عالم الاجتماع هانس يواس يرى أن الوقت حان كي يوضع حد للمواجهة بين علم أديان يرى نفسه تجاوزا للعقيدة وبين عقيدة تشعر بأن العلم يهددها.
يطرح كتاب “سلطات المقدّس. طرح بديل لسردية زوال السحر”، لعالم الاجتماع الألماني هانس يواس، مكانة المقدّس في الحياة الاجتماعية المعاصرة، وفي رأيه أن الرؤية الخطّيّة لعلمانية تؤمن بانحدار متدرج وعالمي للديانة، والفهم الصّوفيّ لعودة الدينيّ ليسا مناسبين لمقاربة هذه الظاهرة المعقدة، ومن ثَمّ يستحضر ويناقش النماذج الكبرى التي صاغتها الفلسفة وعلم الاجتماع منذ القرن الثامن عشر.
كيف يمكن التفكير في حاضر الديانات ومستقبلها عبر العالم؟ هل ينبغي الرجوع إلى سردية “زوال السحر عن العالم” التي اقترحها ماكس فيبر، أحد الآباء المؤسسين لعلم الاجتماع، والتي تعتقد أن الديانات مآلها التراجع بشكل لا رجعة فيه، كلما ازداد العالم حداثة؟
فلا يوجد مسار شامل يحوي إبطال صفة القداسة عن كل المقدسات وكل المثل العليا، كما لا يوجد خنق لإمكانية ظهور مثل عليا جديدة.
في مصطلح “زوال السحر عن العالم” اقترح ماكس فيبر تلخيص تطور عام للبشرية عبر تاريخها الطويل، وبين أن التاريخ الديني للبشر موسوم بإزالة تدريجية للسحر الذي ظهر مع الديانات الأولى، في اليهودية القديمة
الدينامية التحديثية المميزة للمجتمعات الغربية، التي تتقدم فيها العلمانية، أي زوال السحر، والعقلانية يدا بيد.
أما العالم الذي فقد سحره، فهو عالم الحداثيين الذين أداروا ظهورهم للمعتقدات والممارسات التي لها علاقة سحرية بالطبيعة وبالآخرين. وغنيّ عن القول إن عالم السحر في المجتمعات الأخرى ليس عالم خرافات وأساطير، وحياة متخيلة وسط مخلوقات عجيبة، بل إن تلك الشعوب تملك أونطولوجيا أخرى، مسكونة بهويات تخالف الهويات الطبيعية للغربيين. تلك المجتمعات تربطها مؤسسة دينية، فالدين عندها له وظيفة شاملة، فهو يسمُ كل الأنشطة والأحداث والحركات، حتى اليومية منها، أي أنه يشكل المجتمع نفسه، وهذا هو الحبل الذي قطعته الأزمنة الحديثة
الدين لا مستقبل له في المجتمع الحديث، الذي يخصص أهم طاقاته في أنشطة علمانية عقلانية.
زوال السحر عن العالم، مستشهدا بالديانة الطبيعية عند ديفيد هيوم، وتأويلية التجربة الدينية الفردية لدى وليم جيمس، وتمفصل سيميوطيقا بيرس لتلك التأويلية، وعلم الاجتماع التاريخي للمسيحية لدى أرنست تروتلتش، وختاما نظرية العصر المحوري لكارل ياسبرس، ليفكك الفكرة التي تؤكد أن المؤمنين عاجزون من حيث المبدأ على تحليل الديانة تحليلا علميا دون حكم مسبق.
التاريخ الديني للبشر موسوم بإزالة تدريجية للسحر الذي ظهر مع الديانات الأولى، في اليهودية القديمة مثلا
ويواس يعترف بحقيقة الظواهر الدينية وثباتها، فهي ليست ظواهر ثانوية ناتجة عن التنظيم الاجتماعي كما يعتقد ماركس، ولا هي تصورات مضللة كما قال فرويد، ورغم ذلك لا يدافع يواس عن أطروحة كونية الديانة، لكونه غير مقبول بعد الانتقادات الموجهة للدين، والتيارات المناهضة التي عرفتها أوروبا منذ القرن الثامن عشر، وبعد مسارات العلمنة التي أدت إلى التخلي، طوعا أو كرها، عن التقاليد الدينية، دون أن تظهر ديانات جديدة.
وفي رأيه أن الوقت حان كي نضع حدّا للمواجهة بين علم أديان يرى نفسه تجاوزا للعقيدة، وبين عقيدة تشعر بأن العلم يهددها، ولا بدّ من وضع خطة جديدة لجدل يجمع المؤمنين وغير المؤمنين، يمرّ عبر العودة إلى حوار جديد بين الفقه وعلوم الأديان (تاريخ الأديان، سيكولوجيا الأديان، سوسيولوجيا الأديان)، ذلك الحوار الذي كان مثمرا قبل أن تبطله الأفكار المسبقة عن العلمانية.
والخلاصة أن الديانة والسياسي في حال توتر دائم، وهما يهددان دائما ببناء خصوصية أخلاقية، مثل بعض ظواهر التقديس الذاتي الجماعية، لمجموعات إثنية أو دينية، ولكن العالم في نظر يواس هو عالم إنساني، يمكن أن يكون فيه للسحر مكان، يُعترف به كإمكانية دائمة، دون أن تكون ثقافتها عتيقة عفا عليها الزمن كما يزعم الحداثيون.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق