الأحد، 21 فبراير 2021

مارسيل غوشيه.. وأطروحة انسحاب الدين من العالم المعاصر *****

  (مؤسسي هاته العلوم كإميل دوركايهم وماكس ڤيبر) الذين مالوا إلى ترجيح فرضية انسحاب الدين من العالم الحديث، وذلك توازيا مع تقدم العلم وتطور الصناعة وتعقد تقسيم العمل، وسواد التمدين وانتشار الديموقراطية في شكلها العلماني، وظهور دولة الرفاه وبروز الفردانية، إذ ستكون نتيجة كل هذا هي انحسار وتقلص تأثير الدين على المجتمعات المعاصرة، وتراجع مكانته إلى أن ينسحب كليا من الزمن الراهن (مارسيل غوشيه.1985).

ومن جهة أخرى يحاجج بعض علماء الاجتماع، بأن أطروحة العلمنة وانسحاب الدين من العالم الراهن، مجرد موقف متجاوز يفتقر إلى الدقة العلمية والواقعية (مثل بيتر بيرغر.1999 وخوسيه كازانوفا.1994)، ويستدلون على ذلك بـ"المجتمع الأمريكي" الذي يعتبر أبرز مجتمع حداثي وصناعي وعلماني، كما أنه مجتمع المعرفة والعلم بامتياز، لكن مع كل ذلك فإن الدين يحضر فيه بشكل كبير جدا ويخترق كل المستويات والأنساق، وهو ما يفند افتراضات أطروحة انسحاب الدين من العالم المعاصر، المتضمنة في نظرية العلمنة السوسيولوجية (وليس السياسية).

 علماء الاجتماع الذين كانوا يظنون أن العالم كلما تقدم كلما ابتعد عن الدين خصوصا في صيغته التاريخية، سوف يحدث انقلاب في مواقف وتحليلات هؤلاء العلماء بشأن الظاهرة الدينية، حيث بدأ منذ ذلك الحين طرح مفاهيم جديدة تواكب ما عرفه العالم في الثمانينات من القرن الماضي، مثل مفهوم “العودة” إلى الدين أو “الاتصال” بالدين عوض الانفصال عنه، وهو ما فرض تبني براديغم جديد، اصطلح على تسميته بـ"عودة السحر إلى العالم Reenchantment of the world"، عوض "نزع السحر عنه desantement of the word"، ما يعني أن أطروحة انسحاب الدين قد تلقت مجموعة من النقود وهو ما دفع عدد غير قليل من علماء الاجتماع إلى التخلي عن أهم مقولاتها دون تطليقها كليا.

هذه العودة إلى المقدس لا يجب أن تفهم على أنها عودة في ثوب تاريخي، فعودة الدين في زمن الحداثة لا يتطابق مع شكله المُعتقد والمُمارس في زمن ما قبل الحداثة، إذ إن العودة في زمن الحداثة تختضب بما هو دنيوي (أي علماني)، وذلك ما يتجسد في مجموعة من الأنساق أهمها نسق السياسة وحقل المعرفة.

الدين لا زال يتحفظ بأحد أهم أبعاده وهو البعد الأكثر تكيفا مع العالم الحديث، وهو "البعد الروحي" الذي لا يلزم إلا المؤمن به، فمع تميز عصر الحداثة بالحريات الفردية وانقراض آيديولوجية تجميع الناس في أطر فكرية ودينية موحدة الذي كان ضرورية للحكم التوتاليتاري، أصبح الإنسان الحديث في الدول الديموقراطية العلمانية أكثر تحررا من الناحية الدينية والفكرية، حيث لا يلزم بأي دين، بل يختار دينه وأفكاره بإرادته الحرة، وهو ما يتوافق مع البعد الروحي للأديان السائدة في المجتمعات الحداثية، حيث تقتضي الدولة العلمانية بالضرورية "التعددية" سواء كانت دينية أو سياسية أو فكرية أو غيرها.

هي لا تفرض الأفكار والأديان على الناس، بل يختار المواطنون أديانهم وأفكارهم بكل حرية والدولة تحترم هذا الإختيار بل تحرس ممارسته من طرف المؤمن به، ولعل هنا أحد المفارقات التي لم ينتبه لها علماء الإجتماع الكلاسيكيين الذين اعتقدوا أن تطور العلمانية في المجتمعات الحديثة يعني تراجع الدين، بل بالعكس وكما يؤكد معظم السوسيولوجيين في العقود المتأخرة، فإن العلمانية في المجتمعات الغربية تعتبر أحد أهم العوامل التي ساهمت في انتعاش الدين واستمراريته وليس العكس (Markus Dressler and Arvind.pal Maindair .2001).

فلا أطروحة انسحاب الدين والعلمنة تفسر كليا علاقة المقدس والدنيوي المعاصر، وكذا فإن أطروحة استمرار الدين كقوة تأثيرية في المجتمعات المعاصرة، لا تفسر بشكل دقيق أشكال استمراريته وديناميات حضوره في مجتمعات العالم الحديث، وهو ما يفرض تطوير منظورات سوسيولوجيا الأديان لاستيعاب هذه الظواهر فهما وتفسيرا.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق