الأحد، 16 مايو 2021

مارتن بوبر وفلسفة الحوار . حنة أرنت التباسات الحرية . شلومو ساند

العلاقات التي يعيش من خلالها البشر

  نوعين من العلاقات؛ أولا علاقة: «أنا - أنت» (I - Thou)، والعلاقة الثانية هي علاقة «أنا - هو» (I - It). علاقة أنا - هو تنشأ بين الإنسان والأشياء أو بين الإنسان وإنسان آخر. هذه العلاقة محدودة بغرض الاستعمال. بمعنى أن الطرف الآخر في هذه العلاقة ينظر له على أنه وسيلة لغاية معينة، وكل معنى يأخذه في هذه العلاقة إنما هو نابع من طبيعة الاستعمال هذه. مع الأشياء هذه العلاقة واضحة. مثلا علاقة الإنسان بسيارته هي علاقة استعمال. السيارة هنا هي وسيلة يستعملها الإنسان للتنقل والحركة. قد يشعر الإنسان بحب لسيارته وانتماء لها، ولكن هذا الحب وهذه العاطفة ناتجان عن كون هذه السيارة وسيلة نقل. هذا يعني أنه حين تتوقف هذه السيارة عن العمل كوسيلة نقل، فإن العلاقة معها تختلف وتنتهي في حال فشلت محاولات إصلاحها. علاقة أنا - هو، أو أنا - الشيء أيضا يمكن أن تنشأ بين البشر على أساس الاستعمال أيضا. العلاقة بين سائق التاكسي والمسافر هي علاقة تنشأ على هذا الأساس. المسافر أقام التواصل مع سائق التاكسي لغرض استعمالي وهو أن ينقله من منزله إلى المطار. السائق من جهته ينظر للمسافر على أنه زبون. هذه العلاقة هي علاقة أنا - هو حتى الآن، ولكنها تحمل في داخلها بذرة التحول إلى علاقة أنا - أنت. بمعنى أن المسافر وسائق التاكسي قد ينشأ بينهم حديث ينكشفون فيه على بعضهم لا كمسافر وسائق تاكسي بل كإنسان وإنسان. المسافر هنا يظهر لسائق التاكسي خارج علاقة الزبون إلى علاقة بشرية أوسع وأشمل. في المقابل، يبدأ سائق التاكسي للمسافر خارج علاقة التوصيل للمطار. يظهر كإنسان كامل له معنى وقيمة واعتبار متجاوزة كونه سائق تاكسي.

هنا تبدأ الفرصة لكل منهما بالتعرف على الطرف الآخر، وهنا فقط يمكن أن تنشأ علاقة الحوار. علاقة الحوار هي علاقة أنا - أنت بامتياز. في العلاقة الحوارية، يظهر كل طرف فيها ككل؛ أي كإنسان كامل لا يمكن رده إلى جانب واحد من جوانبه. كائن حر مختلف مستقل قادر على الظهور الكامل كما يرى الفرد أناه الكاملة. بحسب بوبر، فإن الأنا تختلف في العلاقتين. الأنا في العلاقة الأولى محدودة، لأنها لا ترى انعكاسها في الطرف الآخر. الطرف الآخر محجوب من خلال هذه العلاقة التي لا تدركه كإنسان كامل. علاقة التلقين في التعليم مثال على هذه العلاقة. الملقن لا يرى في الملقن إنسانا كاملا يستطيع الاستقلال بتفكيره. لا يراه سوى وسيلة يحقنها بالأفكار التي يؤمن بها. الآخر هنا ليس إلا مشروع تابع ومنفذ للأفكار المعدة سلفا. في المقابل، الأنا في العلاقة الحوارية لديها فرصة الظهور والتشكل والنمو داخل العلاقة المفتوحة بين الطرفين. الأنا هنا ترى ذاتها في الآخر الذي جرى إدراكه على أنه غاية في ذاته ومقابل نصل من خلاله لفهم ذواتنا أكثر. لذا، فإن الحوار هنا ينشأ في المسافة البينية، في المسافة الحرة التي تنشئها أطراف الحوار فيما بينها من دون هيمنة طرف على آخر. الحوار ها هو قرار والتزام وموقف من كل طرف للظهور الحقيقي مع الآخرين. مساحة الحوار البينية يهددها باستمرار تخلي أي من الأطراف عن آخريته من خلال الاندماج والتماهي مع الطرف الآخر. هنا، يتوقف الحوار لأننا أصبحنا مع ذات واحدة بنسختين. الحوار أيضا يهدده الظهور المزيف. أي إنه يظهر الفرد في الحوار ليعرض صورة غير حقيقية عن ذاته. هذا المظهر الزائف يعيق لقاء الذوات الحقيقية ويحجب إمكان الحوار أيضا. الحوار عند بوبر مغامرة غير معروفة النتائج، هي عملية إبداع يفاجئ الإنسان فيها نفسه. الحوار أيضا علاقة أمان شبيهة بعلاقة الطفل بأمه. الخوف يدمر الحوار لأنه يمنع ظهور الناس كما هم. لهذا، فإن عملية التأمين جزء من التزام كل طرف بالحوار مع الآخر.

الاستماع والصدق والصراحة والانفتاح كلها عوامل تأمين شديدة الأثر في أي علاقة، وتحديدا العلاقة الحوار. عند بوبر، حتى الحب بلا حوار يصبح علاقة شريرة. الحوار هو أعمق علاقة يحترم فيها الناس بعضهم. الحوار إعلان عن الحب والحرية في ذات الوقت.

*

حنة أرنت

 حب الإنسان لوطنه لا يجب أن يثنيه عن قول الحق أو عن أن يكون منصفًا أو محايدًا حتى مع أعداء وطنه. أمام امتحان إخلاصها لليهود تجد المفكرة الألمانية اليهودية حاجة ملحة للتذكير بنوع من الحب الزائف «إذا لم يكن شخص ما قادرًا على الحياد لأنه يتظاهر بأنه محب لشعبه إلى حد أنه يثني عليهم كل الوقت... لا أعتقد أن أناسًا مثل ذاك وطنيين». غير أن تفادي قول الحقيقة هو ما ينقذ الإنسان في كثير من المواقف، وقولها، في المقابل، مهلكة أدركها الفلاسفة والحكماء قديمًا وحديثًا، والحقيقة هي أن أكثر المبادئ عرضة للتهميش أو التفادي في سبيل البقاء لا سيما حين يتصل الأمر بالسياسة التي تناقشها أرنت في سياق العلاقة بينها وبين الحقيقة. تقول أرنت: «مع أننا قد نرفض حتى سؤال أنفسنا ما إذا كانت الحياة جديرة بأن نحياها في عالم يخلو من مفاهيم كالعدل والحرية، فإن ذلك السؤال، يا للغرابة، لا يمكن طرحه في ما يتعلق بفكرة تبدو أقل سياسية كالحقيقة».

مقالتها «الحقيقة والسياسة» المقتبسة هنا تميز أرنت بين حقيقة الرأي وحقيقة الوقائع، كما ألمحت قبل قليل، وترى أن الأضعف هو دائمًا حقيقة الوقائع، الحقيقة التي لا تعتمد على وجهة نظر أو تصورات شخصية مسيسة أو مؤدلجة. وترى أن هذا الضعف يبدو واضحًا في المواجهة بين الحقيقة والقوة، أي عند مواجهة السطوة السياسية بشكل خاص. التاريخ يكتبه الأقوياء، بتعبير آخر، وسيزيلون من السجلات كل ما هو منافٍ لمصلحتهم، لتصبح عملية استعادته بالغة الصعوبة إن لم تكن مستحيلة. وتضرب أرنت لذلك بمثال من التاريخ الحديث فتشير إلى تروتسكي ودوره في الثورة الروسية، تروتسكي «الذي لا يظهر في أي من كتب التاريخ الروسي السوفياتي». بيد أن أرنت وهي تنعي على التاريخ وسطوة السياسة تغييب أسماء مثل تروتسكي وغيره تنسى، أو تبدو كما لو أنها تنسى، أن خطابًا كخطابها المقاوم لتلك السطوة يمثل استعادة لمن سعى التاريخ والسياسة إلى تغييبهم.

ما تفعله أرنت هو إنشاء خطاب للحقيقة الغائبة أو بالأحرى المغيّبة سواء اتصلت بالهولوكوست ومعاداة السامية أو بالأنظمة الشمولية وسطوة السياسة. وهي إذ تفعل ذلك تدرك دون شك أنها لم تكن لتستطيع فعل ذلك دون حرية اكتسبتها في مهاجرها، الولايات المتحدة، البلد الذي اختارته وطنًا بديلاً واكتسبت جنسيته. قيمة عملها وأهميته تعتمد على تلك المقاومة المتاحة، لكن كما تبين في مرحلة تالية لكتاب ومفكرين آخرين من ذوي الأصل اليهودي مثل تشومسكي وتوني جت، كتاب أرقهم الكثير مما أرق أرنت، لا يعني الكشف عن الحقائق الغائبة إمكانية إحداث تغيير ملموس في الأوضاع السياسية والآيديولوجيات التي أدت وتؤدي إلى تغييبها. لكن يظل الكشف خطوة أولى وأساسية في الطريق نحو ذلك التغيير، وهو تغيير حدث دون شك، وإن بشكل محدود، فيما يتصل بأوضاع مختلفة اجتماعية وسياسية لا سيما أوضاع الجماعات والأفراد المهاجرين من ألمانيا بعد الحرب، واليهود في طليعتهم. وما تسعى إليه أرنت في الكثير مما كتبت هو توسيع دائرة ذلك التغيير الذي لم يكن أثناء حياتها قد بلغ ما بلغه اليوم، في الربع الأول من القرن الحادي والعشرين. ومع ذلك فإن المرء يظل يفاجأ بكثرة المقولات والآراء التي أطلقتها في الخمسينات والستينات على الحال اليوم، لا سيما في نقدها للحريات المتاحة في الغرب عامة والولايات المتحدة الأميركية بشكل خاص. في ألمانيا النازية وروسيا الستالينية، تقول أرنت، كان الحديث عن الحقائق أو الوقائع التاريخية مثل «مراكز الاحتجاز والإبادة» أخطر من الحديث عن الآيديولوجيات مثل الشيوعية ومعاداة السامية. لكن تلك الخطورة وإن غابت في الغرب المعاصر، فإن حالة غريبة «وأكثر إثارة للقلق» تسود اليوم في «البلاد الحرة»، أي أوروبا الغربية وأميركا، تتمثل في أنه «بالقدر الذي يُتسامح فيه بشأن الحقائق غير المرغوب بها، فإن تلك الحقائق، بوعي أو من دون وعي، تُحوّل إلى آراء». إنه التهميش الذي ينتج عما سيطلق عليه نعوم تشومسكي وإدوارد هيرمان في أواخر الثمانينات من القرن العشرين «صناعة الموافقة»، أي حالة القبول التي تأتلف في تصنيعها الإدارة السياسية والإعلام بشكل خاص. وعلى هذا الأساس تعبر أرنت عن تعجبها واستيائها من النظر إلى دعم ألمانيا لهتلر أو لانهيار فرنسا عام 1940 «كما لو لم تكن مسألة موثقة تاريخيًا وإنما مسألة رأي». ومسألة الرأي هذه، كما يراها الغربيون اليوم، لا تحمل ثقل التاريخ الموثق فحسب بالنسبة لامرأة هربت من المعتقلات النازية وشاركت في النشاط الصهيوني لإنقاذ أطفال اليهود ونقلهم إلى إسرائيل التي كانت تولد آنذاك. وهي من هنا تنشئ خطابها الذي يمتزج فيه التحليل والتنظير التاريخيين بالاحتجاج المعبر عن مقاومة الصمت والتواطؤ.

 مقاومة للصمت والتواطؤ حين يتصل الأمر بإثنيات وجماعات غير غربية وغير بيضاء كالأفارقة الأميركيين، أو بشعوب كشعب فلسطين، مثلاً. لقد عبرت المفكرة الألمانية عن موقف يضج بالعنصرية تجاه الاحتجاجات الطلابية في أميركا في فترة الستينات من القرن العشرين. ففي مقالة شهيرة لها بعنوان «حول العنف» نشرت فيما بعد في كتاب، انتقدت أرنت مطالب الطلبة الأميركيين السود في مظاهرات 1968 التي اجتاحت بعض الجامعات الأميركية. بل إنها لم تكتف بانتقاد المطالب وإنما ذهبت إلى أن الطلبة السود، أو الزنوج، كم سمتهم بالاسم العنصري الشائع آنذاك، لتغض من شأنهم «قبلت غالبيتهم في الكليات من دون أن تكون للواحد منهم مواصفات أكاديمية تسمح له بذلك...».

*

شلومو ساند

 كانت لليهودية كإثنية قبل الدين الدور المؤثر والمحفّز ليهود العالم وجذبهم من أجل الهجرة إلى الأرض الموعودة، والتي هي حقٌ لهم كما تُروج لها الأساطير والميثو تاريخ عند اليهود.

 موضوع تكوين الشعب اليهودي في أرض مغتصبة- خرافة النفي من أرض إسرائيل بعد دمار الهيكل الثاني في مملكة يهودا، حيث وكما يقول شلومو "فاليهود لم يتعرضوا لإجلاء (بالقوة) من (وطنهم) ولم يعودوا إليه بإرادتهم الحرة". وإن حدوث الهجرة كانت طوعية بعد خراب مملكة يهودا مع بقاء بعض الناس فيها ولم يغادروها. والموضوع الآخر هو تعبئة للذاكرة حول هذه الادعاءات بل والعمل على جعلها مسلمة حقيقية لا يمكن النقاش فيها، وتدور أبحاثه في انتشار الديانة اليهودية في الأمم التي استوطنها اليهود بعد النفي المزعوم، ويطرح أيضا: مسألة التهويد وهل يعتبر كل من يدين اليهودية يهودي عرقي، وما تثيره هذه المسألة من جدال طويل عند اليهود وخاصة في لملمة الشعب التائه في ربوع الأوطان.

من الفصول المهمة "الأقاليم الصامتة" وانتشار اليهودية في بلاد اليمن عند حمير والمغرب العربي عند الأمازيغ، وبلاد الخزر التي تشير بعض الآثار المكتشفة على يهودية عدد كبير من السكان فيها، والذين يعتبرون الأصل ليهود شرق أوروبا كما تُرجّح أكثر الاكتشافات التاريخية. ينتهي الكتاب بفصل التفخيم والإقصاء وسياسة الهوية في أرض إسرائيل الجديدة، وديمقراطية إسرائيل والنزاع بين سياسة دولة إسرائيل في معاملتها للمواطن اليهودي- إسرائيلي وفلسطيني- الإسرائيلي، وهل بالإمكان احتواء هذا النزاع الهويتي في أرض إسرائيل الجديدة وما هي السبل المناسبة في جعل إسرائيل ليبرالية تحفظ حقوق جميع المواطنين دون تفرقة دون أن تكون هناك تفرقة وميل إثني لليهود. فكما يقول شلومو ساند "فإنه ما زال من الملائم وصف إسرائيل كإثنوقراطيا، وإذا شئنا التدقيق سيكون تعريفها (كإثنوقراطيا يهودية) ذات ملامح ليبرالية، بمعنى دولة ليست مهمتها الرئيسة خدمة شعب مدني- متساو وإنما خدمة (شعب عرقي) إثنوس بيولوجي ديني وهمي تماما من ناحية الحقيقة التاريخية.

 مفهومية الأرض الموعودة والشعب المختار والأحقية التاريخية لهذين العنصرين في المعتقد اليهودي في دولة إسرائيل الجديدة، فكتب كتابه الثاني (اختراع أرض إسرائيل) الذي لا يقل أهمية عن سابقه، وطرح المخاضات التي مرّت بها الأرض الموعودة- أرض إسرائيل- من الناحية الدينية والتاريخية، فلم يعطِ مؤلفو كتب التناخ لقب الجيو- سياسي الذي تجذر بعد إقامة سلالة داود الصغرى للإقليم حول أرض إسرائيل (القدس)، ولذلك لم يظهر أي نص أو آثر يكشف لقب أرض إسرائيل كحيز جغرافي ومعروف، وبهذا ينسف الحجة الدينية حول الأحقية التي ليس عليها أي دليل.

شلومو ساند بروفيسور يدرّس في جامعة تل أبيب

، كتب ثلاثة كتب تسعى لتفكيك الأسطورة الصهيونية هي: «اختراع الشعب اليهودي» و«اختراع أرض إسرائيل» و«كيف لم أعد يهودياً». بالتالي فهو ضد الصهيونية وكل الجرائم التي ارتكبتها الدولة الصهيونية، ولا زال يؤيد "حل الدولتين". ويعتقد بعد ما حدث في الواقع أنه لا يجب رمي الطفل مع الثياب المتسخة التي لُفّ بها.

لا شك في أنه أثبت أن ليس هناك شعب يهودي، وأشار إلى تنوّع انتماءات اليهود القومية، سواء الأوروبيين أو العرب. وبالتالي فهو يفكك خطاب "الأمة اليهودية" و"الشعب اليهودي" معتبراً أن اليهودية دين وليست إثنية. لهذا ليس هناك أرض هي "أرض إسرائيل". ولقد قدّم في هذا المجال تحليلاً مهماً يفتت كلية منظور الحركة الصهيونية والأحزاب الصهيونية. ولا شك في أن كل ذلك يجب أن يدفعه إلى أن يرفض الدولة الصهيونية كأساسها الأسطوري وتكوينها الاستعماري، لكنه بدل أن يفعل ذلك يذهب إلى مستوى آخر، حيث يقرّ بوجود "إسرائيل"، ويعتبر أنها باتت أمراً واقعاً، وهذا يتناقض مع كل التحليل الذي قدّمه الذي يبيّن خرافة وجود شعب يهودي وأرض يهودية. المبرر الذي يقدمه فلسفي قليلاً، حيث يشير إلى أنه لا يجوز رمي الطفل مع ثيابه المتسخة، بالضبط لأن الثياب متسخة. طبعاً الثياب المتسخة هي مجمل الظروف والأفكار التي دفعت لنشوء الدولة الصهيونية، لكن كيف يمكن أن نحدد من هو الطفل؟

شلومو يعتبر أن "إسرائيل" كتكوين بشري وسياسي هي هذا الطفل، وهذا يطرح السؤال: إذن أين الثياب المتسخة؟

فالأفكار التي طرحتها الرأسمالية ونشأت الحركة الصهيونية على أساسها، والظروف التي كانت تدفع اليهود الأوروبيين أولاً إلى الهجرة رغماً عنهم، تجسدت في تشكيل دولة على أنقاض شعب آخر، وعلى أنقاض أحلامه بالاستقلال. هل نقبل بالأمر الواقع؟ الخضوع للأمر الواقع يعني قبول كل السردية الرأسمالية الصهيونية، باعتبار أن ما نشأ بات أمراً واقعاً. ومن هذا المنظور يصبح قبول حل الدولتين هو التغطية على قبول جريمة حدثت وتمثلت في نشوء دولة على أنقاض شعب. قد يكون هذا مراوغة اللا وعي، أو تبريد الإحساس بالجريمة، لأن المنظور لم يجد حلاً لإشكالية نظرية تتمثل في العلاقة بين الطفل والثياب المتسخة.

الأمر يتعلق بالدولة التي أنشأتها الرأسمالية لحماية مصالحها في الشرق، والتي قامت على أسس أيديولوجية متعصبة، ومن ثم الفئات اليهودية التي قبلت بأن تكون أداة إمبريالية، أو باليهود الذين فُرض عليهم التهجير نتيجة الوضع الوحشي الذي وُضعوا به في أوروبا خلال عقود طويلة قبل الهولكوست، ومن ثم في الهولكوست ذاته؟ هنا يجب أن نبحث عن الطفل وعن الثياب المتسخة، لكي نعرف من نلقي به. وإلا سنقبل بالطفل وبثيابه المتسخة معاً، وهذا يعني "موت الطفل" بالحتم. إن بقاء الطفل يفرض رمي ثيابه المتسخة حتماً، وهذا يعني بكل بساطة إنهاء الدولة الصهيونية لكي يتحرر الطفل من كابوسها. كابوسها الذي يتمثل في استخدام اليهود كأداة للسيطرة الإمبريالية، وكدولة قهر وسحق لشعب آخر، واستغلال لجزء كبير من اليهود كذلك.

هناك أمر واقع بات قائماً، هو وجود ملايين اليهود في فلسطين، ولهم دولة تدعي أنها تمثلهم وهي "دولة اليهود"، أو "الدولة اليهودية". لكن بين هذين الطرفين (اليهود والدولة) وبين السكان الأصليين في فلسطين (وقد أشار شلومو إلى أن اليهود القدامى هم الفلاحون الفلسطينيون الحاليون)، ومع المنطقة العربية عموماً (حيث الدولة الصهيونية عنصر صراع ضد المنطقة كونها حاجزاً لمنع وحدتها وتطورها، وأداة لمواجهة كل ميل تحرري فيها) صراع، وهذا صراع تاريخي ممتد، وليس من حل له، لأن الدولة الصهيونية بدون دورها "العربي" (أي ضد المنطقة) لا قيمة فعلية لها في سياسات الدول الإمبريالية، وهي وحدها غير قابلة للاستمرار، بالتالي هي معنية بتوسيع سيطرتها وهيمنتها. لهذا لا تقبل "السلام" سوى ذاك الذي يسمح لها بأن تكون القوة المسيطرة. في المقابل ليس من خيار لدى العرب سوى الصراع لأن تطورهم ووحدتهم يصطدمان بوجود الدولة الصهيونية، وبالتالي لا بدّ من إزالتها. بهذا لا حل بوجود الدولة الصهيونية، ولا نهاية للصراع ولا ”سلام".

بقاء الطفل بثيابه المتسخة يعني موت الطفل كنت أقصد ذلك، حيث إذا كانت الظروف الآن تسمح باستمرار وجود الدولة الصهيونية نتيجة الدعم الإمبريالي، والسيطرة الإمبريالية على المنطقة العربية، فإن الواقع يؤشّر إلى إمكانية كبيرة لانقلاب الوضع، حيث ليس قدراً أن يبقى العرب في هذا الوضع المزري، ولقد أوضحت الثورات العربية أن الشعوب تنهض، وأنها ستحمل مشروعاً جديداً. كذلك فإن الرأسمالية ذاتها تعاني من مرض مزمن، وربما أسوأ من ذلك، وهي تشهد أزمة لا حلّ لها، كل ذلك ينعكس على الدولة الصهيونية حتماً.

 يجب أن نفصل الطفل عن ثيابه المتسخة. هنا تعود إلى ما هو الأمر الواقع؟ أظن أن الأمر الواقع هو وجود أعداد كبيرة من اليهود الذين هاجروا أو هُجّروا إلى فلسطين، والذين أقيمت باسمهم دولة لكي تكون أداة سيطرة تستخدمها الرأسمالية، وتحوّل هؤلاء إلى "مرتزقة" في جيشها الاستعماري. ولا شك في أن هناك فئات مستفيدة من هذه الوضعية، وقابلة لأن تكون "حليفاً" للرأسمالية، ومنفذاً لسياساتها الإمبريالية. لكن لا يمكن إلا أن نرى أن في فلسطين بات هناك نسبة كبيرة ممن يدينون باليهودية، ممن أتى من بلدان عربية وأوروبية وأفريقية وغيرها، وممن ولد في فلسطين. وإذا كان قهر الأنظمة الأوروبية والضغوط التي مارستها على اليهود، والتخويف الذي وضعتهم فيه، هو الذي فرض هجرتهم إلى فلسطين. أو دور النظم العربية في ترحيل العرب الذين يدينون بالديانة اليهودية إلى الدولة الصهيونية بعد قيامها، فإن هذا الوجود بات أمراً واقعاً. رغم أن أي حل سوف يدفع إلى هجرة معاكسة بالضرورة (وهي تحدث الآن، وإنْ بشكل بسيط بعد أن ملّ الشباب استمرار الصراع وغياب الاستقرار، والأزمة الاقتصادية) لكن بات هناك أمر واقع هو وجود "سكان جدد" في فلسطين.

ما الحلّ بالتالي؟ رمي الثياب المتسخة والحفاظ على الطفل، حيث أن وجود الدولة الصهيونية التي تعبّر ليس عن مصالح اليهود بل عن مصالح الرأسمال، والتي قامت على جثة شعب آخر، وشرّدته، هو هذه الثياب المتسخة التي تحتاج إلى رمي. هذا يعني أن الأمر يتعلق بإنهاء الدولة الصهيونية بالتحديد، مع الاعتراف بوجود السكان الجدد كجزء من أي تشكيل جديد يستعيد فلسطين. بمعنى أنه على الطفل أن يسهم في رمي الثياب المتسخة، وأن يقبل الفلسطينيين بالأمر الواقع المتمثل بوجود "سكان جدد" في فلسطين، في ظل دولة علمانية ديمقراطية عربية.

 وجود "إسرائيل" هو المشكلة التي تحتاج إلى حل، فهي الثياب المتسخة التي يجب أن تلقى بعيداً كي ينجو الطفل.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق