مختلفة لتحرير التراث أو التحرر منه خلال ثلاثة عقود؟

القضية المركزية أو المشكلة الرئيسية في نظر الجميع هي التقليد. وهؤلاء يرون أنه تجمد، وصار مسؤولاً عن الانحطاط من زمان. وفي حين يقترح الجابري وحنفي حلولاً انتقائية للتحرر والتحرير، فإنّ دارسين بارزين (مثل أركون) يعتمدون رؤية تفكيكية راديكالية تصم سائر الموروث بأنه قيدٌ على التقدم ودخول الحداثة.

 وأخيراً، فإنّ هناك دارسين كباراً (مثل عبد الله العروي وعلي أومليل) يعدون أنّ المقاربة التأويلية، كما مع كل موروثات الأمم العريقة، هي المسار الصحيح للخروج من الانسداد في النظر إلى الملف التراثي.

ا اهتممنا كل الوقت بنقض الموروث، ولم نهتم حقاً بالحاضر!

*

أنتج الأول رباعية "نقد العقل العربي"، وساهم الثاني بأبحاثه في "نقد العقل الإسلامي". أما حنفي فقد أدرج مختلف أعماله ضمن الخطاطة العامة التي رسم ملامحها في كتابه "التراث والتجديد" (1980)

خصوماته العديدة مع تياراتٍ سلفية رأت في اليسار الإسلامي قناعاً يخفي مواقف أخرى

ترجمته كتاب سبينوزا "رسالة في اللاهوت والسياسة" (1971)، وترجمته كتاب ليسينغ "تربية الجنس البشري" (1981) ومجموع أبحاثه في الفلسفة الغربية الحديثة والمعاصرة، المُتضمَّنة في الجزء الثاني من كتابه "دراسات فلسفية" (2014)، وما كتبه عن فِخته وبِرْغسون وسارتر، ومقدمته في علم الاستغراب (900 صفحة) الصادرة في طبعتها الأولى سنة 1991، تعكس كلها، بكثير من الجلاء، صور انخراطه في محاورة بعض أسئلة الفلسفة وقضاياها.

*1

أتمنى أن ألقى من كتبت عنهم: فشته وبرجسون والأفغاني وإقبال. وأتمنى أن ألقى أساتذتي عثمان أمين وجان جيتون، وطلابي نصر حامد أبو زيد وعلي مبروك. وأتمنى أن أرى أولادي… وأحفادي… أتمنى أن يغفر الله الذنوب ويعفو عني، وأن آتيه بنية صافية (يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم). أتمنى ألا يكون في القبر وحشة بل أنس.

 التحول من عالم الغيب إلى عالم الشهادة، ومن لغة اللاهوت (إله، رسول، ثواب، حساب، عقاب، ملاك، شيطان،…) إلى لغة "أكثر عقلانية وانفتاحا وإنسانية" (الإنسان، العقل، النظر، العمل، الفضيلة…). فهو يرى أن اللغة الأولى لغة مغلقة وخاضعة للرمز الديني، بينما الثانية يمكن لأي فرد -أيا كانت ثقافته- أن يعقلها.

مقتضى كلام حنفي -بحسب الزرقا- التسوية بين المؤمن والكافر، وأن تتحول مسائل الإيمان والكفر إلى مجرد رياضة فكرية أو فلسفيّة.
الشيخ مصطفى الزرقا 

في الستينيات تنامى التحول نحو الاشتراكية الثورية وتفاقمت -على إثره- القطيعة بين الإسلاميين والدولة التي سميت "وطنية" أو "قومية"، ثم جاءت هزيمة 1967، فـ"انكسرت آمال وسُدّت آفاق وتحطمت آراء ونظريات، وانطرح البحث في المسلّمات السياسية والفكرية والاجتماعية لدى كلّ ذي لبّ"، بحسب تعبير أستاذنا طارق البشري -رحمه الله- الذي كان من ضمن من تحوّلوا من الفكر اليساري إلى الفكر الإسلامي في السبعينيات التي شهدت اعترافا من جانب بعض التقدميين بضرورة بناء ثقافة عربية ذاتية تعيش العصر وهمومه ومشكلاته، ولا تتنكر لذاتها وخصوصيتها الثقافية والحضارية.

صراع الأيديولوجي ضد "الرجعية الدينية" (ممثلة بالإسلام السياسي) من جهة أخرى. وقد كان الإسلام السياسي يعارض الحلين المعروضين معا، ويعرض حلا ثالثا هو "الحل الإسلامي". وربما اعتبر بعض حَمَلته أنفسهم امتدادا لإصلاحيي القرن الـ19 الذين حاولوا -بدءا من رفاعة رافع الطهطاوي ثم محمد عبده ومدرسته-

مشاريع قراءة التراث 

المقاربة الأولى: ثورية أو تثويرية، وتتضمن توجهين؛ الأول انتقائي حاول إبراز الجوانب التقدمية في التراث بما ينسجم مع التوجهات الثورية السائدة في مرحلة السبعينيات كما نجد لدى حسين مروة (1974)، ومحمد عمارة في مرحلته الأولى (1974)، وطيب تيزيني (1978). والثاني تركيبي حاول إعادة بناء علوم الإسلام لتتلاءم مع الواقع وتخدم حاجات الحاضر في التأسيس لنهضة شاملة على مقاس تصورات أصحابها وانحيازاتهم، كما نجد لدى حسن حنفي على وجه الخصوص. والسمة الغالبة لهذا التوجه هي الأفكار الماركسية التي شكلت -فيما بعد- مرجعية محمد شحرور الذي حاول في التسعينيات إعادة صياغة إسلام جديد بأصوله وأركانه وأحكامه ويوضح لنا الشريعة التي لم نفهمها لا نحن ولا أجيال العلماء لقرون مضت!.

المقاربة الثانية: تفكيكية؛ بهدف تحرير "العقل الإسلامي" من سلطة الماضي المتمثلة في النص الديني والنص التراثي عامة؛ وهي خطوة ضرورية للتحديث المنشود كما نجد لدى محمد أركون من خلال مشروعه الذي سماه "الإسلاميات التطبيقية" والتي طبق فيها جملة كثيفة من المفاهيم والمناهج الغربية.

المقاربة الثالثة: مقاربة تجزيئية تقويمية، تفتش في "العقل العربي" عن الجذور والأصول، وتبحث في عناصره ومكوناته المختلفة بمفاهيم غربية أنتجت لتراث غير التراث وفي سياق غير السياق، لتنتقي منه الجوانب العقلية البرهانية وتستبعد ما عداها (أي البيان والعرفان). وترى هذه المقاربة أن العقلانية هي البداية الضرورية لتحديث "العقل العربي"، وأن التراث هو ساحة المعركة الحقيقية مع الإسلاميين لانتزاع سلطته منهم ومن ثم كسب الجمهور، ويمثل هذه المقاربة محمد عابد الجابري.

 تحول التراث إلى مشكلة وأداة في المعارك الأيديولوجية بعد أن كان لعقود سبقت حقبةَ السبعينيات عنوانا لنهوض ثقافيّ عام لا يجد أيّ حرج أو إشكال في العودة إليه 

ويمكن أن يُقرأ مشروع حنفي تحديدا على أنه محاولة للعودة إلى "أصول" تشكل وجدان الجمهور، ومن ثم حاول تحليل الوعي الديني الذي يراه أشبه بوعي مغترب في الزمان والمكان، وثمة حاجة إلى تحويله إلى وعي إنساني متناسق لإعادة بناء الحضارة، واكتشاف الإمكانات الذاتية عبر تغيير محاور الاهتمام متوسلا بإعادة بناء العلوم من أجل ذلك، في حين انشغل غيره من قراء التراث بمناهج التحليل البنيوي والتاريخي.

وبناء على هذه الرؤية الشعورية، يتم التمحور حول الإنسان بدلا من التمحور حول الله، وحول تحرير الأرض بدلا من التمحور حول توحيد الله، وهكذا…، فالجنة والنجاة تكون هنا على الأرض.

نحو الفردوس الأرضي المفقود، ولكن يبدو أنه عاد في الفقرة الافتتاحية التي كتبها في ذكرياته (1935-2018) إلى اللغة التي دعا هو نفسه إلى التحول عنها، وهي اللغة اللاهوتية التي سبق أن وصفها بالانغلاق، وهي لغة رؤية الله، وضغطة الموت، ووحشة القبر وأنسه، والمغفرة، والذنوب، والنور والظلام. نسأل الله لنا وله الرحمة.

*

والمُدافع بقوّة عن الإسلام الحضاري، بعيداً عن نظيريه السياسي والطائفي

الثقافة العربيّة بدت كأنّها تُمارس موضة سلفيّة في حقّ رحيل مثقّفين ومُفكّرين، من دون أنّ تُفكّر مؤسّسات مصرية وغيرها في فتح النقاش أكثر بين الباحثين العرب حول قدرة حسن حنفي على تجديد طبيعة الفكر العربي المعاصر في قضايا وإشكالاتٍ تتعلّق بالهويّة والنهضة والحداثة والإسلام والتراث واليسار. صاحب «اليمين واليسار في الفكر الديني» ينتمي إلى طليعة المُفكّرين العرب الذين راكموا متناً قويّاً في إرساء فكر متماسك مع التراث العربي الإسلامي، مثل المغربي محمّد عابد الجابري (1935-2010) والتونسيّ هشام جعيط (1935-2021) والجزائري محمّد أركون (1928-2010) والسوري الطيّب تزيني (1934-2019)، لكن كلٌّ من وجهة نظرٍ مُحدّدة ومُتباينة إلى التراثين الفلسفي والتاريخي العربيين.

مشروعه تجديد المخزون النفسي التراثي عند الجماهير

تُعلي من قيمة العقل وتحجب كل تفكير ميتافيزيقي. لقد انتمى صاحب «في الفكر الغربي المعاصر» (1977) إلى زمنٍ لم تكُن فيه العولمة («الإنجيل الجديد» كما يُعرّفها المفكّر سمير أمين) قد بدأت تكتسح الطوبوغرافية العربيّة. 

الإصلاح السياسي أكثر من مراجعة الموروث الفكري العربي وقت الاستعمار العربي
قطيعة منهجية في النّظر إلى التراث العربي جرّاء دخول مفاهيم غربية في مقاربة المفهوم (المنهج الماركسي مع حسين مروة والطيّب تزيني مثلاً) تقوم على ابتداع مشروع فكري جديدٍ يُوازي في خطابه بين أصالة الثقافة العربيّة الإسلامية وحداثة المنهج التاريخي الحفري المُستمدّ من الغرب.

اعتبره الإسلاميون مثقّفاً يسارياً، واليساريون مُفكّراً إسلاميّاً تنبثق أفكاره ومواقفه من المرجعيّة الإخوانية

الثمانينيات مفهوم «الأمن الثقافي» للمُفكّر المغربي عبد الإله بلقزيز، كواحدٍ من المفكّرين العرب الذين لامست كتاباتهم مؤلّفات حسن حنفي على صعيد مفاهيم التجديد والتراث والعروبة والإسلام والهويّة، وتقاطعت في أحيانٍ كثيرة على مستوى المنهج أو الخلفية الإبستمولوجية التي أسّست مسار كل واحدٍ منهما. 

 في «الأمن الثقافي»، يدعو عبد الإله بلقزيز إلى ضرورة تجديد التراث وتحصين تاريخ الثقافات الوطنية من التشتّت والانحلال في ثقافة الآخر، حيث غدا مفهوم الهويّة مُهدّداً، لا من الغزو الكولونيالي فحسب، كما حدث بين الثلاثينيات ومطالع ستينيات القرن الماضي، إنّما هذه المرّة من لدن العولمة وقدرتها على الاستفحال داخل الثقافات المحلّية وتفكيك لغاتها وآدابها وفنونها. أيْ كلّ ما يضرب في صميم الهويّة العربيّة،

نظره صورة «استشراقيّة» تهدف إلى تثمين سيطرة الغرب على العرب ومدن الشمال على الجنوب، بما يجعلها تكتلاً اقتصادياً قويّاً مبنياً على ثقافة الترفيه والصورة والاستهلاك. ذلك أنّ أخطر ما قد يُواجه العرب في نظر حنفي هو تلاشي وإمحاء هويّتهم الثقافيّة الرمزية وذوبانها في ثقافة الآخر الغالب. لذلك يطرح في كتابه المُشترك مع صادق جلال العظم «ما العولمة؟» (....) إمكانية الحديث عن مقاربة نوعية لظاهرة العولمة من زاوية إسلاميّة بما أنّها ظاهرة تاريخيّة.

 كتابة واحدة ذات ملامح معاصرة تغوص في التراث العربي القديم، لكنّها لا تذوب وتتلاشى في غيبوبة ماضيه. ذلك أنّها تبقى متيقّظة، حذرة، ممسوسة تجاه الانتماء إلى الحداثة والمناهج الغربية المعاصرة، التي تسلّح بها في رحاب جامعة «السوربون»، حيث درس وتتلمذ على يد أقطاب الفكر الفلسفي الفرنسي.

الرجل أكثر المُفكّرين تهميشاً ونفياً داخل مصر.

 نقدٍ لاذع للكتابات الاستشراقية داخل مدرّجاتٍ ومُؤتمراتٍ وندوات ومجلات وجرائد ومواقع، بقي يكتب فيها لغاية وفاته.

حنفي آمن بأنّ نجاح مشروع فكري، لا يتمثّل في زيارة المؤتمرات وانتزاع اعترافاتٍ من جامعات ومراكز بقوّته وأصالته داخل البحث العلمي، وإنّما يعود أساساً إلى القوّة الخفيّة الساكنة التي يُحدثها فكر المشروع في أجساد القوى الشعبية والمؤسّسات الرسميّة والأطراف السياسيّة للثورة على الوضع القائم والتطلّع صوب مجتمعٍ مُغايرٍ. هنا يُصبح الفكر الفلسفي قائماً على التجدّد لا من ذاته كما في علم المستقبليات أو مرحلة ما بعد الفلسفة، لكنّه ينبثق من داخل النسيج الجماهيري ومدى تغلغل أفكاره ومفاهيمه ورؤاه في نسيجه الاجتماعي.

 يُفسّر كل شيء في التراث من منظورٍ تاريخاني، من دون تحيّزٍ أو تخدنقٍ أو تقوقعٍ داخل شرنقة الدينيّ أو فداحة السياسيّ، وإنّما حرص على اللعب/ التفكير بين الأمرين.

مُفكّر الخطاب المُزدوج، فهو في نظر الإسلاميّين مثقّف يساري، وعند اليساريّين بأنّه مُفكّر إسلاميّ

 هذا التصنيف «اللامعرفي» الذي تشدّقت به أقلام عدّة تجاه حسن حنفي، لم تكُن مرجعيته علمية وفكريّة، بل فقط ذات بعد سياسيّ وتارة إيديولوجيّ نابع من السُلطة المصرية التي حجبت لسنوات مؤلّفات حنفي بمعيّة الإعلام الرسمي، حتى لا تصل إلى الناشئة داخل مصر.

فكره التجديدي التحرّري من المعتقدات، مُراهناً على ضرورة خروج العرب من شرنقة النقل إلى رحابة العقل، بحيث تدخل الأمّة العربيّة مرحلة الإنتاج والإبداع والنقاش والتثاقف المبني على العقل ومكانة الفرد وحريّته في الاختلاف،

تفسير التراث طبقاً لحاجات العصر، فالقديم يسبق الجديد. والأصالة أساس المعاصرة، والوسيلة تؤدي إلى الغاية. التراث هو الوسيلة، والتجديد هو الغاية وهي المساهمة في تطوير الواقع، وحلّ مشكلاته، والقضاء على أسباب معوقاته،

إخضاعه للمنهج الفينومينولوجيّ (الظاهراتي). وهنا يكمن سرّ حنفي في تشريح الخطاب الديني

من المُفكّرين العرب، الذين ينتمون إيديولوجياً إلى التيار «التوفيقي» الذي زاوج بين اليسار والإسلام، ما جعله في الثمانينيات يُصدر مجلّة بعنوان «اليسار الإسلامي»

 الدين الذي يُعدّ الرأسمال الرمزي للحياة الروحية في العالم العربي.

 محمد عابد الجابري، محمد أركون، نصر حامد أبو زيد، جورج طرابيشي، محمد شحرور، هشام جعيط، محمد سبيلا 

القوة هي قوة الفكر

 مشروع بديل للفكر الغربي
خالد زيادة
(مؤرّخ وباحث ـــ لبنان)

 «النقد المزدوج» بتعبير الراحل عبد الكبير الخطيبي


 في أرض «النقد المزدوج»
منتصر حمادة
باحث في الخطاب الديني (المغرب)

الراحل اجتهد في التوفيق بين نقد بعض أدبيات المدونة التراثية، ونقد بعض أدبيات التراث الغربي، في سياق البحث عن بديل إسلامي نظري، يتجاوز الثنائيات الإصلاحية السائدة في مصر والمنطقة، والمؤسَّسة إجمالاً على اتجاه ينتقد المدونة التراثية العربية الإسلامية، منتصراً للطرح الغربي (الأوروبي على الخصوص) في سياق البحث عن معالم إصلاحية محلية وإقليمية، ومن بين رموز هذا الاتجاه، نجد محمد أركون ونصر حامد أبو زيد وعبد المجيد الشرفي.

وفي مقابل ذلك، هناك اتجاه يكاد يكون مضاداً، يراهن ولا زال على نقد المدونة الغربية، مع دفاع كلي عن الأدبيات التراثية، ومن ذلك الدعوة إلى ما يُسمى «أسلمة الحداثة». اتجاه لا يهم ظاهرة الحركات الإسلامية وحسب، ما دام الأمر يتعلق بأقلية مجتمعية، وإنما يهم العديد من المفكرين في المنطقة (مالك بني نبي، محمد حسين فضل الله، طه عبد الرحمن..)، وما يصب عملياً في مصلحة الاتجاه الثاني، هو كثرة المراكز البحثية التابعة له، التي تشتغل على ما يُسمى «أسلمة المعرفة»، في نسختها الإيديولوجية على الخصوص، كما هي الحال مع العديد من المراكز البحثية الخليجية والمغاربية.

عانى الراحل من غياب أو تواضع ثقافة الاعتراف بمنجزه العلمي الكبير

 نواة إطلاق «اقتصاد المعرفة» وبالتالي الشروع في تأسيس «مجتمع المعرفة»، أن مشروع «علم الاستغراب» الذي اشتغل عليه حسن حنفي في كتابه الشهير «مقدمة في علم الاستغراب»، كان مصيره التجاهل، سواء من طرف السواد الأعظم من المفكرين والباحثين، لاعتبارات عدة، إما إيديولوجية أو شخصية؛ 

 مفتون سبينوزا
حسونة المصباحي
(كاتب ـــ تونس)

ظل محافظاً على وفائه لسبينوزا حتى اللحظة الأخيرة من حياته. وتحت تأثيره

فكرته الأساسية تقوم على أن الدين لا بد أن يكون نافعاً ومفيداً للإنسان على الأرض... أما السماء فللّه وحده. غير أنه لم يفلح في فرض فكرته هذه لأن الحركات الأصولية تمكنت من إقناع الأغلبية الساحقة من المسلمين بأنه يتوجّب على المؤمن الحقيقي أن يسخّر دنياه لآخرته، وأن الموت في الجهاد هو ما يبتغيه الله من المسلم.

هذا ما كان يؤكده بن لادن عندما كان يقول مخاطباً الغربيين المسيحيين واليهود: «نحن نحب الموت كما أنتم تحبون الحياة».

 الجزائري -الفرنسي محمد أركون، والمغربيين عبد الله العروي، ومحمد عباد الجابري، والتونسي هشام جعيط وآخرين. وجميع هؤلاء سعوا من خلال مختلف التيارات الفلسفية الغربية إلى صياغة مناهج فكرية بهدف إحداث «صحوة» عربية جديدة تُعيد الاعتبار للعقل، وتحرّض على الاجتهاد في الدين، وتنسف الفتاوي والمواعظ الصفراء التي تُمطر بها الحركات الأصولية الناس يومياً من أعلى منابر المساجد، وأيضاً في الجامعات والمؤسسات وحتى في الأرياف التي تكاد تكون مقطوعة عن العالم... غير أن هؤلاء المفكرين «التنويريين» فشلوا في التأثير في الجماهير العريضة، وظلت أفكارهم منحصرة في الحلقات الضيقة داخل الجامعات تحديداً...

 امتداد عصري لتراث الفقهاء
خديجة صبار
(أكاديمية وكاتبة ـــ المغرب)

واحتل موضوع الفقهاء مكانة هامة في مقالاته، لاسيما وهو ينظر إلى نفسه في كثير من الأحيان على أنه امتداد عصري لتراث الفقهاء.

تحول المشروع القومي العربي من مناهضة الاستعمار الغربي والاستيطان الصهيوني إلى الاستسلام  من الدفاع عن الحريات إلى القهر والتسلط، من وحدة الأمة إلى تحزب وطائفية وحروب أهلية، وتفتيت الأقطار، من تجنيد الجماهير وإدخالها في أتون المعركة إلى نوع من إبعادها ليبقى المشروع في أيدي الطبقة الحاكمة.

جرّبنا التيار الليبرالي والإسلامي المحافظ وتحالفات الأحزاب التقدمية والقومية، فلم نجنِ سوى المزيد من احتلال الأرض والقهر والتفاوت الطبقي، ومحاولة تفكيك المنطقة كأن مشروعنا القومي يحوي في داخله باستمرار مشروعاً مضاداً. والسبب هو فقدان الوعي التاريخي، علماً أنّ لا وعي سياسياً بلا وعي تاريخي، والعجز عن التحول في نظرية المعرفة، تراث السلطة المقنع بالأدوات الديمقراطية لا يزال هو السائد.

كلما ازداد الشعور بالقطيعة مع القديم، ازداد التغريب فينشأ وعي حضاري معاكس يتمسك بالقديم كله، ويرفض المعاصرة فتنقسم الأمة إلى فريقين، والواقع هو الخاسر.

الهوية مقابل التغريب والتبعية والتقليد، باعتبارها مقوم النهوض المستقل. امتد التغريب إلى حياتنا الثقافية واللغوية، واللغة سلطة، فالاستعمار حينما يحتل بلداً ما، فإنه يلغي لغة الشعب الوطنية، ويفرض تعلم لغة المستعمر ليفرض سلطته. وإحدى مهمات التحرير هي استعادة اللغة الوطنية بما هي التعبير الأصيل عن الهوية من دون الوقوع في مخاطر الانغلاق على الذات ورفض كل مساهمة للغير/ الحريات العامة ضد صنوف القهر والتسلط الداخلي، والعدالة الاجتماعية في مواجهة الفجوة العميقة بين الأغنياء والفقراء/ الوحدة في مواجهة التجزئة والتشتت والتشرذم. 

وتجزئتنا إحدى أهم مآسينا وعجزنا عن مقاومة أشكال الاستعمار الجديد. الاستقلال الوطني سياسياً واقتصادياً وثقافياً وحضارياً، مع إعادة التوازن للثقافة الإنسانية. تقوية الجماهير وتجنيد قواها وطاقاتها مقابل اللامبالاة والفتور وعدم الاكتراث، التقدم في مواجهة التخلف والديون الخارجية والاستيراد عوض الإنتاج، فقدان قيمة الفرد والوعي بأهمية الواجب مقابل الحقوق: فالتقدم والحداثة في الغرب يعنيان الركود والبؤس والذل في عالمنا، فإستراتيجية الغرب تهدف إلى القضاء على الآخر: استعمار ونهب وتفكيك البنيات، وقتل قيامها الروحي الذي يمكّن من استئناف المقاومة لأنه ضامن البقاء المستقل للذات. 

 إعادة بناء الإنسان
نسرين بوزازي
(باحثة ـــ تونس)

 المفكّر الموسوعي

 امتلاك سلطة قرارها والتحرّر من وطأة التبعيّة للآخر الغربي.

 ثقافة الجبر والقضاء والقدر التي دأب القدامى على استغلالها لتفسير علّة أفعال الإنسان ومتعلّقات حياته، فضلاً عن توظيفها في المجال السياسي وتبرير الهزائم والفشل. وللإحاطة بالمسألة في مختلف أبعادها،

خطورة عقيدة الجبر ولفت الأنظار إلى خطورة الفكر الأشعري القائم أساساً على ادّعاء التوسّط بين الجبر والاختيار في حين أنّه فكر أقرب إلى المقولة الأولى منه إلى الثانية.

سلسلة “معالم الحداثة ” التي يديرها الدكتور عبد المجيد الشرفي صدر مؤخرا للباحثة نسرين بوزازي كتاب بعنوان  : “مفهموم الجبر بين الديني والسياسي في الصراع الأموي الجهمي ” .

حلم اللحاق بركب الحداثة من دون تحرير الإنسان العربي وتمكينه من تفجير طاقاته الإبداعيّة. وهو ما يشترط ضرورة تفعيل قيم التعايش السلمي في الدولة الحديثة عبر إرساء الأنظمة الديمقراطيّة وتفعيل منظومة الحقوق والحريّات.

*
حسن حنفي أم محمد صلاح 

 حسن حنفي، كما أبناء جيله من مجدّدي الفكر الإسلامي، سواء منهم الصريحون والمباشرون، مثل نصر حامد أبو زيد وفرج فودة، أو غير الصريحين وغير المباشرين مثل سيد القمني، تقدّم خطوة في درب التحلّي بالشجاعة لنقد الموروث الديني خلال النصف الثاني من القرن العشرين، ذلك الدرب الذي كان طه حسين ومجايلوه قد تقدّموا فيه بخطوة سابقة، بعد الخطوة الافتتاحية التي قدّمها رفاعة الطهطاوي في ثلاثينيات القرن التاسع عشر، وتبعه فيها جيل الرواد الذين كان معظمهم من علماء الدين المجدّدين.

حسن حنفي وجيله فضلا كبيرا في المسيرة الفكرية لمشروع النهضة العربية.

صلاح ـ بمنجزه الرياضي/ بمهارة اللعب التي لا تتجاوز بضع سنوات ـ بات يجني ملايين الدولارات شهريا، بينما حنفي، وفي سنوات إنجاز معرفي ثقافي تُناهز الستين عاما، لم يجن من كل ما قرأ وكتب ودرّس وحاضر وحاور؛ إلا الفقر الحرمان والإهمال؛ مقارنة بما حظي ـ ويحظى به ـ صلاح. 

 فبعض نجوم السينما، (حتى في عالمنا العربي الفقير فنيا)، يحصل فنان ناشئ ـ حالفه الحظ ذات فِلْمٍ تهريجي واحد ـ على ما لم يحصل عليه أهم وأكبر عشرة مفكرين عرب طوال حياتهم، بما في ذلك كل الجوائز التي حصلوا عليها، أو تلك حلموا ـ ذات تفاؤل حالم ـ بالحصول عليها !

يقول الأديب المصري الكبير، توفيق الحكيم، وهو المعروف بكونه كارها لكرة القدم: ‏لقد انتهى عصر القلم وبدأ عصر القدم؛ يأخذ اللاعب في سنة واحدة ما لا يأخذه كل أدباء مصر من أيام أخناتون حتى الآن. وفي ظني أن الحقيقة أشد إيلاما مما قاله الحكيم هنا، فاللاعب يأخذ في ساعة ونصف مباراة واحدة، ما لم يأخذه كل أدباء العالم العربي. 

إن التفاوت بين مداخيل نجوم الرياضة ونجوم الفن من جهة، والأدباء والمفكرون من جهة أخرى، هي حالة طبيعية مشروطة بمستوى الجماهيرية التي يتوفر عليها هؤلاء وأولئك. ومن هنا فهي ليست حالة عربية خاصة، بل حالة إنسانية عامة، وراسخة الجذور، حالة موجودة منذ فجر التاريخ وإلى اليوم، وعلى امتداد العالم. لكن، ما ليس طبيعيا، هو هذا الفرق الهائل بين عالمين مرتبطين بواقعنا: عالم اللهو واللعب وعالم الجد والعمل

 محفوظ، في بداياته، إذ يقول عن نفسه ـ كما ينقل عنه رجاء النقاش ـ أنه اشتغل حينا من الدهر عن الأدب الذي لم يجن منه شيئا، بكتابة السيناريو لبعض الأفلام، وأن هذه الكتابة بدأت تُدِرّ عليه من المال أضعافَ ما يجنيه من وظيفته الحكومية المتواضعة، مما جعله ينخرط فيها بقوة؛ مبتعدا عن عالم الأدب/ عالم الكتابة الروائية؛ حتى يقول عن نفسه متذكرا تلك المرحلة: ظننت أني انتهيت كأديب. هكذا كاد أن ينتهي، ولم ينقذه من ذلك إلا إحساسه بخطر هذا الاستدراج ـ المغري ماديا ـ على موهبته الأدبية، وهو الإحساس الذي جعله يعتزل هذا النوع من الكتابة المبتذلة العابرة؛ لصالح الكتابة الأدبية الخالدة التي منحته نوبل في نهاية المطاف.

 فالمفكر العربي الكبير، عبد الوهاب المسيري، لم يستطع دفع تكاليف علاجه في السنوات العشر الأخيرة من عمره، فكان علاجه بـ"تبرّع"، وكذلك، محمد عابد الجابري، كان علاجه ـ عندما مرض ـ بـ"تبرّع"، ومن قبلهما الشاعر، أمل دنقل، كذلك...إلخ القائمة المؤلمة. ومن المحبط جدا أن يكون المفكر أو الأديب محل "مساعدة" أو "تبرع"، أو يكون في انتظار "مساعدة" أو "تبرع"، إذ الأصل أن يعتاش ويكتفي بحقه الخاص/ حقه الأصيل. 

ليس معنى هذا أن يكون ثمة قرارات أو تنظيمات تضع الأدباء والمفكرين في مصاف اللاعبين والفنانين، إذ هذا غير مُتصوّر أصلا. وحتى محاولة ضمان الاكتفاء الذاتي لهؤلاء المفكرين والأدباء لا تكون بالتنصيص المباشر على ما يجب أن يكون لهم، فالمسألة ـ برمتها ـ تبدأ من موقع الفكر والثقافة في الوعي العام، تبدأ من طبيعة السوق الثقافي. فإذا كانت طباعة 300,000 نسخة من الكتاب في الولايات المتحدة هي الوضع الطبيعي/ المعتاد، فإن طباعة 3000 نسخة من الكتاب في العالم العربي هي الوضع الطبيعي/ المعتاد، مع أن عدد سكان العالم العربي يتجاوز عدد سكان الولايات المتحدة. هنا المشكلة وهنا الحل، مِن هذا "الكساد" لسوق المعرفة والأدب تبدأ الحلول، وهي حلول متعددة الأبعاد بالضرورة؛ من حيث أن هذا "الكساد" بطبعه متعدد الأبعاد.    


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق