السبت، 16 فبراير 2019

صــلاح الديــن الأيوبــي

“هــل كان صــلاح الديــن الأيوبــي يريــد تحريــر القــدس فعــلا مــن الصليبيــن، كرجــل تقــي مســلم؟ أم كانــت القــدس تكئــة أيديولوجيــة
ُ ودينية للحشد حول مشروعه في إقامة ملك يخصه عى ُ أنقاض ملك سابق عليه؟ وهل كان تدمره لراث الدولة الفاطمية في الأزهر
ِ انتقاما من العلم؟ أم لأن هذا الراث لم يكن عى ُ هواه الأيديولوجي في بناء ثقافة ملكه من منظوره الديني والثقافي؟.. هذه الأسئلة
هـي مـا يحـدد الموقـف مـن صـلاح الديـن

التاريخ ومحاكمة النوايا
تقييــم الرجــال مــن خــلال
نواياهــم التــي قــادت إلى أفعالهــم، وليــس مــن
خــلال أفعالهــم نفســها مهمــا بــدت عظيمــة
أو إيجابيــة، يفتــح البــاب عــى احتمالــين
متناقضين تمام التناقض، الأول يحمل دعوة
للفصــل بــين الفعــل وصاحبــه، فــلا يجعلنــا
تقديرنــا لفعــل مــا أن نظــن أن صاحبــه عظيــم
مثلــه؛ إلا إذا كان بالفعــل كذلــك. وهنــا يبــدأ
الاحتمــال الآخــر، الــذي يفتــح البــاب لقــراءة
نوايـا الرجـال التـي دفعتهـم للقيـام بمـا فعلـوا.
وهــو في ظنــي أمــر لا يدعيــه ســوى إلــه، فأجــر
وثـواب العمـل عنـد اللـه، وفـق التصـور الشـائع
لـه، لا يحصـل عليهمـا سـوى المؤمــن، فالأصـل
هــو نيــة العمــل وليــس العمــل نفســه.
هــذه الفكــرة تحديــداً أوقعــت الأمــة العربيــة
المســلمة لقــرون طويلــة في أزمــة عــدم القــدرة
عــى احــرام أعدائهــا مهمــا بلــغ شــأو وشــأن
منجزاتهــم، لمجــرد أن هــذه المنجــزات ليســت
خالصــة لوجــه اللــه كمــا يتصــوره المســلمون،
فاحتالــوا عــى الاحــرام بــالازدراء ووصلــوا إلى
حــل وســط في رأيــي يشــبه النذالــة؛ وهــو أن
اللـه سـخر هـؤلاء الأعـداء بعقولهـم وعلومهـم
وجهودهــم ودأبهــم لخدمــة المســلمين الذيــن
بالطبـع وبـلا شـك أرقـى وأفضـل عنـد اللـه مهمـا
كان مــن أمــر جهلهــم وغبائهــم وكســلهم،
فاسـتمروا في جهلهم وغبائهم وكسـلهم بينما
نجــح الكافــرون بكفرهــم
الشــق الأول
(الفصـل بـين الفعـل وصاحبـه-) تسـمح للشـق
الثــاني (الأصــل في العمــل النيــة) بالمــرور

فلننظــر أولا كيــف تمــت تربيتهــم، أو بالأحــرى
تربيتنــا مــن خــلال مناهــج الدراســة ووســائل
الإعــلام بمــا فيهــا الكتــب

تربينــا مــن خــلال نظــم التعليــم والدعــوة
والإعلام-عــى تقديــس النمــاذج بصفــة مغلقــة
كليــة شــمولية، وليــس عــى تقييــم عناصرهــا
ّ وتفاصيلها وقبول ما هو إيجابي وبناء ورفض
ّ مــا هــو ســلبي وهــدام.
هــذا الطــرح الــكي لا يســمح بمراجعــة نقديــة،
هــو مــن الأصــل يخلــق بيئــة لا تعــرف النقــد ولا
تتطــور خلالهــا ملــكات العقــل الناقــد

وفي ظنـي أن الأمـر –كالعـادة- بـدأ مـن الأديـان،
ليــس رفضــا لأديــان، ولكــن تصحيحــا لكيفيــة
التعامــل معهــا. لــن أقــول مــن كهنتهــا أو
المنتفعــين منهــا، ولكــن ممــن يضعــون مناهــج
لتقديــم أفكارهــا ومبادئهــا وشــرح نصوصهــا
للناس. إنهم هنا مؤمنون يتحدثون عما يرونه
مقدسا لا يأتيه الباطل من أي ناحية، وهم في
الوقـت نفسـه –وبحكـم سـيطرة الإيمـان أيضـا-
لا يملكــون الجــرأة اللازمــة لمواجهــة مــا يغمــض
عليهــم بالســؤال والبحــث، إنمــا بالتســليم بــأن
ثمـة حكمـة وراء ذلـك. وليتهـم يكتفـون بذلـك،
ويركــون الحكمــة لوقتهــا، إنمــا ينطلقــون مــن
هــذا التســليم مندفعــين بالحمــاس لتقديــم
شــرح أو تعليــل أو تفســر يفتقــر إلى أبســط
قواعــد المنطــق (خاصــة لمــن لا يملكــون إيمانهــم
وتســليمهم

نحــن مجتمــع ســواده الأعظــم
غــر مثقــف -بهــذا المعنــى، بدايــة مــن قــادة
الــرأي العــام ووعــاظ المنابــر، مــرورا بأســاتذة
الجامعــات والمعلمــين … إلى آخــر القائمــة.
قــل لطــلاب المــدارس

فــإذا خــرج أحــد القادريــن عــى التحليــل وقــال
“إن محمــد عــي باشــا فعــل ذلــك ليــس لأنــه
رجــل طيــب وعظيــم، وليــس لأنــه يحــب مصــر
والمصريــين ً ،” يصبــح القائــل غريبــا ومــا يقولــه
مســتغرب. فــإذا زاد وقــال إنــه كان عــى
ً العكــس؛ ألعبانــا وداهيــة وصاحــب حيــل
ومكائــد لا تقــف عنــد حــدود أخــلاق أو ديــن،
ً أو أنــه كان منطلقــا مــن هــوس بالســيطرة
وبنــاء امراطوريــة يرثهــا مــن بعــده أبنــاؤه،
فهــو مجــدف والعيــاذ باللــه. أمــا إذا أضــاف
-اســتكما ًلا للمنطــق- أنــه لا تعــارض بــين
الأمريـن، فقـد قدمـت أعمـال محمـد عـي لمصـر
خدمـات جليلـة، وإن كانـت نوايـاه ليسـت كمـا
نتصــور. إذن فليهنــأ القائــل -إضافــة إلى وصفــه
بالغريــب والمجــدف- بأنــه صــار في نظــر النــاس
مخبــو ًلا ومختــ ًلا والحمــد للــه!
أضــف إلى صــورة المجتمــع، الــذي صــار بفضــل
أنظمــة التعليــم والإعــلام والدعــوة غــر قــادر
عــى بنــاء وجهــة نظــره إلا مــن خــلال تبنــي
الصـور الجاهـزة، وغـر قـادر عـى التحليـل، ولا
يملــك مــن أدوات العقــل الناقــد النــزر اليســر،
أنــه مجتمــع لا يقــرأ، وإذا قــرأ –وهــو عــى هــذه
الركيبــة الذهنيــة- فــإن قراءتــه قــراءة ضريــرة،
يتلمـس فيهـا كالضريـر مـا ألفـه وارتـاح إليـه مـن
أشـياء، ولا يغامـر بالتحقـق ممـا لا يعـرف. إنـه
يقــرأ باحثــا عمــا يعــزز مــا رســخ في عقلــه مــن
أفــكار، وليــس ســعيا لاختبارهــا وتثقيفهــا.
والمحصلــة مجتمــع ينتظــر قــادة الــرأي ليتبنــى
مــا يطرحــون. فــإذا صــار قــادة الــرأي هــم
الإعلاميــون الجهــال الفارغــون فقــد اكتملــت
النعمــة وانزاحــت الغمــة.
رغــم مــا اكتــظ بــه التــراث العربــي والإســلامي
مــن مأثــورات، يبقــى أن النــاس –طالمــا أنهــم لا
يبحثــون عــن معلوماتهــم بأنفســهم، وطالمــا
أنهــم لــم ينشــأوا عـلـى أن ينحتــوا معارفهــم
بأنفســهم- ســتظل ثقافتهــم أصــداء الرائــج
والشــائع والمكــرور والمعتــاد في المــدارس
والجوامــع والكنائــس والنــوادي والتلفزيــون
ووسـائل التواصل الاجتماعي. فأين المفر الذي
ٌ يمكــن أن يخــرج منــه عقــل ناقــد أو محلــل؟




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق