الأحد، 3 فبراير 2019

الرومي وشمس تبريزي‏..‏دين الحب

خالد محمد عبده
قبل زمان حضرة مولانا جلال الدين الرومي ما كان مخلوق مطلعا علي حال شمس تبريزي‏-‏كما يخبرنا سبهسالار‏-‏ وحتي الآن لم يدرك أحد حقائق أسراره‏,‏ كان دائما يحرص علي إخفاء نفسه عن الناس حتي وإن ظهرت من أفعاله بعض الكرامات‏!‏ كان يلبس زي التجار ويتصرف كما يتصرفون‏,‏
تحقق مولانا جلال الدين بعد لقائه وصحبته لشمس, مما جعل آثاره تعرف في الشرق والغرب, ويلتف حولها الجميع, من هذه الآثار: كتابه المثنوي والديوان الكبير أو غزليات شمس تبريزي, وفيه ما فيه, 
والرباعيات.
عرف أهل مصر الرومي منذ فترة بعيدة, بإصدار مطبعة بولاق أجمل طبعات المثنوي, وشرحه العربي( المنهج القوي لطلاب المثنوي); لكننا في مصر لم تتطور معارفنا عن المثنوي ومولانا جلال الدين, إلا بعد إنشاء معهد اللغات الشرقية بكلية الآداب, في الجامعة المصرية, إذ أضحي المثنوي وقتها مادة للدراسة والترجمة, بفضل الأساتذة الأوائل الذين درسوا علي أيدي المستشرقين المتخصصين في الأدب الفارسي, ومن هؤلاء الأستاذ عبد الوهاب عزام الذي تتلمذ علي يد المستشرق( دنس رس) و(نيكلسون) و( توماس أرنولد). إن واحدا من هؤلاء المستشرقين الكبار صرف عمره في درس التصوف الإسلامي, حتي أمسي حجة في علمه, وله فيه مؤلفات كثيرة يعتمد عليها الباحثون في التصوف, وهي حرية بأن يعتمد عليها, وقد نشر بعض كتب التصوف القيمة بالعربية والفارسية وترجم بعضها إلي الانجليزية, وحسبنا أن نقول إنه ترجم المثنوي, ونشر الأصل الفارسي والترجمة. فكان الأصل الذي نشره عمدة قراء المثنوي في أصله الفارسي, والترجمة مرجع قرائه في الإنجليزية. وكان قد نشر قبلا قصائد من الديوان الكبير, ديوان جلال الدين المسمي ديوان شمس تبريزي مع ترجمتها, وقدم لها مقدمة وافية كافية في تاريخ جلال الدين ومذهبه.
عد الأستاذ عبد الوهاب عزام المثنوي منظومة صوفية فلسفية عظيمة, ورأي أن دور حسام الدين جلبي في الكتاب لا يقل عن دور شمس تبريزي في الديوان, ورغم أن الرومي نظم المثنوي علي وزن شعري محدد, إلا أنه لم يكن منشغلا مستغرقا في النظم, وسرعان ما نقله الشاغل اللفظي إلي الحبيب المشغول به, يقول الرومي في قصة التاجر والببغاء: أفكر في القافية وحبيبي يقول لا تفكر إلا في رؤيتي. اطمئن أيها المفكر في القافية, فأنت قافية السعادة أمامي. ما الحرف فتفكر فيه؟ إنه الشوق في جدار البستان. إني أمحق القول والحرف والصوت لأناجيك بغير هذه الثلاث. أفشي إليك السر الذي أخفيته عن آدم يا سر العالم.. إن الذي أحسه وراء الصوت والحرف, بل وراء الأسماع والأفهام.
لم يكن عبد الوهاب عزام وحده من أهل مصر من اهتم بالمثنوي في تلك الفترة, بل قدم الشيخ الأزهري الصاوي شعلان مختارات من مثنوي الرومي, لا يعرفها الكثيرون اليوم, وغير مشهور عن الأديب الضرير أنه سجل أطروحته للدكتوراه بجامعة القاهرة, في الخمسينيات, بعنوان: نظم ألف بيت من مثنوي جلال الرومي, وتعد ترجمته من أروع الترجمات العربية نظما وعذوبة, ومنها: قال لي المحبوب لما زرته.. من ببابي قلت بالباب أنا
قال لي أنكرت توحيد الهوي.. عندما فرقت فيه بيننا
ومضي عام فلما جئته.. أطرق الباب عليه موهنا
قال لي من أنت قلت انظر فما.. ثم إلا أنت بالباب هنا
قال لي أدركت توحيد الهوي.. وعرفت الحب فادخل يا أنا.
ومن ترجماته النثرية للمثنوي: قصة الأسد والأرنب, والتي يقول فيها الرومي: أيها السالك لا تكن عابدا للصورة, فإن الإنسان وهو كريم علي ربه لا يمكن أن يقوم بصورته الآدمية وحدها, وإلا لاشتبه الناس بعضهم ببعض, ولتساوي الصالح والطالح, والبر والفاجر, وإذا شاهدت صورة منقوشة علي الجدران فلا تبهرك براعة الفنان, وتأمل كم ينقص تلك الصورة من الصفات.. لقد أمعن المصور في رسمها وأحكامها وإبداع ملامحها, ومع ذلك فستبقي كما هي صورة لا غير, بلا روح وبلا حياة!
عرف الجمهور المصري والعربي المثنوي في ترجمته الكاملة اليوم علي يد الأستاذ إبراهيم الدسوقي شتا, ومحمد عبد السلام كفافي من قبله, وبعض آثار الرومي الأخري, لكننا سنكتفي هنا بالإحالة علي الكتاب الصادر عن مركز المحروسة للكاتبة المغربية عائشة موماد( الرومي بين الشرق والغرب) ففيه تفصيل أكثر حول هذه الجهود في تقديم الرومي عربيا, ولا نحب أن نفوت هذه الفرصة بالإشارة إلي جهود العالم السوري المعاصر عيسي علي العاكوب, الذي نقل لنا من نصوص الرومي الفارسية ما لم ينقل من قبل, كما وجه كبير عنايته إلي ما كتب حول الرومي في اللغة الإنجليزية ووفره لنا, وتسير علي دربه اليوم عائشة موماد في نقلها للدراسات الفرنسية عن الرومي وبذلها للقراء.
مختارات من نصوص مولانا:
1-رباعيات ترجمة عائشة موماد
*-هذا الصباح, قطفت ورودا من البستان
خشيت أن يلمحني البستاني
سمعته يخاطبني بكل رقة:
ما الورود؟ سأمنحك البستان كله.
*- أنت الذي, بالرغم عن مائة شكوي ومائة ذريعة,
تمنعني أن أضع قبلة واحدة علي قدميك
سواء منحتني الماء أو النار,
أنت سلطان العالم في الحقيقة, أنت من يعطي الأوامر.
*- يا صديق عمري, ما أنت فاعل بدوني؟
يا رفيقي وموضع أسراري, ما أنت فاعل بدوني؟
أنا, بوجهي الذي يشبه الخريف, إني لمشوش ومحطم بدونك.
أنت, بوجهك الربيعي, ما أنت فاعل بدوني؟
*- لقد أوحي الله لمحمد: أيها النبي
لا تجالس إلا العشاق, وابتعد عن غيرهم.
مهما أضاءت شعلتك العالم.
فالنار تموت بمرافقة الرماد.
*- اذهبوا بي عند موتي,
سلموا معشوقي جسدي.
إن قبل شفتي الجافة,
ثم رد إلي الحياة, لا تتعجبوا!
2- مختارات من غزليات شمس تبريزي ترجمة العاكوب
1-إذا كنت أصفق بيدي, فلست من المصفقين;
لست من هذا ولا من ذاك, أنا من تلك المدينة العظيمة.
ـ لست من أجل الزمر والقمار, لست من أجل الخمر والعقار,
لست خميرا ولا خمارا, لست كهذا ولا كذاك.
ـ وإذا كنت ثملا وخرابـا, فلست ثملا بالشراب مثلك;
لست من التراب, لست من الماء, لست من أهل هذا الزمان.
ـ وعقل ابن آدم, أي خبر لديه عن هذا التعبير؟ ـ
لأنني متوار عن جملة العالم بمائتي حجاب.
ـ لاتسمع هذا الكلام علي أنه مني, ولامن هذا الخاطر المضيء;
لأنني لا أقبل ولا آخذ من هذا الظاهر والباطن.
ـ وبرغم أن وجهك جميل, فإن قفص روحك من الخشب;
فأبعد عني لكي لا تحترق, لأن لساني شعلة.
ـ لست ذا عبير, ولا ذا لون, لست ذا شهرة ولا ذا عار;
فحاذر سهمي المصمي; لأن الحق قوسي.
ـ لا آخذ خمرة لما تتعتق, ولا أقترض من أحد,
لا آخذ نفسـا وشركا, فهيا يا حظي الشاب.
- سافرت, جريت إلي كل مدينة,
ولم أر أحدا بلطفك وحسنك.
ـ عدت من الهجران والغربة,
ومرة أخري ظفرت بهذه الحظوة.
ـ ومنذ أن ابتعدت عن حديقة محياك,
لم أر وردا, لم أقطف ثمرة.
ـ ومنذ أن وقعت بعيدا عنك بسبب سوء الحظ,
تحملت من كل سيئ الحظ مائة إزعاج.
ـ ماذا أقول؟! كنت ميتـا تمامـا من دونك;
وقد خلقني الحق من جديد مرة أخري.
ـ فواعجبـا! أيمكن أن تقول إنني رأيت وجهك؟ ـ
أيمكن أن تقول إنني سمعت صوتك؟
ـ دعني أقبل يدك وقدمك;
أعط العيدية; لأن اليوم عيدي.
مختارات من فيه ما فيه ترجمة العاكوب
1- انكسر القلم وانشق الورق... هناك الكثيرون من الأشخاص الذين تكون قلوبهم ممتلئة بهذه الكلمات, لكنهم لا يستطيعون التعبير عنها بالعبارات والألفاظ! رغم أنهم طالبون ومتشوقون إلي هذا.
2- قال ملك لدرويش: اذكرني لحظة أن تكون في مقام تجلي الحق وقربه, فقال حين أصل حضرته تعالي وتشع علي أنوار شمس جماله أفني عن ذاتي; فكيف أذكرك؟ لكن الحق تعالي إذا اصطفي عبدا وجعله يستغرق ذاته, فكل من تشبث بذيله وطلب منه حاجة لبي حاجته دون أن يذكرها ذاك العبد أمام الحق.
3- في حضرة الحق لا مكان لاثنين.. من أنا؟ أنت تقول أنا...وهو يقول أنا... فإما أن تموت أمامه وإما أن يموت أمامك حتي لاتبقي الثنائية.. أما أن يموت هو سبحانه فأمر غير ممكن لا في الواقع ولا في التصور كيف ذلك وهو الحي الذي لايموت؟
إن للحق من اللطف والرحمة أنه لو كان ممكنا أن يموت من أجلك لمات, حتي تزول الثنائية! والآن إذ الموت في حقه تعالي غير ممكن, مت أنت حتي يتجلي عليك, وتزول الثنائية عندما تربط طائرين حيين معا, برغم وجود التجانس بينهما وتحول جناحيهما إلي أربعة أجنحة, لايطيران, لأن الثنائية قائمة, أما إذا ربطت طائرا ميتا بطائر حي فإن الطائر الحي يطير لأن الثنائية زالت.
مختارات من رسائل مولانا ترجمة العاكوب
*ليس في أيدينا إلا آهات الاشتياق وزفرات المحبة. والوصال والفراق بحكم الملك الخلاق, وهذه المعاني وهذا الرتق والفتق والكون والفساد خفية علي أغلب الخلق, يرون أحوالهم ولا يرون محول أحوالهم.
*إن مثال الحق في بحر التقدير مثال السفن المضطربة, مسخرة بيد الريح, متحيرة. تصرخ أنت: أيتها السفينة, امض في هذه الوجهة, فتجيب السفينة بلسان الحال: أنا محكومة بحكم ريح البحر. وإذا أنت لم تصدق بعجزك فانظر إلي آلاف الأمور التي تجري علي عكس مرادك. فمن نافذة عجزك انظر إلي عجز العالم كله. ومن نافذة أنواع العجز انظر إلي القادر علي الإطلاق.
مختارات من( مقالات شمس تبريزي) ترجمة العاكوب
1-كنت طفلا.. كنت أري الله, كشفا].. وكنت أشاهد الملائكة, وكان لدي اطلاع علي المغيبات, وكنت أظن أن الناس جميعا يرون مثلي, ثم علمت فيما بعد أنهم لم يكونوا يرون مثل ما أري. كان الشيخ أبو بكر, مرشدي, يمنعني من الإعلام بذلك.
2-شربت في قونيه, من الينبوع الذي كنت مشتاقا إليه, خمر المحبة والعشق اللذيذ, وكنت ثملا لمدة طويلة. وإذا كنت قد عشت في هذا المنفي البائس, فمبعث ذلك أنني أعيش مع عشق رجال الله والعارفين, ولا يوجد بيني وبينهم في عالم التراب فراق وهجران. من أجل الله, أطلقوا سراحي, اتركوا طوفان الطبيعة يحملني معه إلي آفاق بعيدة كأوراق الخريف الصفراء, فلا يبقي مني أثر.
3-كل من أحبه أقدم له الجفاء, فإن قبل ذلك كنت له! نعم, إن لدي قاعدة هي أن كل من أحبه أستعمل معه القهر أولا, وهكذا أستعمل الجفاء مع الشخص الذي أحبه. أنا أيضا مثل كف اليد, إن عرف شخص طبعي ارتاح ظاهرا وباطنا. كل من أتوجه إليه يدير وجهه عن العالم كله وربما أبدو متوجها إلي أحد, 
لكنني لا أتوجه إليه حقيقة. لدي جوهر يتمثل في أن كل من أتوجه إليه يغدو غريبا عند أصحابه وأحبابه.

******************
محمد يسري رصيف
"عندما تلج دائرة الحب، تكون اللغة التي نعرفها قد عفى عليها الزمن، فما لا يمكن التعبير عنه بكلمات، لا يمكن إدراكه إلا بالصمت"، من قواعد العشق للتبريزي والرومي.

إن عشاق الله لا ينفد صبرهم مطلقاً لأنهم يعرفون أنه لكي يصبح الهلال بدراً فهو يحتاج إلى وقت"، من قواعد العشق للتبريزي والرومي
لكي تولد نفس جديدة، يجب أن تختبر الألم. فكما يحتاج الصلصال إلى حرارة عالية ليشتد، كذلك الحب لا يكتمل إلا بالألم
"آمن بقيمك ومبادئك لكن لا تفرضها على الآخرين"، من قواعد العشق للتبريزي والرومي
الصوفي لا يحمد الله على ما منحه إياه فحسب، بل يحمده أيضاً على كل ما حرمه منه"، من قواعد العشق للرومي والتبريزي
إن الطريقة التي نرى فيها الله ما هي إلا انعكاس للطريقة التي نرى فيها أنفسنا... إذا رأينا الله مفعماً بالمحبة والرحمة فإننا نكون كذلك"، من قواعد العشق للرومي والتبريزي
مختلفان في الأصل، والسنّ والمذهب، جمعتهما صداقة قدمت للإنسانية قواعد جديدة للعشق: قصة التبريزي والرومي
مولانا، لم يكتف كغيره من شيوخ الصوفية المعاصرين له، بقراءة الأوراد والأدعية والأذكار، بل أنه أحدث في طريقته عدداً من الممارسات المختلفة، وذلك عندما مزج العبادة بالشعر والنثر والغناء والموسيقى، إلى الحد الذي جعل المستشرق النمساوي جوزيف فون هامر، يصف الرومي بأنه "بلبل الحياة التأملية".
لو أظهر جماله دون حجاب لما بقي شيء في مكانه"، هكذا وصف الرومي التبريزي
طريقة الرومي في التعبير عن التوحد والذوبان في بحار العشق الإلهي، تبدت واضحة في رقصات أتباعه الدائرية، التي تحاكي حركة الكون والأفلاك، والتي تعتمد على الانتقال الحركي من الأسفل إلى الأعلى، في إشارة لما يشعر به المريد عند تركه لمفردات الواقع المادي (البائس) الذي يحيط به، وانتقال روحه الهائمة إلى آفاق أخرى من الحس الغيبي الذي يحلّق في عوالم أخرى غير منظورة.
أفكار الرومي وصديقه التبريزي، لم تتجسد في الرقصات فقط، بل تجلّت في كتاب "المثنوي" الذي ضم بين دفتيه ألاف الأبيات الشعرية التي تغنت في العشق والحب، وقد لقي هذا الكتاب المكتوب باللغة الفارسية من الانتشار والذيوع ما يفوق الوصف والحصر، حتى عُرف باسم "قرآن العجم".
يرى الأكاديمي مصطفى وزيري في كتابه "ثورة رومي وشمس الصامتة" Rumi and Shams’ Silent Rebellion، أنّ أغلبية من كتب عن الرومي حديثاً وصفه بالصوفي الملتزم بالعقيدة الدينية، ولكنه يرى أنّ تلك القراءة محدودة، حيث أنّ غزل الرومي ونثر التبريزي يزوداننا بأرض خصبة لإعادة قراءة فلسفة العالمين وإعادة النظر في علاقتهما. ولأن الرومي لم يعطنا أيّة تفاصيل عن لقائه مع شمس أو عمّا تعمله منه، وجد المؤرخون هامشاً واسعاً للتفنّن في إعادة تخيّل ذلك اللّقاء التاريخي.

إن جهنم تقبع هنا والآن، وكذلك الجنة؛ ففي كل مرة نحب، نصعد إلى السماء؛ وفي كل مرة نكره أو نحسد أو نحارب أحداً، فإننا نسقط مباشرة في نار جهنم"، من قواعد العشق للرومي والتبريزي
جلال الدين الرومي وصل لقمة العشق الروحي ، كما لا ننسى غاندي وتولستوي وصلا لقمة التسامح الإنساني ، وجبران خليل جبران 
وهيلين كيلر وصلا لقمة التعمق في الذات الإنسانية .

أنا القَتيلُ بلا إثْمٍ ولا حَرَجِ" شطر من أشعار ابن الفارض في العشق الإلهي

****************************

زهور العشق فى حديقة الحقيقة.. الصوفية فيها ما فيها 

المولوية.. الطريقة الصوفية التى أسسها الرومى ونظم معظم الأشعار التى تنشد فى حلقات الذكر
 كرس حياته داعيا للتسامح بلا حدود وتقبل الآخر والإيمان بانتصار الخير على الشر وترقى النفوس بالذوبان عشقا فى الذات الإلهية


إن الإنسان قاصر مهما بلغت حكمته.. ضيق النظر مهما اتسعت رؤيته.. عاجز عن معرفة الحقيقة مهما كانت براعته.. ويدلل الرومى على ذلك بحكاية شائعة اقتبسها من الهند:

كان الفيل موجودا فى حجرة مظلمة ودخل الناس لمشاهدته فى العتمة فردا فردا ولما كانت رؤيته بالعين غير ممكنة أخذوا يتحسسونه بأيديهم ليتعرف عليه.

وقعت كف أحدهم على خرطومه فقال: إن شكله مثل الأنبوبة.

ووصلت كف آخر على أذنه فبدا له كأنه مروحة.

وعندما تحسس الثالث ظهره قدمه: لقد أدركت شكل الفيل إنه كالعمود.

أما ذلك الذى وضع يده على ظهره فقد قال: هذا الفيل كأنه نجد (الأرض المرتفعة).

واختلفت أقوالهم باختلاف وجهات نظرهم: قال أحدهم إنه معوج كالدال وقال آخر بل مستقيم كالألف ولو كانت فى يد كل منهم شمعة لعرفوا الحقيقة الكاملة.

والحقيقة الكاملة أو الحقيقة المطلقة هى الذات الإلهية التى يستحيل إدراكها إلا بالفناء فى حبها وهى مرتبة لا يصل إليها إلا من اصطفاه الله من بين عباده.



وأكثر من استلهم التسامح الصوفى من سيرة الرومى الكاتب الفرنسى إيريك إيمانويل شميت.

تخصص شميت فى كتابة سلسلة من الروايات تحت عنوان «اللامرئى» تكشف عن اهتمامه بالعقائد باعتبارها ظواهر غير مرئية ورغم ذلك يصعب إنكارها فى حياتنا لتأثيرها المباشر فى الثقافة والحضارة.

«الابتسامة تصنع المعجزات».

وفى النهاية نجد أنفسنا أمام رؤية بسيطة عالية القيمة: «قلب الإنسان مثل طائر محبوس عندما يرقص ويغنى يرتفع إلى أعلى السماوات».

«سهل أن تفر من كل شىء لكنه صعب جدا أن تفر من نفسك وإن منبع إفادتك هو النفس وما لم تغد كالعدم وتقتل نفسك وإرادتك فلن تتحرر من بلائك فمت قبل الموت وادفن نفسك فى قبر مخالفة النفس وكن سعيدا «.

«الدنيا سقف جهنم ترى كل هذه الأزهار والأنوار والمسرات والرغبات أما فى الداخل فيوجد ألف عذاب وعندما يخبرك إنسان بأنه فى النهاية سينهار هذا السقف «والتفت الساق على الساق» فاحذر من أن تغتر فوق السقف بالشقائق والرياحين».

«كل مخالف للنفس يقربنا وكل ما هو موافق للنفس يبعدنا.. إذا خالفت النفس الإمارة كان الله على سلم معك.. وإذا صالحت النفس صرت فى حرب مع الله».

«إن لب العبادة هو إفناء النفس وبقية العبادة ليست سوى قشور وما لم تفن عن هذا المستوى من الوجود فلن تحصل على وجود من وجوده (تعالى) فمت قبل الموت وادفن نفسك فى قبر مخالفة النفس وابتهج».

«إن مصباح نور الإيمان يضاء داخل زجاجة جسد المؤمن جسد العارف بفضل المجاهدة يغدو مثل زجاجة يسطع منها نور الإيمان.. إنه نور وضع فى عين طينة آدم وذلك النور لا يظهر إلا بالمجاهدة وكلما زاد القسر سماكة ازداد اللب ضعفا وخفاء وكلما ضاق القسر ورق بالمجاهدة استمد نور القوة من هذا المعنى مثلما أنه كلما رقت قشرة جوزة امتلأ قلبها ومثل ذلك فى شأن اللوز والفستق كلما غلظت القشرة ضعف اللب».

ولوحظ أن نسبة لا تقل عن سبعين فى المائة من الداخلين فى الإسلام على كبر فى الولايات المتحدة جذبتهم النصوص الصوفية إليه ويعرفون عن أقطاب الصوفية ما لا يعرفه المسلمون بالمولد.

إن غالبية المتحولين دينيا كانوا حائرين ضائعين عاجزين عن التكيف مع قيم مادية قاسية دفعت بهم للجنس حتى زهدوا وللخمر حتى أدمنوا وللربح حتى نهبوا وسرقوا ونصبوا و قتلوا.

جاء شفاء بعضهم من حالة كراهية الذات فى الهند حيث عرفوا قيمة الروح فى البوذية والهندوسية بتمارين يوجا تزيد من مرونة الجسد وتطلق النفس البشرية من سجن الرغبات والشهوات.

وجاء شفاء البعض الآخر من كتابات العارفين بالله التى تفرق بين نفس مظلمة كالليل وأخرى ساطعة كالشمس ولوحظ أنهم أكثر تمسكا بالإسلام ممن ورثوه.

فى صفحة الرأى الأكثر تأثيرا فى صحيفة واشنطن بوست كتبت عائشة (كارولين سابقا) بأول مقال تحت عنوان: «رغم تقدم الطب الأمريكى لم يصل إلى علاج النفس المريضة» طعمته باستشهادات صوفية كانت سببا مباشرا لكى تنطق بالشهادتين:

«فرعون عليه اللعنة قال: «أنا ربكم» استعماله كلمة «أنا» كان لعنة الله عليه وقال الحسين منصور (الحلاج): «أنا الحق» واستعماله كلمة «أنا» كان رحمة من الله».

«إن قول «أنا الحق كان على شفة المنصور نورًا وكان قول «أنا الله» على لسان فرعون زورا.

«والمؤكد أن الإنسان إذ تقدم فى الطريق الروحى يظفر بالكمال ويرتبط بحضرة الألوهية متجاوزا حتى الملائكة فى المنزلة ورغم ذلك لا يتوقف الصوفيون عند الظفر بهذه المنزلة «لا توجد نهاية للطريق «ذلك لأن الصوفية يتحدثون عن رحلتين: الرحلة إلى الله والرحلة فى الله حسب ما يخبرنا عن أسرارهم الترمذى»:

«هناك منازل على الطريق أى عندما تبلغ مدينة الوصال.. ليس ثمة نهاية للتقدم داخل المدينة.. ليس لطريق الوصال نهاية.. المنتهى والمقصد هو الله مثلما يقال «وإن إلى ربك المنتهى».

وأكثر من أثر فى الرومى كان شمس الدين محمد بن مالك داد «التبريزى» فقد أقنعه أن من يأتون إلى مسجده وسماع خطبه ومواعظه ليسوا فى حاجة إليه فهم مهتدون عرفوا طريقهم إلى الله وحدهم ولكن أكثر الناس حاجة إليه الذين يعيشون فى الرذيلة: شاربو الخمر ومدمنو المخدرات وسارقو الأعراض ومحترفو العهر.

ولو كان على الولى الصوفى تقبل البشر كما هم دون أن يحاكمهم بأفعالهم أو يحكم عليهم بمظاهرهم فلم يستنكف التعامل مع اللصوص والقتلة وقطاع الطرق والبغايا؟ اليس هؤلاء أولى بالرعاية؟ لم يعالج الأصحاء ويتجنب المرضى؟.

وهكذا كان على الرومى بكل ما ورث من ترف العيش وحرير الثياب ونعومة الفراش ومكانة السيادة أن ينزل إلى البارات وبيوت العاهرات وزنازين المساجين كى يشفى يريح النفوس المتعبة فيها مهما شقت نفسه وتعبت روحه وتألمت مشاعره.

انقلاب حاد فى حياة الصوفى المتوج وليا تقيا ورعا جعله يعود تلميذا صغيرا فى مدرسة التبريزى التى تبدأ درسها الأول فى قاع المدن حيث العشوائيات وأكواخ الصفيح والرائحة العفنة والموت فى كل شبر والفقر فى كل بيت والألم يسيطر على الجميع.

وربما كانت تلك النتيجة التربوية خلاصة رواية اليف شفاك «قواعد العشق الأربعون» التى جمعت فيها بين الصوفية وأوجاعنا العصرية وقد حققت الرواية انتشارا كبيرا فى مصر يندر أن تناله رواية مترجمة مما يكشف عن كمون الصوفية فى جينات المصريين إلى حد انتماء أكثر من عشرة ملايين منهم فى 77 طريقة جعلت من نفسها حائط صد ضد التنظيمات الإرهابية.

وليست الصوفية جديدة فى مصر فعمرها يمتد مئات الأعوام ولكن رغم ذلك هناك سوء فهم لكثير من مظاهرها بل هناك اختلاف فى تعريفها والأخطر توريث طرقها ربما لمن لا يصلح لتولى شئونها.

ويعرف المصريون أقطاب الصوفية الأربعة (أحمد الرفاعى وعبد القادر الجيلانى وأحمد البدوى وإبراهيم الدسوقى) ويؤمن محيى الدين بن عربى بوجود قطب فى كل مكان وزمان وأن عددهم إلى يوم الدين لن يزيد عن خمسة وعشرين قطبا ومنهم خرجت كل الطرق مهما بدت مختلفة.

ومثل غالبية المؤمنين بسيادة العقل والعلم وجدت الصوفية نوعا من الشعوذة والدروشة ولكن شيئا ما حدث جعلنى أتراجع عن تصورى وأقر بخطئى.

++++++++++++++++++++

«أنا مولودٌ للعشق».. رحلة تحوُّل جلال الدين الرومي من فقيهٍ حنفيّ إلى شاعر روحاني



إن كنت تبحث عن مسكنٍ للروح؛ فأنت روحٌ. وإن كنت تفتش عن قطعة خبز؛ فأنت خبزٌ. إن استطعت إدراك هذه الفكرة البسيطة، فسوف تفهم أن كل ما تبحث عنه؛ هو أنت *جلال الدين الرومي، رباعيات

جلال الدين الرومي.. رسول العشق الذي أضاء القلوب بشعره وأثّر في أوروبا وأمريكا


«كن كالسماء، حطم جدار السجن بفأس واهرب»

النهج الذي جعل به الملايين من الأشخاص يشعرون بمحبة الله وقربه، يشعرون بالأمل ولا يهربون من الألم، بل يدركون أن من الألم تُضئ قلوبهم وبالألم ينفذون إلى أرواحهم، كما يقول الرومي «لا بدّ للقلب أن ينكسر كي يدخل النور».

حاول الرومي تحطيم جدار سجن الدنيا واليأس والأسر، لينطلق في سماء العشق والحرية، فهو كما ينصح «لديك أجنحة، تعلم كيفية استخدامها وحلٍّق».

كان الفأس الذي استخدمه جلال الدين الرومي لتحقيق ذلك هو «المحبة»، والتي يقول عنها «فقط من أعماق قلبك يمكنك لمس السماء» ويشرح باستفاضة أكثر وجهة نظره في الحب قائلاً «هذا هو الحب: أن تطير نحو سماءٍ خفيّة، أو تتسبب في كشف مائة حجاب في كل لحظة، اهجر الحياة أولاً، وأخيراً، اخطُ دون أن تحرِّك قدميك».

لقاء الرومي بشمس

«ضع حياتك على خطّ النار، ورافق أولئك الذين يبقون تلك النار مشتعلة»، هكذا يقول الرومي في شعره، وهذا هو ما فعله شمس التبريزي، حينما التقى بالرومي. فقد أضرم الشيخ الصوفي النار في قلب العالم  الكبير، وحافظ على النار مُشتعلة ليظل ضوئها يُستنار به حتى بعد رحيل كليهما بمئات السنين عبر مؤلفاته وأشعاره.


+++++++++++++++++++++++

التجربة الروحية في شكل جذاب.. عن شهرة جلال الدين الرومي في الغرب


ومقارنة ببقية الكتاب والفلاسفة المسلمين الآخرين، لقى تراث الرومي حفاوةً بالغةً لدى الغرب، حتى بات علمًا في بلاد لا تعرف عن الإسلام إلا مظاهره، وهو ما رده مهتمون إلى طبيعة منهجه الذي يقدم التجربة الروحية بصورة جذابة بعيدة عن القواعد والقناعات الدينية، ويمتلك رؤية تمثل رسالة عالمية تخاطب حضارات العالم كافة باعتبارها مصدر إلهام لكل الناس، وهو ما جعله مثار اهتمام وتركيز لدى المجتمع الغربي بشتى انتماءاته.

الرومي في الغرب


الأبحاث التي تطرقت إلى دراسة دوافع تغلغل فكر ابن الرومي في المجتمع الغربي أشارت إلى أن فكره اتسم بالتسامح الشديد مع الآخر، بصرف النظر عن هوية هذا الآخر، وهي المسألة التي اتسقت بشكل كبير مع قيم الحضارة الغربية وسمات عصر العولمة التي على رأسها تخطي مرحلة الاختلافات الثقافية بين الشعوب وتبني أفكار وحدة الأديان وتجاوز مسألة الانتماءات بشكل كامل، وهو ما وجدوه في تراث مولانا.

ومن الأقوال المأثورة التي لاقت رواجًا كبيرًا لدى الغرب، تلك التي عبر بها الرومي عن مدى سماحته واحترامه لأنصار الديانات الأخرى، فكان يقول: "مسلم أنا ولكني نصراني وبرهمي وزرادشتي.. توكلت عليك أيها الحق الأعلى.. ليس لي سوى معبد واحد.. مسجد أو كنيسة أو بيت أصنام".

التوجه ذاته كشفه في مطلع ديوانه "التبريزي" حين قال: "أنا نفسي لا أعرف نفسي، فلا أنا مسيحيٌّ، ولا أنا يهوديٌّ، ولا أنا مجوسيٌّ، ولا أنا مسلمٌ، ولا أنا شرقيٌّ، ولا أنا غربيٌّ، ولا أنا من البر، ولا أنا من البحر، ولا أنا من الكون، ولا أنا من المكان".

وعليه كان الغرب يرى في الرومي الوجه الإسلامي غير المتصادم مع الحضارة الليبرالية الغربية، وهو ما دفع منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة "اليونسكو" لتبني فكره وتسويقه، حيث وزعت ميداليات باسمه، كان ذلك في احتفال المنظمة بمئويتها الثامنة في واشنطن قبل سنوات، حين جاء في إعلانها آنذاك أن "أفكار وآمال الرومي يمكن أن تكون جزءًا من أفكار وآمال اليونسكو".

وتعد رواية (قواعد العشق الأربعون) للكاتبة التركية إليف شفق، أحد أبرز الأدلة على تأثير جلال الدين الرومي في الثقافة الحديثة، وتدور أحداث الرواية في مسارين متوازيين: الأول عن العلاقة القوية التي كانت تربط بين الرومي والتبريزي، أما الثاني فكان يتعلق بجانب من تعاليم وأفكار الرومي الصوفية، وقد حققت تلك الرواية الصادرة عام 2010 نجاحًا مدويًا حيث وصل عدد النسخ المبيعة منها في تركيا إلى أكثر من مليون نسخة.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق