الأحد، 19 ديسمبر 2021

المنهج العلمي بين بيكون و ديكارت

Mar 9, 2019

 بيكون ( 1561 – 1626 ) بمثابة المبشر الرئيسي للعقيدة العلمانيّة في العلم، إذ أنّه أول من أحل كلمة الطبيعة بمعناها الواسع، مكان الميتافيزيقا، فكان بحق، فيلسوف المنهج التجريبي، 
فلم يعد التاريخ المقدس للخلاص جوهر التاريخ، بل صارت قدرة الإنسان على استغلال الطبيعة والسيطرة عليها هي جوهر التاريخ، فالتاريخ يتحرك قُدماً، ولكن بتوجيه الإنسان (العالم – التقني)، فمهد بذلك لما يسمى عصر التنوير

لقد نفر بيكون أشد النفور مما يدعوه “الجمود العقلي”، الّذي يتوقف على ما كتبه القدماء، حتى أنه ليخشى اليقين فيقول: ” إذا بدأنا في تأملاتنا باليقين، انتهينا إلى الشك. أما إذا بدأنا بالشك و تحملناه في صبر لحين من الزمن، فسوف ننتهي إلى اليقين”. وذلك يوحي لنا في الظاهر أنه شك يتقاطع مع الشك الديكارتي، لكنه في حقيقته معاكس له، فديكارت يبدأ فعلياً باليقين الّذي يترتب على الشك بالذات وفق الكوجيتو “أنا أفكر فأنا موجود”، و من هذا اليقين تتولد ضروب أخرى من اليقين. أما عند بيكون فإن اليقين ليس البداية، وإنما النهاية التي تقبل باب كل بحث

الملاحظة الخالصة النقية، هي الوحيدة الصالحة في البحث العلمي، أما التأملات والنظريات، فهي غير صالحة ومصدر لكل خطأ، حيث تجعلنا نسيء قراءة كتاب الطبيعة ونسيء تأويل ملاحظاتنا.

انتهى للقول أن التقدم العلمي رهن بالتجربة، فيقول: (لاحظ ثم لاحظ حتى ترى أخيراً تتابعاً يمكن قياسه). وفي كتابه الرئيسي (الأرغانون الجديد) المنشور سنة 1620 – الّذي عارض فيه كتاب  (الأرغانون) لأرسطو – يؤكد بيكون، على أحقية المادة الملحوظة وأهمية الفكر التجريبي في العلم، واضعاً فلاسفة الحس، كديمقريطس وأبيقور، في الصف الأول من الفلاسفة الأقدمين.

المادة هي الواقع، وهي تمثل الطبيعة كلها، وهي أم كل ما هو حي”. بذلك المنهج الحسي التجريبي الصارم، هاجم بيكون كل التجريبيين والعقلانيين الّذين سبقوه، فيقول بأن التجريبيين لا يفعلون أكثر من تجميع الوقائع وهم بذلك يشبهون النمل، أما العقلانيون فيتحدثون عن نظريات لا صلة لها بالواقع، وقراءاتهم تشبه خيوط العنكبوت. في حين أن عمل الفلسفة الحقيقية هو كعمل النحلة التي تستخرج المادة من أزهار الحديقة أو الحقل، لكنها تعمل فيها وتشكلها بجهودها الخاصة، والفلسفة تماثل عمل النحلة لأنها لا تعتمد اعتماداً كلياً على قوى العقل، ومن جهة أخرى لا تدخر في الذاكرة المادة التي تنتجها تجارب التاريخ الطبيعي والميكانيكا في حالتها الفجة، وإنما هي تغيرها وتعمل فيها الذهن

 أن العقل إذا ما تُرك على سجيته – يتأمل نظرياً – سيقتصر على إقامة تصنيفات وتمييزات كما هو الأمر في المذاهب العقلية التي تفوتها دقة المادة، وتنصرف إلى الجدل العقلي الّذي لا طائل تحته.[vi] إن حدة الذهن لا يمكن أن تعادل دقة الطبيعة، فينبغي إذاً أن تتجه إلى الطبيعة ذاتها من أجل معرفتها و ليس لدينا سبيل إلى ذلك إلا من خلال التجربة،

على الإنسان أن يتخلى إلى حين عن تصوراته، وأن يبدأ في إقامة ألفة بينه وبين الأشياء “.[vii] إن العقل إذا تُرك يجري على سليقته، انقاد للأوهام لأنها طبيعية فيه. وهدف بيكون هو سيادة الإنسان على الطبيعة باستكشاف صور الكيفيات، و سبيل إلى هذا الاستكشاف سوى التوجه إلى الطبيعة ذاتها. إن الذهن البشري ميال بطبيعته إلى التجريد، ويفترض الثبات فيما هو متقلب، لذلك من الأفضل وفق بيكون أن نقوم بتشريح الطبيعة بدلاً من تجريدها. [viii]

 في رأيه أن الفلسفة القديمة فشلت لكونها اهتمت بالمعرفة لذاتها، ولأن الشغل الشاغل للفلاسفة كان إفحام خصومهم والعمل على التفوق عليهم بالجدل، الأمر الّذي جعل الفلسفة  تتحول إلى جدل عقيم مؤلف من ألفاظ فارغة في موضوعات شائكة لا معنى لها، في حين أن الهدف الحقيقي من المعرفة، كما يراه هو، هدف نفعي، يتمثل في السيطرة على الطبيعة ، وإخضاعها لأغراضنا العملية، فالفلسفة لا تعني محبة الحكمة  وحسب، بل هي منهجية معرفية نفعية، مهمتها الأساسية تتمثل في السيطرة على الطبيعة، وإخضاعها لأغراضنا العملية لفائدة الإنسان، لذلك يجب علينا أن نتعلم كيف نفهم الطبيعة بالبحث عن خصائصها.[ix] فاقتصر بخصوص علل أرسطو الأربعة ” الصورية – الغائية – الفاعلية – المادية ” على العلتين ” الفاعلية والمادية ” اللتين تتيحان لنا المعرفة النافعة في مجال الطبيعة، في حين يُرجع العلل الغائية والصورية إلى الميتافيزيقا. فيكون قد مهد بذلك للتيار الوضعي المنطقي. جاعلاً الغاية من الفلسفة هي المعرفة، والغاية من المعرفة هي السيادة على الطبيعة. ذلك هو الجديد عند بيكون في مستهل العصور الحديثة، ولا يمكن أن يتم ذلك إلا بالاستقراء، الّذي اعتبره الأساس الوحيد للحقائق العلمية.

وهو يميل، على الصعيد العملي، إلى أخذ الوقائع من أي مصدر كان، وتكديسها للحؤول دون تثبت الذهن وتجمده، ومن هنا كانت المطاردة المحمومة للملاحظات والمشاهدات. وهذا ما لامه عليه بشدة علماء محترفون.

“أصنام العقل الأربعة” هي نظرية فلسفية تشير إلى أن عقل الإنسان كالمرآة غير المصقولة التي تعكس أشعة الشمس بشكل مشوّه، بسبب انحيازه الفكري، فلا يرى الأمور كما هي، بل كما يظنها. وأصنام العقل الأربعة هي كالتالي: 1- صنم القبيلة 2- صنم الكهف 3- صنم السوق 4- صنم المسرح.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق