وفاة 2002
أصبحت أوروبا هى القارة العجوز، وغدت أمريكا هى فردوس الأحلام، لم يتخلّ هذا الجيل عن قناعاته، رأينا ذلك مع «جلال أمين» أستاذ الاقتصاد، وكذلك مع «عبدالوهاب المسيرى» أستاذ الأدب الإنجليزى، ولا يختلف الأمر كثيرًا مع أستاذ الفلسفة الشهير «عبدالرحمن بدوى».
يُعد «بدوى» واحدًا من أهم أساتذة الفلسفة، ليس فى مصر فقط، بل فى العالم العربى؛ حيث لعب أدوارًا مهمة فى هذا الشأن فى العديد من الجامعات العربية، كما يُعد «بدوى» أحد أنبغ تلامذة «طه حسين»، وتتفق أو تختلف مع «بدوى»- خاصةً مع شخصيته الحادة ومزاجه المتقلب- لكن لا يمكنك إلا القبول بدوره ومكانته فى تطور الفكر العربى المعاصر.
ويشير «بدوى» إلى تأثير اللوبى الصهيونى فى أمريكا، حيث رأى مظاهرة ضخمة فى شوارع نيويورك احتفالًا بذكرى تأسيس دولة إسرائيل، ويرصد لنا «بدوى» انطباعاته عن ذلك، قائلًا:
«لم يعد عندى شك بعد أن شاهدت ما شاهدت فى أن اليهود يسيطرون على نيويورك سيطرة كاسحة تامة، ومن وراء نيويورك يسيطرون على الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية فى الولايات المتحدة بأسرها».
ويصف «بدوى» نيويورك أثناء إقامته فيها بأنها: «مدينة المتناقضات الصارخة، الثراء الفاحش والفقر المدقع»، وفى نهاية الرحلة يصل «بدوى» إلى قناعة فكرية، هى فى الحقيقة خير تعبير عن قناعات جيله تجاه أمريكا: «وقد رددت فى نفسى هذا القسم نفسه وأنا فى نيويورك، وهو ألا أعود إليها ولا إلى أى مدينة أخرى فى الولايات المتحدة الأمريكية إلا إذا اضطرتنى إلى ذلك عوامل قاهرة».
جيل لم ينبهر بأمريكا، ولا بالحلم الأمريكى.
أمريكا عند المفكرين المصريين.. المسيرى
كان المسيرى يتمنى أن تأتى بعثته الدراسية فى إنجلترا- القارة الأوروبية التى يعرفها جيدًا المفكرون المصريون منذ رفاعة الطهطاوى- إلا أن بعثته أتت إلى أمريكا، ليرحل المسيرى أولًا إلى نيويورك، وهناك يرصد لنا المسيرى حالة نيويورك فى الستينيات، واضطراب حالة الأمن، وغلاء المعيشة، ورغم استمتاع المسيرى بالمتاحف ودور السينما والمسرح، فإنه يفضل الخروج من هذه المدينة الغريبة المعولمة.
ويرصد لنا المسيرى، بعيون ناقدة، حالة الجامعات الأمريكية آنذاك، والصراع بين أنصار القديم وأنصار الحديث «أولاد هارفارد»، ومعاناة المسيرى الباحث عن الجديد، وليس مجرد مُعدِّ رسالة دكتوراه على نمط القوالب القديمة.
يشرح المسيرى، فى مذكراته الشخصية، كيف كانت بعثته فى أمريكا «مواجهة فكرية» كما أطلق هو عليها، ويرصد المسيرى مظاهر الرأسمالية المتوحشة آنذاك، وسيطرة الآلة الحزبية على الحياة الأمريكية من خلال الحزبين الكبيرين: الديمقراطى والجمهورى، وكيف أن الخروج عنهما شبه محال.. من هنا يُحدثنا المسيرى عن اليسار الأمريكى واشتراكه فى تأسيس المنتدى الاشتراكى فى أمريكا بلد الرأسمالية.
ومن الأمور المهمة التى استرعت انتباه المسيرى أثناء بعثته فى أمريكا الموقف من حرب فيتنام، هذه الحرب الإمبريالية التى شنتها أمريكا على شعب فيتنام. يرصد المسيرى مظاهر غضب الشباب الأمريكى ومعارضته هذه الحرب، وما تعرض له معارضو الحرب من معاناة واضطهاد.. ولعلنا نتذكر الملاكم الشهير «محمد على كلاى»، الذى واجه الاضطهاد آنذاك مرتين: مرة لاعتناقه الإسلام، والأخرى لرفضه التجنيد فى حرب فيتنام، هذا فضلًا عن لونه الأسود واضطهاد الملونين فى أمريكا آنذاك.
لم ينبهر المسيرى بالحلم الأمريكى، وفضل عليه أوروبا، القارة العجوز، لذلك ما أن ينتهى من مناقشة الدكتوراه حتى يعود إلى مصر، ولكن عن طريق أوروبا، حيث يقضى عدة أشهر فى أوروبا «القارة العجوز» سياسيًا، «المخضرمة» حضاريًا، ومن أوروبا يشترى سيارة ألمانية ليعود بها إلى مصر غير منبهر بالحلم الأمريكى.
جلال أمين
وسنعتمد فى هذا الصدد على مذكرات جلال أمين خاصة الجزء المعنون «رحيق العمر»، حيث يتعرض جلال أمين إلى لحظة تاريخية مهمة مرت بها أمريكا بل والعالم كله، إنها لحظة فارقة، حادث ١١ سبتمبر ٢٠٠١.
يروى جلال أمين فى مذكراته كيف تشكك فى الظروف المصاحبة لسقوط برجى مبنى التجارة العالمى، وينفى جلال أمين- من وجهة نظره- مسئولية الإرهاب الإسلامى عن الحادث، ويُلمّح إن لم يكن يُصَرح إلى مسئولية جهة أخرى، واستفادة أمريكا من وراء هذا الحادث فى توسيع نفوذها خارجيًا بحجة مكافحة الإرهاب.
ويذكر جلال أمين دعوة السفير الأمريكى له فى القاهرة للغداء مع نخبة من الصفوة السياسية للحديث عن «لماذا تكرهوننا؟»، وهى النغمة التى سادت فى أروقة السياسة الأمريكية بعد حادث ١١ سبتمبر، لماذا يكرهنا المسلمون؟
ويقدم جلال أمين- وفقًا لثقافته الغربية- رواية لكيفية الحديث أو الجدل أو حتى التفاوض مع الغرب، وأمريكا على وجه الخصوص، هو يرى أن أمريكا بلد نشأ تاريخيًا على مبدأ القوة، وبالتالى الأفضل الحديث معه بمنطق القوة.
ويذكر أمين كيف بدأ النقاش مع السفير الأمريكى على النحو التالى: «إننا- المصريين- شعب كريم وطيب، ونحن آخر من يشمت بمصائب الآخرين. ولكن كيف يكون شعورنا إزاء ١١ سبتمبر؟ وفى نفس وقت وقوع هذه الأحداث ارتكب الإسرائيليون أعمالًا فظيعة ضد الفلسطينيين.. لا يمكن الفصل بين الاثنين».
هكذا يرسم جلال أمين المفكر القومى العروبى سياسة المواجهة مع «الآخر» الأمريكى، ويذكر أمين كيف امتعض السفير الأمريكى من التشكيك فى أحداث ١١ سبتمبر، وكيف أرسلت السفارة الأمريكية ردًا على ذلك ليُنشَر فى الصحف المصرية آنذاك، وكيف ردت المعارضة المصرية على ذلك بأنه تدخل فى الشأن المصرى واعتداء على حرية الرأى، وطالبت أمريكا باحترام دماء الفلسطينيين وتفهم لماذا ينظر العرب بجفاء تجاه أمريكا.
هنا يقدم لنا جلال أمين المفكر القومى «العروبى البعثى» وجهة نظر فى كيفية التعامل مع أمريكا من منطق التعامل بمبدأ القوة والنّد، لذلك يذكر أمين أن السفير الأمريكى قال إنه سيطلب من حكومته «أن تسعى إلى حل المشكلة الفلسطينية ثم تنسحب بعد ذلك إلى حدودها، ولا يكون لها شأن بالمرة بعد ذلك بمنطقة الشرق الأوسط»!.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق