الأربعاء، 26 مايو 2021

تدجين الإنسان.. كيف نظر ميشيل فوكو إلى الامتحانات؟ ****

May 20, 2020

ولعل المثال الواضح في هذا الشأن -كما يرى الباحث التونسي الزواوي بغورة- هو الأستاذ أو المعلم، الذي يحمل معرفة، وفي الوقت نفسه يحمل سلطة، سلطة النجاح والرسوب، أو سلطة الإجازة أو عدم الإجازة لذلك يرى فوكو أنه "حيثما توجد السلطة توجد المعرفة أو نوع من المعرفة، وحيث توجد المعرفة يوجد حد معين من السلطة، وأن مجرد ممارسة السلطة يؤدي إلى خلق المعرفة وتجميع المعلومات وبالتالي استخدامها، وأيضا فإن ممارسة المعرفة تنتج بالضرورة نوعا من السلطة"

ويعتقد فوكو أن السلطة تؤكد وجودها من خلال عدد من العمليات الصغيرة وصفها بـ "أعمال صغيرة دائمة لها قدرة كبيرة على الانتشار تلبي الحاجة إلى المعرفة التي يعتمد عليها النظام، كالسجون والمستشفيات والمدارس ونظام العدالة والطب النفسي، وإلخ.

Mar 24, 2021

وبهذا تتحول الامتحانات من أداة لقياس مدى معرفة الإنسان لمعلومة في مُقرّر، أو معالجة مفردة في موضوع، إلى اعتبارها مسألة تمس هوية الفرد، "تهدد الوجود والكيان الإنساني وتؤثر في شخصية المرء حتى أعماقها وجذورها".(2) ولتغدو الامتحانات ليست منحصرة في إطار استدعاء للمعلومات فقط، بل "سبرا للمعلومات وغير المعلومات، حتى لكأن الامتحان وُجد لتقييم ذات الإنسان وليس لمعلوماته، يقيّم شخصه ومُثله وأخلاقه، إلخ".

 الاستعارات أو العبارات المصاحبة للامتحانات: "يوم الامتحان.. يوم يكرم فيه المرء أو يُهان"، وما يقوم به بعض الآباء والأمهات من جعل تفوق ابنهم الدراسي شرط محبتهم إياه، كأن يرددوا على مسامعه: "لن أحبك إن لم تأخذ علامة جيدة في مادة الرياضيات" -مثلا-، أو يقولون له: "إن أنت أخذت الأول على المدرسة، فسوف أعطيك كذا وكذا أو أرضى عنك، إلخ".

 تجاوز مشاكل وآفات الامتحانات، تارة بتنويع طرق الاختبارات، وتارة بتهيئة الظروف المناسبة لتقليل حالة الخوف والقلق منها، وغير ذلك ممّا يُتداول في أبحاث وكتب "القياس والتقويم التربوي

وبالتجاور مع التربويين، والمختصين في التعليم والتدريس، الذين حاولوا تلافي المشكلات المصاحبة للامتحانات، عمد الفلاسفة والمفكرون إلى توجيه انتقادات جذريّة إلى فكرة "الامتحانات" ذاتها. من أمثال المفكر الفلسطيني منير فاشه على الصعيد العربيّ (4)، ومن أمثال ميشيل فوكو على الصعيد الغربي، الذي أسس للإطار النظري لفهم عملية الامتحانات، وكيف يتم تفعيلها كأداة من أدوات السيطرة الناعمة التي تستخدمها السلطة؟! فكيف نظر فوكو إلى الامتحانات الدراسية، وكيف حاول تحليلها؟

السلطة والمعرفة 

العلاقة بين المعرفة والسلطة أهم أفكار ميشيل فوكو

يختلف مفهوم المعرفة والسلطة عند فوكو عن المفاهيم التي تناقش علاقة العلم بالسياسة، أو علاقة العلم بالهيمنة، وذلك لما يتمتع به من خصوصية وجدية.

أدهشني عند دراستي للعلوم الإنسانية هو أنه لا يمكن أن نفصل إطلاقا بين نشأة كل هذه المعارف وبين ممارسة السلطة

 السلطة تنتج نوعا من المعرفة وتؤدي إلى تراكم المعلومات والمعارف، مما يقود إلى استخدام كل ذلك من أجل المزيد من ممارسة السلطة، وبالمقابل فإن المعرفة هي بحد ذاتها سلطة!

الباحث التونسي الزواوي بغورة- هو الأستاذ أو المعلم، الذي يحمل معرفة، وفي الوقت نفسه يحمل سلطة، سلطة النجاح والرسوب، أو سلطة الإجازة أو عدم الإجازة (6)، لذلك يرى فوكو أنه "حيثما توجد السلطة توجد المعرفة أو نوع من المعرفة، وحيث توجد المعرفة يوجد حد معين من السلطة، وأن مجرد ممارسة السلطة يؤدي إلى خلق المعرفة وتجميع المعلومات وبالتالي استخدامها، وأيضا فإن ممارسة المعرفة تنتج بالضرورة نوعا من السلطة"

؛ يعتقد ميشيل فوكو أنّ النظام والضبط في المجتمعات المعاصرة لا يمارس من خلال الاستعراض الفظ لقوة وسلطة الدولة: "الإعدامات في الساحات العامّة والمواكب الضخمة والاستعراضات العسكريّة، وإلخ"، ولكنه يمارس من خلال ما يسميه "نظم إنتاج المعرفة"

فوكو أن السلطة تؤكد وجودها من خلال عدد من العمليات الصغيرة وصفها بـ "أعمال صغيرة دائمة لها قدرة كبيرة على الانتشار" (8) تلبي الحاجة إلى المعرفة التي يعتمد عليها النظام، كالسجون والمستشفيات والمدارس ونظام العدالة والطب النفسي، وإلخ.والصحافة والاعلام 

وعليه فإن نجاح النظام وقوة الضبط في هذه الأعمال يستمد فاعليته -كما يرى فوكو- من استخدام أداتين بسيطتين:
1- الرقابة التراتبية.
2- العقوبة الضابطة

ومن خلال دمج هاتين الفكرتين في إجراءات معينة، تنشأ الاختبارات (examinations) وتعرف هذه الأدوات 
بـ "تقنيات القوة"
 (technologies of power)

*

تدجين الناس: فلسفة التطويع والإخضاع


الأنظمة العربية تستخدم سياسات متعددة لإخضاع وترويض شعوبها

ترويض الشعوب وتخليصها من العنفوان الذي كان يميزها، وتحويلها إلى مجموعات من القطعان والطوائف والملل والمذاهب والأعراق، أقوام ضعيفة وخاضعة وصاغرة، مذعنة ومستسلمة لمصيرها، وعاجزة غير قادرة لا على تغيير واقعها ولا حتى على تحريكه. سياسة التهجين التي اعتمدتها النظم العربية تواصلت عبر عقود متتالية، وأدت إلى محصلة مرعبة في الواقع العربي، حيث تجلت في المستويات المفزعة لمعدلات الفقر والأمية والتخلف الحضاري، وانتشار الجهل وشيوع القهر والاستبداد، وتفتت النسيج الاجتماعي، وظهور النزعات المذهبية والعرقية.

من الإنجازات العظيمة للأنظمة الشمولية العربية، نجاحها في تحديد آليات واضحة لدى المواطن العربي، للربط الجدلي بين العقاب الصارم الذي لا يرحم أحدا ولا مهرب منه، وبين أية مظاهر تشير إلى الانحراف عن رؤية السلطة، أو أي سلوكيات تمرد أو رد فعل أو أقوال مخالفة من قبل البشر. ونجحت الأنظمة وأدواتها الأمنية في ترسيخ هذا المفهوم في عقول المواطنين، والذي يعني أن أي موقف مخالف سوف يعني الردع وإنزال العقاب، إذن لا بد من الخنوع والانقياد للإفلات من العقاب

جميع الشعوب العربية تدرك أن بعض الأنظمة العربية قد أتقنت بجدارة فنون الترهيب والتفزيع والوعيد، إذ أصبح الخوف والرهبة هما الصفتان المشتركتان -تقريباً- لجميع هذه الشعوب. الخوف والرعب من الاعتقال التعسفي، الخوف من التعذيب والأذية، الرعب من جدران السجن، الخشية من الفقر والحرمان، الخوف من تالي الأيام. خوف ورعب وصل إلى حدود الشلل والانكفاء، مما أحدث حالة من الاغتراب الداخلي لدى المواطن العربي، فهو لا يشعر بهويته وانتمائه، ولا يشعر بحريته على قول ما يريد، تراه يكنُ البغض للنظام السياسي لكنه لا يجرؤ على الإفصاح، فإن فزعه من العقاب تجعل من إنكاره لنفسه ومواقفه وأقواله تصل إلى الدرجة العليا.

تستخدم الأنظمة العربية سياسات متعددة لإخضاع وترويض شعوبها، من ضمنها ما يعرف بسياسة العصا والجزرة. والجزرة هنا هي الانقياد والتحكم الناعم من خلال استغفال الشعوب بشعارات الحرية والديمقراطية، لكن أداة النظام للحكم تظل دون تغيير، ويظل الاستبداد جوهره. لذلك تعمد النظم العربية على إقامة انتخابات برلمانية ورئاسية وتفاخر بذلك لتغطية ما لا يغطّى من السياسات الأمنية التي تحكم الناس بواسطتها. حرص هذه الأنظمة على المظاهر الخادعة للديمقراطية شبيه بحرص السجّان على طلاء جدران السجن الخارجية بألوان زاهية.

على الصعيد البشري يتم توليد الكثير من المخاوف بذات الأسلوب الذي اعتمده بافلوف، خاصة لدى الأطفال والشباب، من خلال ربط المخاوف المشترط بمثير معين مع التكرار. فإن تم وضع سجين في غرفة مقفلة وتم تعذيبه بصدمات كهربائية على فترات متتالية مسبوقة بصوت ما، أياً كان هذا الصوت، فلنقل إنه صوت الحاكم أو الرئيس، فما يحصل أنه بعد عدد من المرات سوف يستجيب السجين لصوت الحاكم بنفس الطريقة من الخوف والفزع التي كان يستجيب بها للصدمة الكهربائية، حتى لو لم يتعرض لها بالفعل. بعبارة ثانية، إن السجين قد أشرط للاستجابة لمثير محايد.

إن الكثير من المخاوف البشرية يتم توليدها بذات الطريقة السابقة، وهذا ما يفعله -بعض- الحكام والأنظمة العربية لتدجين الشعوب وإخضاعها، وربط سلوكها وموقفها من السلطة باشتراطات تجعل الشعوب ترتعد خوفا كلما رأت صورة القائد أو سمعت صوته، وترسيخ ارتباط الزعيم بالوطن، ارتباط قيام الأنظمة بالتضييق على الحريات والمصلحة العليا للوطن والمجتمع، وهكذا دواليك يتم دفع المواطن العربي نحو دوّامة من الخوف والهواجس والقلق والاضطراب. كل هذا يجري التخطيط له بعناية في غرف سوداء مغلقة، من قبل الأجهزة الأمنية التابعة للحاكم، حيث يتم توظيف علم النفس السلوكي لترويض البشر من قبل متخصصين نفسانيين واجتماعيين وأمنيين.

أساليب الترويض

تقوم الأنظمة باعتماد سياسات لترويض الناس عبر طرق وأساليب منها القيام بتنظيم الكثير من المهرجانات والفعاليات والنشاطات الرياضية والفنية، وإقامة دوريات كرة القدم وتغطيتها إعلامياً، وجعلها حدثاً مهماً في حياة الناس للخروج قليلاً من واقعهم المعيشي وضنك الحياة. ثم المبالغة في الاحتفال بالأعياد الوطنية وابتداع مناسبات وطنية في محاولة لتعميق الشعور الوطني لدى المواطن، وترسيخ انتمائه وهويته. وعرض صور الحاكم أو الرئيس في المؤسسات الحكومية والخاصة، في الجامعات والمؤسسات التعليمية، في الفنادق والمنتجعات السياحية، في المصانع والمزارع، في البيوت والشوارع والأزقة. وأهمية عزف النشيد الوطني حيث يرفع العلم الوطني بموازاة رفع صورة الحاكم. ولا تنسى ربط أي إنجاز يتحقق -هذا لو وجدته- باسم الحاكم والرئيس، أي إنجاز وأي نجاح وأي فوز في مباراة رياضية ما كان له أن يتحقق لولا حكمة وبصيرة الحاكم. وبعد ذلك يصبح الوطن بما يتضمنه من شجر وحجر وبشر مختزلا في شخص الحاكم، بل ملك للحاكم وعائلته.

ومنذ انتشار وسائل الإعلام السمعية بداية عبر البث الإذاعي وأجهزة الراديو التي كانت منتشرة بكثرة في الأوساط العربية، ثم البصرية ودخول التلفاز إلى البيوت، أدركت الأنظمة أهمية هذا الجهاز الساحر، في التأثير على عقول المواطنين والتلاعب بها وترويضها، لأن ما يبث من خلالها من معلومات وبيانات ومواقف ورؤى وأي مضامين أخرى، يؤثر بشكل مباشر في وعي وإدراك الناس. لذلك تستخدم الأنظمة السياسية الوسائل الإعلامية لتلميع صورة الحاكم وتجميل نظامه، وتوجيه الرأي العام المحلي نحو تمجيد وتوقير هذا الرئيس ونظامه حرصاً على الوطن، ويصبح كل صوت معارض، وكل من يوجه انتقادا للزعيم أو لنظامه هو خائن للوطن. ثم يتم توظيف وسائل الإعلام لتمرير رؤية الحاكم وأفكار نظامه حول مختلف القضايا بدءًا من طريقة الحاكم في طهي الكوسا حتى فطنته في اكتشاف طبقة الأوزون.

ناهيك عن الملصقات الكبيرة واللافتات الضوئية التي تنتشر في الطرقات والميادين والجسور، ملصقات لصور القائد والزعيم والرئيس والحاكم بأمر الله، صور بملابس مدنية وأوضاع مختلفة، وصور بالزي العسكري مدججة بالنياشين والأوسمة حتى لو كان الرئيس لا يميز بين الرقيب والعريف. ولافتات تمجد الحاكم الحكيم، العالم العليم، الحصيف المتبصر، الرزين النجيب، الألمعي الرشيد. يتم وضع اللافتات وصور الرئيس في أماكن مرتفعة مختارة بعناية،

لتظهر طبيعة العلاقة الفوقية-الدونية التي تربط المواطن بالحاكم، وتذكره دوماً أن هناك من يحكم ويتحكم بجميع حركاته وأفعاله وأقواله، فتترسخ لدى المواطن المسكين الصورة الفوقية للسلطة، بحيث يصبح خاضعاً بشكل لا إرادي لها.

أما حين يرصد الحاكم ونظامه أي بوادر تذمر من المواطنين، أو حين يريد تمرير قانون لا يقبله الناس، فيلجأ إلى إغراق الشعب في قضايا هامشية جانبية، يقوم النظام بافتعالها لإشغال الناس عن مطالبهم الأساسية. إذ يتعمد النظام الحاكم افتعال خلافات بين مكونات المجتمع، وينشر العداوة والفرقة في ما بينهم، عبر إثارة المشاحنات والتناحر المذهبي والفقهي والطائفي والعرقي والطبقي والمناطقي. ويتعمد الحاكم ونظامه بخلق نوع من الفوضى ليثير ردود فعل معينة عند بعض الأطراف أو المذاهب في المجتمع من جهة، وحتى يتمكن من تبرير القمع والملاحقات الأمنية لاحقاً للمعارضين من جهة أخرى.

الحاكم مبدع في إشعال الحرائق وافتعال الأزمات الاجتماعية والاقتصادية والأمنية في المجتمع لإحكام سيطرته على البشر. حيث يقوم نظام الحاكم باختلاق أزمة معينة ويتولى إعلامه ضخ الشائعات المفبركة والمضللة حولها، ثم يتقدم الحاكم الحاذق الرصين حاملاً الحلول للمواطنين، يتم بموجبها تنازل الناس عن بعض حرياتهم وحقوقهم لتبديد غضب الجميع ولينتصر الوطن بانتصار الحاكم.

التخطيط الحاكم ونظامه يسعيان إلى إغراق الشعب بكل ما يلهيه عن مطالبه الرئيسية

بداية يعمد النظام إلى استكشاف وتحديد مكامن القوة والضعف لدى الشعب، من خلال أجهزته الأمنية وعيونه المنتشرة في كل ركن. ويتم التعرف وحصر أسماء المثقفين والمفكرين والعلماء الذين يتبنون مشروعا ديمقراطيا تنويريا، وتحديد القوى والشخصيات التي تسعى أو تفكر في التغيير، وكذلك تحديد أي شخص يحمل فكرا مخالفا أو ناقدا. ثم يقوم النظام بالقضاء على مصادر قوة الشعب، أو إضعافها إن تعذر القضاء عليها لسبب أو لآخر. يعمل على شل فاعلية الأحزاب والحركات والأفراد، ويلاحق المعارضين، ويقوم بفتح السجون بتهم أو بدون تهم، عبر تشويه الخطاب النقدي لبعض المفكرين والعلماء، حتى تشويه سمعتهم الشخصية، ويعمل كذلك على الإقصاء التام لكافة الأصوات المخالفة. يعمد إلى فرض رقابة صارمة على حركات الناس وأفعالها وأقوالها، حتى وأنفاسها، يعمل ما يستطيع لفرض رقابته ووصايته على مصادر العلم والمعرفة والمعلومات، ويحجب مواقع في الشبكة العنكبوتية يعتبرها خطرة على نظامه.

ثم يسعى الحاكم ونظامه إلى إغراق الشعب بكل ما يلهيه عن مطالبه الرئيسية، وكل ما يشتت تركيز الناس ويمنعهم من التفكير بواقعهم، ليصبح تأمين القوت اليومي الشاغل الأساسي للناس. فيتحول الوطن إلى مناسبات لا تنتهي، ومهرجانات فنية وأدبية، وأيام وطنية، وكرنفالات رياضية، ومسابقات يشارك بها البشر وتنظمها وسائل الإعلام بجوائز مالية مغرية. ويقوم الحاكم بمنح الامتيازات للجهلة والسفهاء الذين يتصدرون المشهد الإعلامي سياسياً وثقافياً واجتماعياً، وعلى الأصعدة الأخرى المتعددة، بينما صوت المثقفين والعلماء يتم طمسه أو اعتقاله.

تعمد الأنظمة إلى ضرب منظومة القيم والمثل لدى المواطن، من خلال جعل الحياة ضنكة وغير ميسرة، مما يجعل معها الإنسان لا يعود يهتم بالقيم، وتصاب روحه المعنوية بمقتل، إذ يصبح عاجزا وانهزامياً وتبريرياً يؤمن أن مصابه هو مصاب الجميع، وهذا تماماً ما تبتغي الأنظمة تحقيقه.

لا يكتفي الحاكم مما سبق، بل يعمل على تشكيل معارضة مفبركة، حتى يظهر الجانب الديمقراطي من نظامه الاستبدادي. يعتمد سياسة شراء الذمم بالأموال أو المناصب، لتتشكل بطانة للنظام تسبح بحمده، وتملأ الفراغ الذي أحدثه الغياب القسري للمثقفين والمفكرين الحقيقيين، فيلتف حول السلطان بعض رجال الدين المدّعين، والمثقفين السطحيين، والجهلة والمنافقين.

مآلات مرعبة


 تحولت الكثير من الشعوب العربية إلى ممارسة رقابة ذاتية صارمة على أفكارها وأقوالها وأفعالها، وأصبحت الناس توجه اللوم لبعضها البعض، بدلاً من توجيه اللوم والنقد للجاني، وتستعين بمبدأ أن على المواطن عدم توريط نفسه بالسياسة ما دام يعلم مقدار القسوة التي سيبديها النظام. والمفزع أن هذا الوضع السلوكي لبعض الشعوب العربية يتم توريثه للأجيال اللاحقة، بحيث يتحول الشعب كله نسخة واحدة من الأصل.

من الفاجعة القول إن بعض من رجال الدين يكمل دور النظام في ترويض البشر وإخضاعهم، عبر الخطب في المساجد، أو من خلال الندوات والدروس الدينية التي تبث عبر شاشة التلفاز، حيث يتم تحذير الناس من الضلالة والعقاب الشديد في الدنيا والآخرة، وحرمة عدم إطاعة الحاكم والوالي، والخروج من الجماعة التي ترعب عامة الناس.

المؤلم حقاً في هذا السياق هو ما تقوم به السلطتان السياسية والدينية في تعميق الشعور بالذنب لدى المواطن العربي، فيصبح الإحساس بالخطيئة والإثم يرافقان الإنسان، بحيث لا يجرؤ على مجرد التفكير بما يفعله الحاكم، أو بالشك بنزاهة النظام، فيقوم المواطن على معاقبة نفسه، حتى على أشياء لم يفعلها، بل لمجرد الشك بها.

ما لم تنهض الشعوب العربية وتقوم بتحطيم نظرية الارتباط الشرطي لهدم جدار الفزع، والانطلاق تجاه بناء دولة القانون والمؤسسات، فإن الحكام سيظلون يقرعون الجرس لنا دون تقديم الطعام.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق