الأربعاء، 22 يونيو 2022

حديث الهويات والخصوصيات حديث عنصرى متغطرس متعصب ********

 Mar 9, 2020 Apr 9, 2021 Apr 17, 2022



«يجب الحفاظ على هويتنا المصرية».. «ننفتح على التنوع دون المساس بخصوصيتنا».. «لا بد من محاربة طمس الهوية».. «دور الثقافة والفن فى تأكيد الهوية المصرية».. هذه مصطلحات تتكرر دائمًا، نسمعها، ونقرأ عنها، ويدور حولها الجدل.

لكن ما يدهشنى ألا أحد يقول لنا، معنى الهوية.
«الهوية»، كما أراها، هى مزيج من أشياء كثيرة، متنوعة. لا نستطيع أن نفصل عناصرها. إن الهوية الثابتة، النقية، الخالصة، المعقمة، غير ممكنة.
«الهوية»، ليست صفة، أو كتلة ثابتة، نسد بها خانات الأوراق الرسمية. وهى ليست قطعة حجر، محنطة، لإبهار الأفواج السياحية فى المتاحف.
الهوية «عملية» ديناميكية، و«حركة» متجددة، مع تجدد الحياة، ومع تغير الناس.
لا أدرى، ما الهوية، أو الخصوصية، التى نحميها؟.

هل يكون مثلًا، الفول المدمس، أو الفسيخ، أو عصير القصب، هو «هويتنا»؟ هل تحجيب أو إخضاع النساء، هو «خصوصيتنا»؟.
هل عندما أستمع إلى «أم كلثوم»، و«عبدالوهاب»، و«عبدالمطلب» أكون قد حافظت على هويتى المصرية؟ ولكن عندما أستمع إلى «فرانك سيناترا»، و«أديث بياف»، و«شارل أزنافور»، و«إنجل بيرت»، أكون قد تنازلت عن خصوصيتى المصرية؟.
عندما أشرب الكوكاكولا، وأتناول البيتزا، وأعشق أفلام «هيتشكوك»، و«كلود ليلوش»، و«فيللينى»، أكون قد خنت «هويتى» الأصلية.. أو تهاونت فى حق «خصوصيتى»؟.
وهل اهتمامى بالشِّعر، والرقص الإفريقى، وبالأدب فى أمريكا اللاتينية، يشير إلى «ضياع 
خصوصيتى»، و«ذوبان هويتى»؟.

قال الفيلسوف هيرقليطس، ٥٤٠ ق. م- ٤٨٠ ق. م: «التغير هو الثابت الوحيد».
لكن التغير المستمر، عند غالبية البشر، يقلق، ويفزع، ويهدد. من هنا، يأتى البحث عن هوية «ثابتة»، تعطى الأمان، وخصوصية «محصنة ضد التغير»، تمنح الطمأنينة.
كل حديث عن «الهوية»، و«الخصوصية»، يتضمن شعورًا، بالاستعلاء، والغطرسة، والتعصب.
باسم «الهوية الألمانية»، النقية، وتحت عنوان «خصوصية الجنس الآرى الأرقى»، وتحقيقًا لما سماه «العِرقية النظيفة»، أو التطهير العِرقى، والقومية، وهوية «الانتماء» الأصيل، أشعل «هتلر» ٢٠ أبريل ١٨٨٩- ٣٠ أبريل ١٩٤٥ الحرب، وقتَل الملايين من المدنيين والعسكريين.
وصلت التيارات الإسلامية التكفيرية الجهادية إلى الإرهاب المتوحش نتيجة البكاء على «الهوية الضائعة»، حيث تشكل استعادة الخلافة الإسلامية استعادةً «للهوية المفقودة».
باسم «الهوية» الإثنية العِرقية، و«الخصوصية» الطائفية، والقبلية، تم تقسيم السودان إلى شمال وجنوب.

وباسم «الخوف من ضياع الهوية»، خرجت بريطانيا من الاتحاد الأوروبى، وتحت عنوان «الخصوصية الكتالونية»، تريد كتالونيا الانفصال والاستقلال عن إسبانيا.
«العدالة»، «الحرية»، «المساواة»، «الصدق»، «الكرم»، «التضامن»، «النبل»، هذه هى «المعانى السامية»، التى يجب أن تحل محل الكلام عن الهويات والخصوصيات.
هذه هى «القيم العليا»، التى يجب أن نتشبث بها، ونحميها من محاولات الطمس، ومخططات الإبادة، تحت أسماء براقة، مخادعة.
«الهوية»، التى تغيب عنها العدالة، هوية «باطلة». «الخصوصية»، التى تخاصم الحرية، خصوصية «فاسدة».
من بستان قصائدى
فى هذا الوطن
لا يمنون على الكاتبة والشاعرة
بلقب «الكاتبة الكبيرة والشاعرة الكبيرة»
إلا عندما لا يفصلها عن مثواها الأخير
إلا خطوتان مرتعشتان متهالكتان
تكون قد فقدت البصر وفقدت الشهية
وفقدت الذاكرة وفقدت كل الأحباء
تآكل جسدها والباقى من الأحلام
تساقطت أسنانها مثل حنان الأيام
تعيش مهجورة منسية مع توحش الزمن
تنظر إلى كتبها ودواوين الشِّعر
النائمة على الرفوف
فى أسى تهمس: «إنه مصير كل امرأة
فى هذا الوطن عشقت الكلمات والحروف..
رفضت الانحناء والتصفيق
سارت وحدها على الطريق
واختارت أن تخرج من الطوابير والصفوف».

*


ما بعد الخصوصية.. ما بعد الأخ الأكبر

صور المواطن الكوني في مملكة العالم الافتراضي.

الأحد 2020/03/15

وفي ظل انهيار المنظومات الأيديولوجية التي حكمت الدول والمجتمعات طوال القرن العشرين، وولادة العصر الرقمي وعالم “المابعد” حيث لم يعد اليسار يسارا خالصا، ولا اليمين يمينا خالصا، وتحوّل الدين إلى فولكلور بوجهين: مسالم وإرهابي، باتت “الأسواق” التي افتتحتها الشركات الكبرى المنتجة والمسوقة (وعلى رأسها التكنولوجية) مصنعا للمعتقدات والتصورات والأفكار والظواهر والموضات، وكل ما من شأنه أن يشكّل شبكة التعارف والتواصل بين البشر. انقسم العالم إلى مبتكر ومستهلك. فالمبتكر يمكن أن يبني بفعل ابتكاره المرتبط، غالباً، بشبكة التواصل الإلكتروني الفعال والمدهش، إمبراطورية (غوغل –فيسبوك – تويتر- إنستغرام..) تتفوّق، في قدرتها على الإخضاع والاستثمار والثراء، على أعتى الإمبراطوريات العسكرية. وها نحن في خضم لحظة إنسانية تخلو فيها العلاقات بين المبتكرين والمستهلكين من كل رادع أخلاقي. وبات الإنسان ضعيف الحيلة أمام غوايات السوق إلى درجة الهزال التام وانعدام المقاومة.

في ظل العلاقات الجديدة للاستهلاك باتت شجرة المعارف نفسها، تستبدل أوراقها من قبل حتى أن تصفرّ بأوراق أكثر خضرة، وثمارها التي ألفت بثمار لم تألف. فالعصر الرقمي يضرب لك يوميا مثالا يجدد لهاث البشر على الأشياء الجديدة، فالشركات التي ابتكرت تلك العلبة السحرية التي غيرت العالم إلى غير رجعة، وجعلت من البشر أدوات وموضوعات لها، لا تني هذه الشركات العملاقة الأكول تخرج على المستهلكين بأجيال جديدة من هذه العلبة الساحرة بميزات غير متوقعة، ووظائف تخطف العقول والأبصار، في لعبة تُسابق الزمن والإنسان معاً.

لن أمضي في استعراض أوجه ما أتاحته التكنولوجيا الرقمية للإنسان، فهي أكثر من أن تحصى لكونها تشمل مستويات لا حصر لها من أوجه النشاط الإنساني والتواصل بين الناس. بل إن كل ما هو كائن في الواقع بات له نظير ومثال وصورة على الشبكة العنكبوتية.

فما من بديل لهذا الوحش الإلكتروني وعوالمه الافتراضية، بل لا مناص من الاستسلام، وغالباً الانغماس في هذا العالم، فمن لا موطئ قدم له على هذه الأرض الزائغة لا موطئ قدم له في الأرض الصلبة.

مئات المقالات وعشرات الكتب حُبّرت بالأسئلة الحائرة عن مستقبل السلوك والتفكير البشريين في ظل الثورة التكنولوجية المذهلة التي عصفت بالعالم، وبدّلت في السلوك اليومي للبشر على نحو فارق، وشملت بذلك سائر سكان الكوكب، فقراء وأغنياء، قرويين ومدينيين، متعلمين ومحدودي التحصيل العلمي. بل إن الثورة التكنولوجية ساهمت في ردم الفوارق بين الفئات المختلفة، ومكّنت الأفراد من الوصول المتساوي إلى مصادر المعرفة. وأتاحت لهم جميعاً فرص التعبير عن الذات على نحو غير مسبوق، والتواصل في ما بينهم وبين من يرغبون في التواصل معهم أكانوا قريبين منهم جغرافياً أو هم في أقاصي الأرض، وقتما يشاؤون.

شيء مذهل حقاً، ما وقع من تغيير ليس فقط في السلوك اليومي للناس، في علاقات العمل والصداقة، والعلاقات بين الجنسين، وبين أفراد الأسرة الواحدة، وبين الأسر المختلفة. بل إن ما حدث من تطور تكنولوجي وهيمنة لمفردات الأخطبوط الرقمي أصاب عمق البنية الذهنية للناس، وهو في سبيله إلى خلق حقائق يومية قاهرة من شأنها أن تملي نفسها على الأفكار والمفاهيم والعادات والتقاليد، وتعيد تعريف الأشياء؛ كل الأشياء، وصولا إلى تغيير قواعد السلوك، وإلى ما يمكن أن نعتبره اختراقاً لقلعة المفاهيم الأخلاقية التي بناها البشر وطوّروها عبر ثوراتهم المتعاقبة واجتهاداتهم الفكرية، وأغنوها بمفاهيم جديدة أعادت مراراً تعريف فكرة الأخلاق بالمعنى الفلسفي للكلمة، والمنظومة الأخلاقية بالمعنى الاجتماعي.
على أن التطورات الجارية في العالم على الصعيد الذي نتكلم فيه ليست إلا عتبة في رحلة خارقة للعادة يخوضها البشر مع التطور التكنولوجي، في ظلّ ما اصطلحوا على تسميته بـ”العصر الرقمي”. ولا شيء يمنع إطلاقاً من أننا نتجه نحو مفترق طرق غير مسبوق، معرّضين لعواصف من شأنها أن تعرّي الكائن البشري من كل ما ستر به عريه من قيم ومفاهيم وأخلاقيات، لطالما تشكلت بأثر من التجارب التي خاضها البشر وبفعل الخلاصات التي توصّل إليها الوعي الاجتماعي للإنسان عبر رحلته المديدة منذ أن اكتشف النار وغادر ظلام الكهف إلى نور المعرفة.
والسؤال الأوجب في حال كهذه هو كيف نتصرف بإزاء اللغة الجديدة التي يبتكرها لنا العصر الرقمي.
 هل نتعلم هذه اللغة ونصبح مواطنين كونيين في كوكب متصل الأجزاء يتبادل ناسه على اختلاف لغاتهم وثقافاتهم وأحوالهم، الخبرات والتجارب والعلوم والمعارف، أم ينخرط البعض وينكص البعض الآخر، فتتضاعف الفوارق بين الجهات والجماعات، وتنشأ أسوار بين ثقافات وثقافات، ويدخل البشر في طور من التفاوت لا صلاح له؟
قد يبدو السؤال هنا مبسّطاً، في ظل التعقيد الهائل الذي يحكم الجغرافيات والدول والجماعات الثقافية المختلفة. مادام التفاوت واقعا لا حلول له بين أمم قوية منتجة وأخرى ناكصة مستضعفة، أمم غنية وأخرى فقيرة أو مستفقرة، نظم متقدمة وأخرى متخلفة، وثمة شركات عملاقة تطحن الحجر والبشر وتقيم في العالم أسواق الاستهلاك، وغالباً ما تقع الحلقات الأضعف في هذه المعادلة ضحية استنزاف لا نهاية له.
ومن المفارقات التي تحتاج إلى درس، على خلفية هذه اللوحة، أن أفراداً في أفقر المجتمعات اليوم يملكون أجهزة إلكترونية نظير تلك التي تتوفر للأفراد في أغنى المجتمعات، وهذه واحدة من مفارقات العصر الرقمي. وهو ما يدخل البشر في مخاض معرفي سينتج كائنات تختلف في وعيها للعالم وطرائق تلقّيها الاشياء، وتعاملها مع الظواهر أطوارا جديدة كلية. فثمة أبواب للفرص لدى الجميع أيّا كانوا، ومهما تفاوتت أحوالهم الاقتصادية، أو اختلفت أفكارهم، أو افترقت بهم سبل التعبير عن أنفسهم.
*Dec 11, 2021

 مسائل الهوية في المرحلة الجديدة

رضوان السيد 

في العقدين الماضيين أقبلت المؤسسات الدينية (السنية) على التأهُّل والتأهيل في مواجهة تعقّدات الهوية، واندلاع التطرف والإرهاب باسم الدين أو دعاوى الإخلاص له. وكان ذاك التطرف والغلوّ قد تمكن من إطلاق تلك الراديكاليات الإجرامية، بارتفاع اندفاعات التدين والسمْتية التي أفضت إلى ظهور الإسلام السياسي. وقد حمل الإسلام السياسي على راياته الخطابية والانتخابية ودعوياته شعارات: الإسلام هو الحل، وتطبيق الشريعة؛ وإن لم يكن من طريق الدولة الوطنية؛ فمن طريق إزالتها كما حصل في الثورة الإيرانية. وعندما لم يفلح في هذا ولا ذاك، اتجه أو اتجهوا لمحاولة هدم النظام العالمي، وتخريب المجتمعات والدول في العالمين العربي والإسلامي.

تقدمت المؤسسات الدينية أو ما تبقّى منها - وقد كانت مستضعفة ومهمَّشة لفترات طويلة - لتأهيل نفسها في مواجهة الانشقاق الديني من جهة؛ ولاستعادة علاقات صحية وسليمة مع عوالم الديانات والثقافات التي وضعها التطرف الإرهابي في مواجهة الإسلام والمسلمين؛ من جهة أخرى. وأستطيع هنا أن أذكر عشرات المبادرات والإعلانات والوثائق والمؤتمرات الرامية جميعاً لتجديد الخطاب الديني أو تغييره، ولإنجاز شراكات مع أديان العالم. ومن ذلك: «رسالة عمّان والكلمة السواء» (2004 - 2007)، و«مبادرة الملك عبد الله بن عبد العزيز لحوار الأديان والثقافات» (2007)، فإلى بيانات الأزهر للدولة المدنية والحريات الأساسية منذ قيام الثورة المصرية عام 2011، ثم منذ عام 2014 مؤتمرات الأزهر ضد التطرف ولنُصرة الدولة الوطنية، ولإحقاق المواطنة، وإلى العمل من خلال مجلس الحكماء الذي انطلق من أبوظبي بدولة الإمارات، وصولاً، عبر مراحل عدة، إلى وثيقة الأخوة الإنسانية التي وقّعها شيخ الأزهر والبابا فرنسيس بأبوظبي في 4 فبراير (شباط) 2019. وهناك الخط الآخر الذي انطلق من أبوظبي أيضاً عبر «منتدى تعزيز السلم» برئاسة الشيخ عبد الله بن بيه، فأنتج وثائق وشراكات وإعلانات في التسامح والتعارف ومواجهة التطرف، والاستناد إلى «كتاب المدينة» وعهدها في دعم الدولة الوطنية القائمة على المواطنة والحقوق (مراكش 2017)، و«ميثاق حلف الفضول الجديد» (2019). وفي العام نفسه (2019) أصدرت رابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة: «إعلان مكة للمواطنة العالمية الشاملة».

لماذا أعددُ ذلك كله؟ أفعل هذا لأقول إن المؤسسات الدينية العربية والإسلامية (وبدعم من الدول طبعاً) قامت بجهود جبارة لمواجهة التطرف والإرهاب في البداية، ثم لتنشط في تغيير الخطاب الديني، والإطلال على العالم بوجه جديد للإسلام. لكننا نُطل في الأعوام القليلة المقبلة على مرحلة جديدة، لا تكفي فيها نشاطات المؤسسات، ولا إجراءات العالم الأمنية. الإرهاب ما انتهى طبعاً، ولننظر ليس في أهوال مخيم الهول فقط، بل وفي أحداث «بوكو حرام»، والهجمات الأخيرة في موزمبيق والصومال ومالي. لكنها، رغم ذلك، مرحلة جديدة، تعود فيها الهوية وإشكالياتها إلى الظهور بصور أخرى. فالفرقاء المتصارعون؛ دولاً أو تنظيمات مسلحة، أو كوادر آيديولوجية، كل هؤلاء يعملون على خُلاصات ونتائج لما حصل في مرحلة اشتعال الإرهاب، والتي يعدّها كل منهم لصالحه.

لقد تنبهتُ لهذا الأمر؛ ليس مما حصل في اتفاقية الحكومة الانتقالية السودانية مع «حركة عبد العزيز الحلو» فقط؛ بل لأن هناك مطالب مشابهة (فصل الدين عن الدولة) من جانب مثقفين ومعارضين في مصر وتونس والجزائر. في السودان والجزائر المضامين الحقيقية للتمردات صارت إثنية وقومية؛ لأن العربي انتساباً صار هو الإسلام، ومرة لأنه حاكم، ومرة لأنه سلفي أو محافظ. ولا تزال القتامة تظلل وجه الإسلام والعرب معاً. ولذلك؛ فإن الذين عارضوا أو قاتلوا في الماضي يجدون لأنفسهم الآن فرصة في الأجواء العالمية من جهة، وفي تعطش بشرنا للاستقرار والسلام بأي ثمن من جهة أخرى. لقد تعودتُ ألا أضع نفسي في موضع المسيحي العربي في الخطاب مهما بلغ انفتاحي؛ فهو يبقى الأقدر على التعبير عن مشاعره وهواجسه. لكنني أُحس في الآونة الأخيرة بأن مناقشة المسيحي العربي أسهل بكثير من «مجادلة» «العلماني» أو الذي يسمي نفسه كذلك. الهوية الوطنية في كل الأزمنة والظروف تتأسس على اللغة والأرض والدين العام، والعيش المشترك (الرأسماليون والماركسيون يتحدثون عن السوق الواحدة). وأنت تناضل لكي لا يزداد انقسام السودان أو الجزائر أو نيجيريا أو مالي... إلخ، وتريد في السودان المتعدد والفيدرالي أن تُبقي عاملاً جامعاً، فكيف يبقى الجامع من دون لغة ولا دين ولا عيش مشترك مع إطار جغرافي ضعيف؟ تجربة العراق تجربة معبِّرة بعد الغزو الأميركي؛ بل وقبله... إذ ما عاد هناك أي من ممارسات الجمع. وقد زارني عراقي كردي صديق منذ أربعين عاماً ومعه ولداه، فتحدث الأب بالعربية، وتحدثتُ مع الشابين بالإنجليزية! ما بقي للعراق حافظ إذن إلا سلطة الدولة الاتحادية المركزية!
إن شؤون الهوية الوطنية في هذا الزمان خليط من الرمزي والواقعي. ولأن الصراعات إثنية وقومية وسلطوية... ودينية أخيراً؛ فإن رجالات الدولة العقلاء الذين يصنعون سياسات العيش المشترك ويستثمرون نتائجها ينفعون أوطانهم ومواطنيهم، وليس رجالات المؤسسات الدينية وحدهم، والذين عملوا على استئناس المرارات، واستعادة السكينة في الدين، ويقال لهم الآن: بل إن الخطاب الديني هو المشكلة! وثوار «عبد العزيز الحلو» و«عبد الواحد نور» والذين يقاتلون الحكومات المركزية في السودان مع جون غارانغ وغيره وبعده منذ الثمانينات، ليسوا إسلاميين ولا مسيحيين؛ بل عندهم وعي مختلف (ما عاد آيديولوجياً في الحقيقة) بالإثني والقومي والأهم بالسلطوي. والانفصالات التي يصرون عليها باسم التعددية، مقصدها العميق الاحتفاظ بالسلطة التي تعودوا عليها ولو بأشكال محلية. وأنا أذكر السودان نموذجاً، لكن الظواهر هذه موجودة في عشرات الدول الأفريقية، خصوصاً في إثيوبيا بجوار السودان. وبالطبع؛ فإن السودان المحتاج إلى الهوية الجامعة محتاج إلى الرمزي وإلى اللغوي أو اللساني وإلى استعادة العيش المشترك، الذي يحس فيه الجميع بأنهم مشاركون. وهذه الأمور أو القناعات لا يتمكن من تخليدها في الذهنيات إلا رجالات الدولة الأقحاح من طريق مشاركة الجميع في «السلطة» والقرار. عرفتُ من أصدقائي السودانيين ومن مقالة لعثمان ميرغني في «الشرق الأوسط»، أن مئات المسلحين من الحركات الثورجية التي أجْرت اتفاقيات سلام مع الحكومة الانتقالية قبل «حركة عبد العزيز الحلو» دخلوا إلى الخرطوم وأم درمان بسلاحهم دخول الفاتحين فنشروا فوضى ضاربة، وأخافوا الناس. والسودان لا يملك الإمكانات لبناء ثكنات لهم ولإعادة تدريبهم وتأهيلهم في الجيش الوطني! والحديث الآن عن العدالة الانتقالية سابق لأوانه، فلا بد مرة أخرى من عقول وحكمة رجالات الدولة لصنع سياسات سلام واستقرار ومشاركة، لا تفيد في استحداثها الأوحدية الإسلامية، ولا السلطوية الفاصلة باسم العلمانية.

ما عادت الهوية حتى الإسلامية جامعة وإن ظلت ضرورية، فلم يبق جامع غير الدولة الوطنية التي تَسَعُ الجميع من دون غلبة ولا استسلام للتقسيم.

*

لماذا لا يحق لك التدخل في خصوصيات الآخرين


نحن من أكثر الشعوب تشدقا بالخصوصية، ومن أكثرها تدخلا في خصوصيات الآخرين.. حياتنا وتصرفاتنا وتحركاتنا وأين سافرنا وماذا فعلنا؛ تشكل مادة خصبة لأحاديث الناس.. وياليت الأمر ينتهي عند "الدردشة" بل نتجاوزها إلى غيبة ونميمة وتقييم واطلاق الأحكام ــ قبل أن نختم المجلس بكفارة المجلس...

الغريب أننا أكثر أمة تملك آيات وأحاديث ومقولات تحث على عدم التدخل في شؤون الآخرين.. لا يعرف معظمنا أن ذلك من الحقوق الفردية التي كفلتها الشريعة الإسلامية قبل الشرائع الوضعية

*Jan 24, 2022

ان المجتمع لا يتقدم في ظل وجود هويات فرعية، لأن التطور والتقدم يكمن بوجدود الهوية الموحدة

(أمين معلوف) مؤلف كتاب الهويات القاتلة, ولم يتحدث بهذا الكلام... ماكس فيبر أيضا مؤسس علم الاجتماع لم يتطرق لهذا الكلام، محمد عابد الجابري في نقاشاته لأزمة الموروث وفي ردود جورج طرابيشي عليه, لم يتطرقا أيضا لهذه النظرية..

أولا: لا يوجد هوية موحدة, وأنا اتحدث هنا في إطار النظرة الأكاديمية لمسألة الهوية.. الهوية هي: منفرة قاتلة دموية.. هذا هو تاريخها وهذا هو مسارها, وهذا ما أنتجته الأحداث والحروب في العالم.

ثانيا: الهوية الفرعية كانت معززة ومشكلة للهوية الأم أو الهوية الرئيسية... ولم تكن يوما من عوامل التأخر أو التخلف,

ثالثا: الهويات في التاريخ تنشأ على اربع قواعد وهي: الجغرافيا، الدين, اللغة, العرق... وقد تجتمع كلها في تشكيل هوية واحدة.. خذ مثلا: الهوية الكردية مبعثرة جغرافيا بين العديد من الدول, لكنها تشكلت على قاعدة اللغة, والعرق... الهوية الأمازيغية نفس الشيء بعكس مثلا الهوية الصحراوية في جنوب المغرب والتي تشكلت على قاعدة الجغرافيا... خذ مثالا آخر: الهوية في ايرلندا الشمالية تشكلت على قاعدة الدين.. فهم (كاثوليك) بالمقابل بريطانيا (أنجلو ساكسونية).. والهويات الفرعية لا تتصادم مع الهوية الأم, لكنها تمتلك بعض الخصوصيات الثقافية أو العرقية.. بالمقابل قواعد تشكلها هي ذات قواعد تشكل الهوية الأم، وهي ليست من عوامل التأخر أو التخلف على العكس.. هي الباعث والمعزز للهوية الأم.

رابعا: لم اشاهد في التاريخ أن هوية فرعية تصادمت مع الهوية الأم, إقليم كاتالونيا في اسبانيا لا ينظر له على أنه هوية فرعية, بل هو هوية مستقلة... عن الأمة الإسبانية, مستقلة ثقافيا واجتماعيا وعرقيا.. بالمقابل الكردي المولود في ديار بكر, يحمل ذات اللغة وذات الحلم للكردي المولود في أربيل..

خامسا: علينا أن نقرأ التاريخ جيداً، حتى نفهم معنى الهويات الفرعية.. علينا أن نقرأ تاريخ نجد والحجاز والطائف وجدة, هذه الهويات الفرعية الجميلة في المملكة العربية السعودية التي امتلكت ثقافات ولهجات محلية, ولكنها شكلت الهوية الأم للدولة السعودية... تداخلت مع بعضها في انسجام، وحافظت على خصوصياتها.. تحت مظلة الهوية الأم للدولة السعودية القائمة على البداوة، والإيثار والتضحية... والواضحة المعالم، والمحددة السمات..




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق