Sep 30, 2019
الفلسفة
فلم يكن فلاسفة الإسلام الكبار مجرد مترجمين لفلاسفة اليونان، بل كان لهم الدور الأساسي في بلورة تحول نوعي في مشروع الميتافيزيقا الأرسطي من خلال المرجعية العقدية الإسلامية، بما عكسته المقاربة السينوية من تمييز بين الماهية والوجود، والتي حددت تاريخياً تشكل السردية الفلسفية الحديثة.
كما أن منظورهم للمنطق لم يكن تقليداً للمنهج الأرسطي، وإنما توظيفاً صورياً لمعايير العلم البرهاني في ضبط مسائل التشريع (أصول الفقه) والتأويل (تفسير النص) وفق حاجيات بناء منظومة علمية دقيقة في التقليد الإسلامي.
لقد أدرك رواد النهضة والإصلاح من العرب أهمية الدرس الفلسفي في تحديث المجتمعات العربية الإسلامية، وتكفي الإشارة هنا إلى دور الإمام محمد عبده وتلميذه مصطفى عبدالرزاق في بناء مدرسة فلسفية حديثة في مصر، ومن قبلهما دشن الطهطاوي الترجمة الفلسفية بتعريب عدد من نصوص التنوير الأوروبي الهامة.
جمال عبد الناصر كان من قراء عبد الرحمن بدوي، وقد تأثر بكتابه حول نيتشه الذي شدد فيه على صورة البطل صانع التاريخ
وفي تونس، كان بورقيبة شغوفاً بالفلسفة، مطلعاً على فكر التنوير الأوروبي ومتأثراً بوضعية أوغست كونت، كما كانت تربطه صداقة مكينة بالفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو الذي درّس في الجامعة التونسية في أوج عطائه، ولا شك أن كثيراً من قراراته الاجتماعية الجريئة كانت من وحي هذا التأثير الفلسفي.
عش التطرف والتعصب هو كليات العلوم والتقنيات التي استولت عليها الجماعات المتشددة نتيجة لغياب التأطير الفلسفي، مع العلم أن الأفكار والأطروحات العلمية بما فيها التصور التجريبي للطبيعة نفسه نشأت في الحقل الفلسفي.
*
الدين والفلسفة.. الجدل الجديد
يورغن هابرماس هو دون شك أهم فلاسفة الغرب الأحياء، احتُفل مؤخراً على نطاق واسع في بلده ألمانيا وفي كل أوروبا ببلوغه سن التسعين، وقد أصدر بالمناسبة كتابه الوصية المتوج لمساره الفكري الاستثنائي، وهو عمل ضخم من مجلدين بعنوان «تاريخ الفلسفة»، ركز فيه على موضوع الحوار بين الفلسفة والدين الذي استأثر باهتمامه في السنوات الأخيرة. الكتاب الذي صدر بالألمانية يستعيد النقاش الثري الذي جمعه مع كبار اللاهوتيين الألمان،
ما يخلص إليه هابرماس هو أن على الفلسفة أن تدرك أن الدين التوحيدي لا يزال يشكل تجربة حية وصلبة في العالم المعاصر، ليس كمجرد بناء مؤسسي أو نمط عيش وممارسة، بل كمعين فكري لا يمكن للفلسفة أن تتجاهله في أسئلتها الكبرى الثابتة التي لخصها إيمانويل كانط في ثلاثة أسئلة رئيسية هي: ماذا يمكنني أن أعرف؟ وماذا يتوجب علي أن أفعل؟ وماذا يمكن أن آمل؟ وهكذا فإن التجربة الدينية تبقى «رهاناً في جسم الحداثة» ما دامت تتعلق بممارسة دينية حية.
صفحاته الجدل الثري والعميق بين المتكلم الفيلسوف فخر الدين الرازي وابن تيمية. بيد أن الحقيقة المؤسفة هي أن هذا الجدل توقف عملياً مع انهيار المدرسة الكلامية في الإسلام السني وطغيان الأيديولوجيات السياسية والعقدية المتطرفة التي حاربت التراث العقلاني والفلسفي في التقليد الإسلامي.
*
«ولو شاء ربك لآمن من فى الأرض كلهم جميعاً أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين».
الحديث: «من بدل دينه فاقتلوه».
الحديث المذكور أنه من نوع الخبر الواحد «أى جاء برواية محدث واحد فقط»، مما يستوجب الشك فى صحته، لاسيما أنه يبدو مخالفا لمعنى الآية المتقدم ذكرها والتى تعلن أن «لا إكراه فى الدين». وكذلك قال مفتى الأندلس ومحدثها، محمد بن الفرج القرطبى المالكى، بأن لم يقع فى شىء من المصنفات المشهورة أن النبى، صلى الله عليه وسلم، عاقب مرتداً أو زنديقاً بالقتل.
غير أن الردة إذا اتخذت الصفة الجماعية، مقرونة بانشقاق المرتدين وخروجهم عن طاعة الدولة أو بالالتحاق بالعدو، فعندئذ يعتبر عملهم من نوع الفتنة المضرة بالمصلحة العامة، ويجوز قتالهم حتى يتوبوا ويرجعوا إلى احترام النظام والسلطة، وهذا ما فعله الخليفة أبوبكر- يوم حارب بعض الأعراب والقبائل عندما انشقوا عن الدين وامتنعوا عن أداء فريضة الزكاة فكان ذلك منهم ثورة وعصيانا وفتنة ومعلوم أن الفتنة تعد خطرا على سلامة الدولة. وهى ترقى فى الإسلام إلى أشد وأعظم من القتل، فإذن ليست الردة وحدها سبب القتال فى هذه الحالة، بل هى مقرونة بالحرابة والفتنة والعصيان.
وقد أقر الشرع الإسلامى حرية الرأى كنتيجة لحرية الفكر والعقيدة، فجعل الاجتهاد وأوجبه على من يستوفى شروطه، ومنع التقليد إلا من كان أمياً جاهلاً، وفى قوله، صلى الله عليه وسلم: «اجتهدوا فكل ميسر لما خلق له» ومنها قوله، صلى الله عليه وسلم: لابن مسعود: «اقض بالكتاب والسنة إذا وجهتهما فإذا لم تجد الحكم فيهما اجتهد رأيك».
الحديث: «أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر». «من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان».
وقد اشتهر عمر بن الخطاب بعبارته التى تعتبر من أعظم فقرات الدساتير المعاصرة وهى: «متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً»
حتى فى فترة الحروب كان، صلى الله عليه وسلم، يحذر من الإفساد والقتل وانتهاك حرمة العباد فيقول: «لا تقتلن امرأة ولا صغيرا ضرعا، ولا كبيرا فانيا، ولا تحرقن نخلا ولا تقتلعن شجرة ولا تهدموا بيتا، ولا تقتلوا أصحاب الصوامع».
*
بداية مقالات جديدة غير الفلسفة
الديمقراطية الانتخابية ورهانات الاعتراف
مسار الفكر الليبرالي، نلاحظ أن آلية الانتخاب لم تبرز إلا بعد توفر الشرطين الأساسيين لفاعليتها، وهما: تشكل الإرادة الفردية الحرة المستقلة عن الهويات الجماعاتية والأنساق المعيارية الكلية، من معتقدات جماعية ومؤسسات دينية وطائفية،
وتمايز الدولة والمجتمع من خلال قسمة العمل وانبثاق ما سماه هيغل نظام «العيش الاتيقي» الذي هو المجال القيمي المشترك المختلف عن أخلاق الواجب الفردية.
الاعتراف
الإشكال عاد بقوة في الآونة الأخيرة إثر اندلاع موجة «النقد ما بعد الكولونيالي» و«ثقافة الإلغاء» في إطار النقد الجذري لفكرة الكونية الليبرالية المجردة التي هي مقوم المركزية الثقافية «للإنسان الأبيض».
هذه الإشكالات مطروحة في السياق الليبرالي الغربي، فماذا يمكن القول في السياقات غير الليبرالية، التي لم تتعمق فيها القيم الفردية العقلانية ولم تبرز فيها هويات مدنية مستقلة عن الانتماءات العضوية القوية من روابط طائفية وقبلية وإثنية؟ ألا تكون الديمقراطية الانتخابية في هذه الحالات خطراً على التماسك الاجتماعي والوحدة الوطنية؟
لا يكون السؤال جديداً في ذاته، فأغلب البلدان المستقلة، في أفريقيا وآسيا، اختارت منذ بناء الدولة الحديثة نهجاً سياسياً مركزياً لا مكان فيه للحريات السياسية ولا للنظام الانتخابي الفردي، لكن التجربة أثبتت أن الأنظمة السلطوية القائمة على الأحادية الحزبية والتحكم الاستبدادي فشلت في إدارة التنوع الاجتماعي، بما أدى إلى انهيارها بعد تقويضها للسلم الأهلي.
المسلك الانتخابي في ذاته ليس ضمانةً كافيةً لحل الأزمات السياسية في البلدان التي تعيش مصاعب التحول الديمقراطي كما هو شأن العديد من الدول العربية. فمن الجلي أن التعددية الحزبية والسياسية في مثل هذه الساحات لا تعبر عن طبيعة التنوع المجتمعي، بل غالباً ما تطمسها وتحجبها.
وإذا كان من غير المطروح ولا المبرَّر أن يأخذ النظام الانتخابي شكل المحاصصة القبلية أو الطائفية أو المناطقية- كما اقترحت بعض الدوائر السياسية الأميركية في العراق سابقاً- فإن النظام التمثيلي لا بد أن يواكبه بناء مؤسسات اندماج وطني صلبة تعبّر عن الحقل العمومي للدولة في استقلاله عن المجتمع الأهلي. فبدون هذه المؤسسات العمومية المستقلة والفاعلة تتحول الدولة نفسها إلى رهان للصراع السياسي من أجل التحكم في منافعها ومواردها بدل تكريس الولاء لها من حيث هي كيان جماعي معبر عن وشائج المواطنة المشتركة.
*
Dec 29, 2021
الليبرالية المحافظة مقال 2017
مفكر السياسي البريطاني «مايكل أوكشت»، وتعني تجاوز التناقض الذي كثيراً ما يظن ما بين النزعة الليبرالية التقدمية والقيم التقليدية المحافظة، في سياق التحولات الواسعة التي عرفتها النظرية الليبرالية في القرن الماضي وبدايات القرن الحالي.
الهوة الأيديولوجية التي كانت قائمة بين الطابع الفردي الذاتي في الليبرالية والسمة الاجتماعية في المنظور الاشتراكي الكلاسيكي قد تم تجاوزها في إطار النزعات الديمقراطية الاجتماعية التي حكمت في غالب الأحيان البلدان الأوروبية في العقود الثلاثة الأخيرة، فإن الحاجز النظري
والأيديولوجي بين النظريات المحافظة والأفكار الليبرالية قابل هو أيضاً للتجاوز في الأفق ذاته.
والليبراليات في تنوعها واختلافها تلتقي في فكرتين أساسيتين هما حرية الفرد واستقلاليته من جهة ودولة القانون المنظمة للحريات الفردية من جهة أخرى، وليس في الفكرتين ما يتعارض ضرورة مع المقاربة المحافظة للشأن الاجتماعي.
والليبراليات في تنوعها واختلافها تلتقي في فكرتين أساسيتين هما حرية الفرد واستقلاليته من جهة ودولة القانون المنظمة للحريات الفردية من جهة أخرى، وليس في الفكرتين ما يتعارض ضرورة مع المقاربة المحافظة للشأن الاجتماعي.
فكرة الحرية الذاتية في النظرية الليبرالية الكلاسيكية فهمت بمعنيين هما: النظرة الذرية للأفراد، أي اعتبارهم ذرات أحادية معزولة عن بعضها بعضاً خارج أي سياق انتمائي سابق، والنظرة السلبية للدولة بصفتها مجرد آلة إجرائية تدبيرية للديناميكية الفردية الحرة.
المفهومين تم تجاوزهما، فلم يعد بالإمكان النظر للذات الفردية خارج سياقها الثقافي والمجتمعي الذي هو إطار محدد لهويات الأشخاص في أبعادها الجماعية التي لا سبيل للتنكر لها، ومن دون الإقرار بها يؤول الأمر إلى إلغاء وإقصاء الحقوق الثقافية للمجموعات الدينية والقومية داخل النسيج الاجتماعي العام. كما أن النظرة الإجرائية الأداتية للدولة تفضي أيضاً إلى نفي وإلغاء قيم المواطنة المشتركة التي لا يمكن اختزالها في المنظور الاقتصادي النفعي للشراكة التعاقديّة.
لا يعني الأمر هنا الجمود الثقافي والاجتماعي، فالتقليد ليس بالضرورة سقفاً معيقاً وقيداً ضاغطاً، بل هو أفق للانطلاق وإطار للتأويل المتجدد وهوية متحولة نعيد صياغتها وتجديدها دون انقطاع.
لليبرالية المحافظة اليوم عدة صيغ في العالم، بعضها سلك مسلكاً يمينياً منغلقاً كما هو شأن الليبراليات الحاكمة في بولندا وهنغاريا، وبعضها ذهب في اتجاه العودة إلى التقاليد الثقافية العميقة واستبطان القيم الليبرالية ضمنها، كما هو التوجه في روسيا والصين.
الدول العربية التي تحكمها أنظمة محافظة (في الخليج العربي والمغرب والأردن) هي الأكثر استعداداً للخيار الليبرالي المحافظ، بالنظر إلى قاعدتها الاقتصادية الحيوية واستقرارها الاجتماعي، وقد اختارت منذ البداية الخيار الاقتصادي الليبرالي، في وقت راهنت فيه جل الدول العربية الأخرى على النماذج الاشتراكية المعيقة لحرية الفرد والمؤدية إلى تضخم الدولة وتحكمها بما يؤول تلقائياً إلى تقويض الديناميكية الفردية للحرية وتكريس السلطة الرقابية القمعية على المجتمع.
جل تلك البلدان العربية عرف منذ ثمانينيات القرن الماضي تحولاً مفروضاً من نمط التخطيط الاقتصادي المركزي إلى الخصخصة الليبرالية الفردية، كما عرف في العقدين الأخيرين أيضاً إصلاحات سياسية مفروضة للتحول من الحزبية الأحادية إلى التعددية السياسية والانتخابية، فإن الحصيلة كانت هزيلة: احتقان اجتماعي حاد ناتج عن انسحاب الدولة من وظيفتها الإدماجية الدنيا، وتعددية تنافسية من دون أفق للتناوب الديمقراطي.
*
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق