ومن خلال التتبع التاريخى لمفهوم المصادفة يكشف الكتاب فى الجزء الأول منه أن الفهم الموضوعى للمصادفة لا يتحقق إلا بزوال الدلالات الأسطورية والذاتية واللاهوتية والتفسيرات السطحية المباشرة فى النظرة إلى الواقع، فيما يعنى الجزء الثانى من الكتاب بتحليل المدلول النظرى لحساب الاحتمالات والفيزياء الحديثة.
سيادة مفهوم «المصادفة الموضوعية» كأساس للفيزياء الحديثة فى نظر محمود أمين العالم لا يعنى عجز العقل الإنسانى عن السيطرة على الواقع الخارجى سيطرة نظرية وصناعية، بل إن العقل خلال معرفته بقوانين المصادفة وتحديده لضروراتها يحقق سيطرته على الواقع ويجعل من إمكانات المصادفة ظواهر موجهة، كما أنه تحرير للمنهج العلمى من الغيبية والسطحية والتبسيط وإقامته على أساس موضوعى جديد يمكن التعامل معه رياضيًا وفق حساب الاحتمالات.
محمود العالم كان يسعى فى هذا الكتاب وفى مجمل عمله النقدى والفكرى إجمالًا، إلى تحرير العقل العربى والتوجه إلى التعامل مع قضايانا الأكثر إلحاحًا وفق نوع منضبط من التفكير العلمى، خاصة أننا نتعثر منذ قرون فى الانتقال من طور المجتمعات البدائية التى تحكمها الخرافة والسحر من ناحية وسطوة التفسيرات الدينية المتطرفة، إلى المجتمعات المدنية الحديثة، وكم شهدنا خلال القرنين الماضيين من محاولات تلفيقية لتطويع النظريات الغربية والشرقية لبعض المفاهيم الرجعية لاستحداث مناهج تفكير ترضى غرورنا الزائف وتمنحنا شعورًا زائفًا بأننا أضفنا إلى الفكر الإنسانى الحديث وأننا لسنا مجرد مستهلكين مفتقدين حتى للأمانة فى الاستهلاك ونسبة الفضل لأهله.
لو كان الراحل محمود أمين العالم بيننا الآن، لكتب مقدمة جديدة يشتبك فيها مع كل البدائيين والجاهليين والتلفيقيين والغائبين المغيبين عن الزمن الحاضر، ولأكد مجددًا أن خلاصنا فى المنهج العلمى الصارم المنضبط وفى البناء على ما تحقق للإنسانية من أساس منهجى، والعمل بجد واجتهاد للإضافة إلى ما تحقق بدون عقد نقص أو شعور بالدونية يحكم مناهجنا الملفقة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق