Dec 13, 2021 Apr 14, 2022
علاقات وطيدة مع كبار رجال الأعمال والمصرفيين. وأتاحت هذه الشبكات لنفسها، تكديس الثروات في ظل سياسة التغاضي، والرشوة، والإعفاءات الضريبية غير العادلة، وتقاسم القطاعات العامة والخاصة على حد السواء، حتى صارت اللامساواة سمة لبنان الأساسية في الاجتماع والاقتصاد، ووضعته إلى جانب البلدان ذات المستوى الأعلى في التفاوت بين المداخيل
دراستها للبيانات المالية اللبنانية وتوزّع الدخل القومي في البلاد، تشير الباحثة الاقتصادية ليديا أسود، إلى تركّز كبير في الدخل لدى فئة محدودة جدّاً من السكان خلال السنوات الممتدة بين عامَي 2005 و2014. فالأرقام تظهر أن فئة الأثرياء الذين يشكّلون 10% من اللبنانيين، استحوذت على ما نسبته 55% من إجمالي الدخل القومي في البلاد، فيما حصلت الطبقى الوسطى التي تشكّل 40% من السكان (خلال فترة الدراسة) على ما يقارب 35% من الدخل، ويبقى لنصف السكان المترنّحين عند حدود الفقر، أي ما يعادل 50% من إجمالي السكان، ما لا يتعدى 10% من إجمالي الدخل. هذه الإحصاءات تجعل من لبنان واحداً من بين أكثر البلدان تركّزاً للدخل والثروة حيث يحصل أغنى 10% من الأفراد على خمسة أضعاف ما يحصل عليه أفقر 50% من السكان. وإذا قورنَت هذه النتائج مع باقي دول منطقة البحر المتوسط وشمال أفريقيا، فإنّ لبنان يحتلّ المرتبة الثانية في عدم المساواة بعد المملكة العربية السعودية. ويتفوّق لبنان على الولايات المتحدة وروسيا في نسبة «ثروة أغنى 10% من السكان في لبنان مقارنة مع إجمالي الدخل القومي». وبذلك فإنّ أثرياء لبنان ينافسون نظراءهم في كلٍّ من البرازيل وجنوب أفريقيا، البلدَين المعروفَين بأعلى مستويات عدم المساواة في العالم.
تَركّز معظم الدخل القومي في يد حفنة من أغنى الأثرياء
العلاقة الوطيدة الجامعة بين من هم في سدّة الحكم وبين كبار المالكين والمستثمرين الأثرياء (على مستوى الأفضلية والشراكة الحاسمة في صياغة السياسات). فالطبقة الحاكمة التي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بفئة الأثرياء (إن لم تكن هي نفسها)، عملت على الدوام على تمرير وإقرار قوانين تخدم مصالحها، ورفضت قوانين أخرى تهدّد نخبويتها.
حجم المعروض النقدي «الجديد» الناتج عن عملية طباعة العملة، وكيفية توزّعه في المجتمع. بعبارة أخرى، هناك تغيّر في الأسعار ناتج في الحقيقة من التغيّر في القاعدة النقدية، وليس نتيجة التغيّر في كمية العرض وحجم الطلب، إذ إنّ العرض النقدي الجديد الموزّع توزيعاً غير متساوٍ، يسبّب آثاراً توزيعية سيئة هي بمثابة ضريبةٍ تعاقِبُ آخرَ من يصل إليه المال الجديد. فالنقود حديثة الطباعة، لا تدخل الاقتصاد بطريقة موحّدة ولا تؤثّر على الجميع بالنسق ذاته.
الواقع، يتم توزيع العرض النقدي بشكل متفاوت وعبر قنوات معيّنة يستفيد منها المقرّبون من صانعي السياسة النقدية (المصرف المركزي والسلطة الحاكمة ومن حولهما) حصراً. هذا تحديداً ما يُعرف بـ
«تأثير كانتييون» (Cantillon Effect)،
نسبةً إلى بحوث المصرفي الإيرلندي ريتشارد كانتييون (عاش في القرن الثامن عشر الميلادي). فقد لاحظ كانتييون أن القرب من دائرة السلطة والأثرياء يزيد من قدرة الفرد على امتلاك المال المنتج حديثاً، فيحصل بالتالي على فرصة الاستفادة من الأسعار السابقة والاستحواذ على أصول قيّمة أخرى عبر «مالٍ جديد». هذا ما يطلق عليه كانتييون
«المال غير المحايد» (non-neutral money).
وكلّما كان الفرد بعيداً عن أصحاب السلطة والمال، تأخر وصول «المال الجديد غير المحايد» إليه وتعذّر عليه صرفه قبل ارتفاع الأسعار. ويصبح البعيدون عن دوائر السلطة، أو حلقة السلطة والأثرياء، مضطرين بالفعل إلى دفع أسعار أعلى (من دخلهم المنخفض أصلاً) بفعل الزيادة المسبقة في الإنفاق النقدي لمن استخدم «الأموال الجديدة» أوّلاً.
حتى بعد وقوع الأزمة لم تفكر طبقة الأثرياء والنخب السياسية الحاكمة ورعاياها في الخروج بأقل الخسائر بل بزيادة حجم ثروتها والاستفادة القصوى من مفاصل الأزمة
«تأثير كانتييون» يفسّر التوسّع غير المتكافئ في مقدار المال المنتج حديثاً عبر عملية طباعة النقود، وهو ما لا يتمّ توزيعه بطريقة متساوية أو في وقت واحد على جميع السكان.
نظرية كانتييون التي تعود إلى القرن الثامن عشر، جاءت في ظلّ وجود نظام سياسي تحكمه حفنة من رجال الأعمال الذين يسيطرون على المصارف ومناجم الفحم والذهب وغيرها من الأصول الثمينة، وهم أيضاً يتولون زمام الحكم في البلاد. ورغم الفرق الزمني الكبير، فإنّ ذلك لا يختلف كثيراً عن حالة طبقة «المليارديرية» المكوّنة من كبار التجار والمصرفيين ومالكي الثروات الضخمة في لبنان والذين يشغل بعضهم مناصب مهمة في الدولة.
هؤلاء جميعهم يشكلون طبقة الـ 10% الأغنى في لبنان، وهم على علاقة وطيدة مع أصحاب السياسات المالية والنقدية المسؤولة عن التحكّم في الدخل. وغالباً ما رُسمت السياسات المالية من أجلهم. فقد خُفِّضت الضرائب على أرباحهم ومصادر دخلهم الريعية مقابل تركيزها على عاتق الطبقات الفقيرة والمتوسطة.
كذلك، اليوم تَرسم السياسة النقدية ومن خلالها «الليرات الجديدة غير المحايدة» التي يتفنّن الحاكم بأمر مصرف لبنان، في تنسيق ألوانها وتصاميمها، لحماية مصالح الطبقة نفسها أيضاً، حتى وإن كان على حساب المجتمع بأكمله.
المفهوم اليوم أن السياسة النقدية تقع على عاتق المصرف المركزي وهو من يسيطر على «مطبعة» الليرة، وبالتالي يتحكّم بإنتاج النقود وحجمها. في العادة، تعتمد البلدان على أرباح طباعة العملة كعائدات سهلة التحصيل لتمويل نفقاتها في سبيل دعم المجتمع. وأرباح طباعة العملة هي ببساطة: الفرق بين المبلغ الذي تتلقّاه البنوك المركزية على إصدار أموال جديدة، وبين كلفة طباعتها. وإن كانت عملية خلق النقود غير محبّذة، إلا أنّ العديد من البلدان تعتمد هذا الأسلوب لتحصيل أكثر من 28% من عائداتها، إلا أنها تعمل على متابعة مؤشرات التضخّم وكبحها عند اللزوم بالأساليب المناسبة.
وفي ظل المحاسبة التقليدية للبنوك المركزية، تعدّ أي خسارة أو نقص في الأصول مقابل الالتزامات، قابلةً للتصحيح عبر أرباح سكّ العملة.
فالتزامات مصرف لبنان معظمها بالدولار، وأرباح طباعة العملة قد تحقّقت على حساب فقدان كارثي للثقة في الليرة والنظام المالي، بينما كان مصرف لبنان ومعه المصارف تتخلّص من ديونها المقوَّمة بالدولار عبر طبع «الليرات الجديدة». عملياً، خرجت، حتى الآن، من دون خسارة فلس واحد. وعلى الجهة الأخرى كانت الفئة المقرّبة من صانعي هذه السياسة، أوّل من استحصل على الأموال الجديدة (غير المحايدة دائماً)، وكانت هي من دفع بسعر الصرف صعوداً بسبب طلبها المتزايد على الدولار واستثماره في عقارات أو أصول أخرى أو تهريب كميات كبيرة منه خارج البلاد.
فسياسة سكّ العملة لم تُستخدم يوماً لزيادة إيرادات الموازنة العامة، أو لدعم مشاريع اجتماعية من قبل الدولة
تخلّي المصرف المركزي عن مهمّته في حماية الليرة وانتقاله لحماية أموال الأغنياء والطبقة الحاكمة فقط. هؤلاء هم الذين يشكلون 1% من المودعين في المصارف اللبنانية ليس غير، ويملكون نحو 82 مليار دولار من مجمل الأموال المودعة في المصارف. وهم أنفسهم كانوا قد استحوذوا على أكثر من 55% من الدخل القومي. رغم ذلك، يحاولون السطو على ما تبقّى من الدخل المحلّي، وقد نجحوا إلى حدٍّ كبير في ذلك. فعملية خلق «الأموال الجديدة» لم تظهر إلّا لخدمة مصالح فئة الـ10% الأغنى التي لم تتعرّض أموالها في المصارف لأي نوع من قصّات الشعر رغم الفوائد الفاحشة التي راكمتها سابقاً.
الحاجة إلى الضريبة التصاعديّة
لقد كان الدخل في البلاد يتسرّب على الدوام ليصبّ في النهاية لدى الفئة الأكثر ثراءً. هذه الفئة التي يتشكّل منها جزء من زعامات السلطة السياسية، هيّأت أرضيةً من الإجراءات التي تضمن لها بقاء قنوات تدفق الأموال من جميع طبقات المجتمع نحوها. حتى وصلت غالبية الشعب إلى شفا حفرة الهلاك.
*
اللامساواة العالميّة
يشير التقرير إلى أنه في عام 2021، أي «بعد ثلاثة عقود من العولمة التجارية والمالية، لا تزال التفاوتات العالمية واضحة للغاية... تقريباً كما كانت في ذروة الإمبريالية الغربية في مطلع القرن العشرين». ورغم أن تقرير اللامساواة العالمي وجد أن التفاوتات بين الدول قد تراجعت منذ نهاية الحرب الباردة (ويرجع ذلك أساساً إلى ارتفاع مستويات المعيشة في الصين)، إلا أنه لفت إلى أن عدم المساواة قد ازداد داخل معظم البلدان، وأصبح أكثر وضوحاً نتيجة جائحة كورونا على مدى العامين الماضيين.
التركّز العالمي للثروة الشخصية أصبح متطرّفاً. وفقاً للتقرير، يمتلك أغنى 10% من الراشدين في العالم ما بين 60% و80% من الثروة، بينما يملك النصف الأفقر أقل من 5% منها.
هذه نتيجة مماثلة للدراسة الاستقصائية المهمة عن التفاوت العالمي في الثروة التي ينتجها كل عام مصرف Credit Suisse. يخلص هذا التقرير إلى أن 1% فقط من الراشدين في العالم يملكون 45% من مجمل الثروات الشخصية، بينما لا يملك نحو 3 مليارات شخص أي شيء، نسبياً.
إن اللامساواة في الثروة أعلى بكثير من اللامساواة في الدخل. لكنّ التفاوت في الدخل لا يزال مرتفعاً للغاية.
حصّة الثروة التي تملكها الجهات العامة قريبة من الصفر، أو حتى سلبية، في البلدان الغنية، ما يعني أن الثروة الإجمالية هي في أيدي القطاع الخاص».
الاكتفاء الخاص والرفاهية العامة، ولكن ما كان يحدث هو العكس
عدم المساواة يزيد من استقطاب العالم
تزايد القومية والشعبوية وتراجع التعاون الدولى.
فى الدول الغنية، يقف المواطنون فى طوابير للحصول على الجرعة الثانية من اللقاح، بينما فى الدول الفقيرة يقف المواطنون فى طوابير للحصول على الطعام من أجل أطفالهم.
تزايد عدم المساواة يؤدى إلى زيادة الدعم للسياسيين الشعبويين والحمائية الاقتصادية... الفقراء بالطبع هم من يتحملون النصيب الأكبر من المعاناة فى أوقات الأزمات؛ فمدخراتهم قليلة، ويكونون أكثر عرضة لمخاطر الطقس والمشكلات الصحية والتقلبات الاقتصادية، ويؤدى تزايد عدم المساواة إلى تفاقم التحديات الاجتماعية والاقتصادية الأخرى، بما فى ذلك ركود الإنتاجية وزيادة الجريمة واعتلال الصحة والاكتئاب.
صعود الشعبوية والقومية هما أكثر ما يلفت الانتباه من التأثيرات السلبية لعدم المساواة على ترابط النسيج الاجتماعى، وتشويه سمعة الأحزاب الرئيسية وتزايد الغضب يقوض قدرة المجتمعات على مواجهة التحديات الحرجة.
تهدد القومية التعاون الدولى، فتقوض التزام الحكومات بالعمل الجماعى لإيجاد حلول لمواجهة المخاطر المشتركة؛ مثل التغير المناخى وجائحة كورونا والجرائم الإلكترونية والاضرابات المالية. والنتيجة هى عالم غير مستقر يزيد فيه عدم المساواة.
الوباء بعد عقد من التقشف وركود الأجور، مما يعمق المصاعب التى يعانيها عدد متزايد من المواطنين. أظهر مسح لـ37 دولة أجرته منظمةSave the Children أن الوباء تسبب فى انخفاض دخل ثلاثة أرباع الأسر، مع زيادة تضرر 82 فى المائة من الأسر الفقيرة بالفعل.
المهاجرون غير المسجلين الذين ليس لديهم حقوق إقامة رسمية هم أكثر عرضة للخطر، لأنهم فى العديد من الدول غير قادرين على الحصول على المزايا الطبية أو الرعاية الاجتماعية. وتنخفض مدخراتهم بشكل كبير، ولا يمكنهم تحمل أسبوع بدون، فهذا سيعنى المعاناة من نقص فى الغذاء والضروريات الأخرى للمعيشة.
سياسات لتخفيف أسوأ آثاره؛ فقدموا مدفوعات مباشرة وضمانات توظيف وأنواع دعم أخرى أدت فى عامى 2020 و2021 إلى تسكين الألم، بل وفى بعض الدول قللت بشكل مؤقت من عدم المساواة. ولكن مع انتهاء مخططات الدعم تلك، سنعود إلى عدم المساواة، بل وستتزايد عن ذى قبل.
فشلت دول مجموعة السبع بشكل مخيف فى تنسيق السياسات الصحية فيما بينها، مما أدى إلى سباق تنافسى لتطوير اللقاحات ثم تخزينها، فضلا عن الإخفاق فى تنسيق إجراءات السفر والسياسات الأخرى. والأسوأ من ذلك، الفشل الذريع لمجموعة العشرين فى تلبية مطالب الدول النامية.
فى حين أن حكومات الدول النامية لم تكن قادرة على توفير هذا النوع من التحفيز الذى كلف الحكومات الغنية ما يصل إلى 20 فى المائة من دخلها القومى، فقد انهارت نظمها الصحية وشبكات الأمان الاجتماعى، البالية بالفعل، مما أدى إلى انتشار الجوع والفقر.
مكان ولادتنا، ودخل آبائنا، وتعليمنا، ومدرستنا، وعوامل أخرى خارجة عن إرادتنا هى التى تشكل معظم فرصنا فى الحياة.
الحد من عدم المساواة هو أكثر بكثير من مجرد زيادة الدخل وزيادة النمو الاقتصادى، فهو يتطلب أيضا المساواة فى الحصول على التعليم والصحة والطاقة والإنترنت والخدمات الأخرى. الاستثمارات الخاصة أمر حيوى، وكذلك الإنفاق الحكومى.
يمكن للضرائب التى تعيد توزيع الدخول، فى شكل الصحة والتعليم، وكذلك الضمان الاجتماعى، والإسكان، والأطفال وغيرها من المزايا، أن تساعد بشكل كبير فى التغلب على عدم المساواة. فى أيرلندا وفرنسا، أدت الضرائب وإعادة توزيع الدخل إلى تقليل عدم المساواة بدرجة كبيرة مقارنة ببريطانيا. وعلى الصعيد الآخر، فشلت الحكومات المتعاقبة فى الولايات المتحدة فى استخدام الضرائب وإعادة توزيع الدخل للتغلب على عدم المساواة، مما جعلها أكثر الدول الغنية التى تستمر بها عدم المساواة.
*
"المساواتيّ العظيم: العنف وتاريخ اللامساواة من العصور الحجريّة حتى القرن الحادي والعشرين".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق