عقب انهيار القسطنطينية أو الإمبراطورية الرومانية الشرقية، كان الغرب الكاثوليكى أو أوروبا اليوم على موعد مع لعبة «فرّق تَسُد» ما بين روسيا القيصرية الأرثوذكسية والدولة العثمانية الإسلامية؛ حيث استخدم الغرب كلتا الدولتين، القياصرة والعثمانيين، من أجل فرملة تمدّد الدولتين إلى غرب أوروبا، فإذا انتصر القياصرة مالت أوروبا إلى العثمانيين وإذا انتصر العثمانيون رجّحت أوروبا كفة القياصرة.
ولقد تم الاحتلال العثمانى لمصر والشام فى القرن السادس عشر بتأييد مباشر من بريطانيا التى كانت ترى فى هذا التوجه كسرًا لدولة المماليك المصريين التى تصدت للحملات الصليبية البرتغالية، ليس فى محيط مصر والحجاز بالبحر الأحمر فحسب بل وصولًا إلى مياه المحيط الهندى على مقربة من سواحل الهند.
طيلة القرن السادس عشر كانت بريطانيا هى المُدافع الأول عن وحدة الدولة العثمانية فى وجه قياصرة موسكو، عكس فرنسا التى كانت تنادى بتعجيل التصدى للعثمانيين وتقسيم بلادهم، ولاحقًا دعمت بريطانيا طموحات روسيا التوسعية من أجل ضرب فرنسا الإمبراطورية، وبعد ذلك تفهمت باريس رؤية لندن، ونسّقت الدولتان فى حرب القرم ما بين عامَى 1854 و1856؛ حيث حاربت بريطانيا وفرنسا ضد روسيا القيصرية نيابة عن الدولة العثمانية.
ولم يكن الإسلام السياسى الذى تتم صناعته دوريّا على يد عملاء بريطانيا بعيدًا عن هذه الحقبة؛ حيث صنعت بريطانيا ودعّمت حركات الصحوة والجهاد والإحياء فى آسيا الوسطى الروسية خلال القرن التاسع عشر فى إطار المنافسة مع قياصرة موسكو، ولعبت بريطانيا اللعبة ذاتها فى شرق الجزيرة العربية خلال القرن الثامن عشر بوجه العثمانيين، ومنذ عام 1850 تلقت الزعامات الشيعية فى النجف وكربلاء بالعراق العثمانى رواتب مالية ثابتة من لندن عبر مستعمرة بريطانيا فى الهند، ولم يكن هذا الاتصال بين بريطانيا والإسلام السياسى الشيعى فى العراق تمهيدًا لغزو لندن للعراق عام 1917 إبان الحرب العالمية الأولى فحسب؛ بل كان تأسيسًا لعلاقات تاريخية بين بريطانيا والجنوب الشيعى العراقى حتى اليوم، إلى درجة أن الولايات المتحدة الأمريكية حينما اعتزمت غزو العراق عام 2003 قد اتفقت على أن يكون الجنوب العراقى تحت سيطرة الاحتلال البريطانى وليس الأمريكى على ضوء تلك العلاقات التاريخية.
لندن تصوغ القومية العربية
هكذا تم أواسط القرن التاسع عشر ابتكار ما يسمى بالقومية العربية على يد المخابرات البريطانية والقوى الغربية الاقتصادية الكبرى؛ استغلالًا لصراع الجنس العربى مع الجنس التركى المصطنع داخل الخلافة العباسية، واستمرار
هذا الصراع مع صعود السلاجقة ثم العثمانيين.
قبل منتصف القرن التاسع عشر لم يكن هنالك عبر التاريخ كله فكرة القومية العربية أو الوحدة العربية أو فكرة أن الشعوب من المحيط للخليج ذات أصل عربى مشترك، أو أن تلك الشعوب تتحدث لغة واحدة أو ذات ثقافة واحدة، فالذى جمع بين تلك الشعوب هو فكرة الوحدة الإسلامية وليس الوحدة العربية، وما فكرة الوحدة العربية أو القومية العربية إلا أحد روافد فكرة الخلافة الإسلامية والدولة الإسلامية ولاحقًا الإسلام السياسى.
تكفّل المحفل الماسونى الأسكتلندى ثم الفرنسى بتمويل القوميين العرب عبر جمال الدين الأفغانى، الذى أنشأ بدوره الجمعية الماسونية العربية من أجل أن يكون المحفل الماسونى العربى هو مؤسّس ومظلة للقومية العربية.
كانت بريطانيا تدرس أن تخرج حركة الإخوان فى تلك السنوات باعتبارها حركة تؤيد القومية العربية، ولاحقًا درست بريطانيا فكرة أن تخرج حركة الإخوان فى العقد الأول من القرن العشرين على يد الشيخ محمد عبده باعتبارها حركة تنوير إسلامى قبل أن تستقر على فكرة الإخوان نسخة حسن البنا.
عبر تاريخ مصر لم تنتصر الدولة المصرية إلا بالانحياز للقومية المصرية والدولة الوطنية المصرية والخصوصية الثقافية المصرية، وأنه حينما كانت مصر تتحرر من فكرة الجامعة الإسلامية والدول متعددة القوميات كانت تدير الشرق الأوسط حتى لو كان حاكمها ليس مصريّا، كما الحال فى سنوات الأسرة الأيوبية وأسر المماليك والرعيل الأول من أسرة محمد على باشا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق