Apr 1, 2021
الذي نعرفه اليوم تشكل بعد مرحلة طويلة من الإنهاك الديني خلال حرب الثلاثين عاماً الشهيرة بين الكاثوليك والبروتستانت.
خلص الفرقاء إلى أنه لا أحد منتصراً في الحروب الدينية، ولا يمكن لأي ازدهار اقتصادي أن يستمر، والمتطرفون الدينيون يتبادلون الغزوات. من هنا وقعت معاهدة وستفاليا في عام 1648 التي شكلت البذرة أو التصميم البدائي لأوروبا الحديثة، الذي كبر لاحقاً، ليكون الهيكل الأساسي للنظام الدولي. أهم مبادئ هذه المعاهدة هي ما يمارس اليوم. لا تعدي على سيادة الدول ولا يفرض عليها دين بالإكراه حقناً للدماء من الطوائف المتناحرة، ونبعت حينها فكرة الولاء القومي للأفراد داخل حدود جغرافية معينة، وشهدنا أول بذور العلمانية بفصل الدولة عن الكنيسة، ويحق للدول أن تختار نظامها السياسي والاقتصادي، من دون تدخل ومضايقة من قوى خارجية. أي شيءٍ يحقن الدماء ويحمي حدود الدول ويلجم المتطرفين مرحب به.
كان هناك أعداء لهذا النظام منذ البداية، وكان أبرزهم روسيا في ذلك الوقت؛ بحجة أن المعاهدة تخدم المصالح الغربية، وتُشكل المستقبل على صورتها. ولكن القوى الغربية استطاعت أن تحافظ على هذه الحزمة من التعاليم السياسية وتوسعها وتنشرها، فقدت لعبت بريطانيا العظمى القوة الأساسية التي أسهمت في حمايتها، وبعد تراجع قوتها لعبت الولايات المتحدة دور البديل منذ الحرب العالمية الثانية حتى اليوم. لقد أصبح يطلق عليها النظام الأميركي، وليس الليبرالي فقط.
لكن هذا النظام يمر، ربما لأول مرة، بتهديد حقيقي مع صعود الصين وتوقيعها الاتفاق الأخير مع إيران. وعندما سُئل الرئيس الأميركي بايدن مؤخراً عن رأيه في هذه الخطوة، قال إنه كان قلقاً منها لسنوات. إن مصدر قلقه هو في تحدي الصينيين العلني مؤخراً للنظام الأميركي المترسخ في المنطقة؛ حيث انتقده وزير الخارجية الصيني بالقول إن النظام الدولي قائم على القواعد الأميركية.
بوادر للصدام الذي حذر منه وزير الخارجية الأميركي الشهير هنري كيسنجر الذي قال إن أكبر تحدٍ لأي رئيس أميركي هو عدم الدخول في حرب عسكرية مع بكين، ولكن في ذات الوقت تحجيم نفوذها وإدخالها في النظام الدولي الذي صممه الأوروبيون والأميركيون قبل مئات السنوات. الصينيون من جهة أخرى يسعون لأن يصمموا النظام الدولي الخاص بهم.
لو عدنا للتاريخ فإن قصة إدارة الرئيس نيكسون مع الصين هي قصة مثالية عن كيف تدار الصراعات الدولية على مستويات عالية. لقد قررت واشنطن حينها أن تتقارب مع الصين والاتحاد السوفياتي بحيث لا يتحالفان ضدها. لقد فهمت أن تحالف قوتين مؤثرتين سيضر حتماً بمصالحها ويحجّم نفوذها، لهذا فالتقارب مع الصين في البداية أشعر الاتحاد السوفياتي بالعزلة، لذا سعى لخلق علاقة متوازنة مع الأميركيين وهذا ما حدث، إذ دخل العالم من حينها، من السبعينات من القرن الماضي، في حالة من التوازن ومرحلة طويلة من الاستقرار، خلت من الحروب والصدامات، ما شجع على ازدهار اقتصادي غير مسبوق، ودخلنا في عصر العولمة وما بعدها.
الآن ربما نشهد مرحلة جديدة على المسرح الدولي وطريقة تعاطٍ جديدة مع إدارة بايدن لهذه الملفات، حتى لرؤية أميركا نفسها وعلاقتها مع حلفائها التقليديين وعلاقتها السيئة مع الروس (ساءت أكثر بعد وصف بايدن لبوتين بالقاتل)، وكذلك الصينيون، حيث دخل وزيرا خارجية أميركا والصين في فصل متبادل من التوبيخ أمام الكاميرات.
كيف ستتصرف إدارة بايدن مع كل هذه الإشكاليات المقلقة التي تسرق النوم من الرئيس؟
يجوز القول إن هناك أكثر من خط داخل الإدارة في رؤيتها الدولية والاستراتيجية؛ الأول هو ما يمثله الرئيس بايدن، وهو مؤمن لدرجة الوعظ بالتحالف مع أوروبا والمحافظة على نظام ليبرالي حر تزدهر فيه القوة الأميركية بلا منازع، ولكنه يعيش تحت ضغوطات حزبية يسارية وشعبية كبيرة معارضة للسياسة الخارجية القديمة، وتريد من بايدن أن ينتقم من روسيا بسبب التدخل في الانتخابات (وهذا خلف سبب وصف القاتل... لإرضاء الجماهير الحزبية المحتقنة، ولكن سياسياً لا تحقق أي منافع). لو انتصر بايدن الدولي فسوف نشهد مواجهة قادمة مع الصين. وهناك خط آخر أيضاً شائع وقوي داخل الحزب الديمقراطي والإدارة نفسها، يقول إننا نعيش ما بعد النظام الأميركي، وستنهض قوى، أبرزها الصين، للمشاركة في تحمل أعباء العالم، أي أن الشرطي الأميركي لا يكفي وحده، ومن الأفضل أن يساعد الشرطي الصيني في ضبط شؤون العالم. ولكن القوى العظمى عندنا تصعد، فتفرض شروطها، حتى قيمها على العالم، ولا تكتفي فقط بحصة قليلة من النفوذ السياسي والمكاسب الاقتصادية. وهذا ما عبر عنه مراراً المسؤولون الصينيون في الفترة الماضية، وهو يعني بشكل ما تمزيق ورق المعاهدة القديمة التي وقّعها الأوروبيون قبل نصف قرن، من دون أن يكون للروس والصينيين أي رأي فيها.
هل هو انتقام تأخر موعده لأكثر من 500 عام؟ لا أحد يعرف الجواب حتى هذه اللحظة.
- المدير العام لقناتي «العربية» و«الحدث»
*Oct 28, 2021
لا يشكّل التنافس الحادّ بين الولايات المتحدة وجمهورية الصين الشعبية إلا عرضاً لصراع أساسي يتعلق بالبصمة السياسية على النظام الدولي، إذ تسعى الأخيرة إلى تسويق بديل للنموذج الليبرالي الغربي الذي صاغته الولايات المتحدة بُعيد انتصارها في الحرب العالمية الثانية، وحلولها، قوّة مسيطرة، محل الإمبراطوريات الأوروبية المترهلة، وحرصها على استمرار هذا النظام، لأنه قاعدة هيمنتها وسيطرتها على المجالين الإقليمي والدولي، فالتدافع في مجالات الصناعة والذكاء الصناعي والأسلحة المتطوّرة يخفي خلفه صراعاً على قواعد النظام الدولي وآليات اشتغاله بين نموذجين سياسيين، أول ديمقراطي تقوده الولايات المتحدة وثانٍ سلطوي تقوده الصين.
قبل أن تعصف بالعلاقات بين الدولتين عواصف المخاوف وتآكل الثقة التي أطلقتها تظاهرات ميدان تيان آن مين عام 1989 وشعاراتها الغربية، وما أثارته من مخاوف من التباين العقائدي بين الشريكين، وقد عمّق انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991 المخاوف الصينية، على خلفية تراجع احتياج الولايات المتحدة إلى الصين لتطويقه؛ وزاد الطين بلةً انتشار القوات الأميركية في العراق وأفغانستان، وما مثلته من تهديد جيوسياسي لها. وقد تزامن هذا مع وصول الزعيم الحالي، شي جين بينغ، إلى سدة الرئاسة، فأعاد الصين إلى التمسّك بالمعايير العقائدية وتحدّي الغرب في تصوراته السياسية والاجتماعية والأخلاقية.
خسارة الولايات المتحدة معركة الدفاع عن تايوان الذي أعلنه الرئيس الأميركي، منذ أيام، ونجاح الصين في التمدّد في دول الشرق الأوسط، سيقودان إلى هبوطها إلى قوة عالمية من الدرجة الثانية، وإلى انهيار النظام الدولي الراهن، في حين ستصبح الصين القوة العظمى الأولى. وهذا سيمنحها مساحةً أكبر للمناورة والهيمنة، ما يحتّم عليها مواجهة القوة العسكرية والنفوذ الاقتصادي والعقيدة السياسية للصين، كي تتحاشى الهزيمة وضرب النظام الدولي الغربي، فالصين مصمّمة على كسر النظام الرأسمالي الليبرالي الذي بناه الغرب، وقائدته، الولايات المتحدة، التي تبذل جهوداً كبيرةً للدفاع عن قيمٍ تناصبها الصين العداء، مثل الليبرالية والأسواق الحرّة والشفافية والديمقراطية وحرّية التعبير، وكل تقدّم يحرزه أحد الخصمين في أي من مجالات التنافس سيسجل في صفحة نجاحات نموذجه، ويجعله أقرب إلى تحقيق هدفه الاستراتيجي: المحافظة على النظام الدولي القائم بالنسبة للولايات المتحدة وضربه لصالح بديل سلطوي بالنسبة للصين، والثمن ستدفعه الشعوب التي ستدور المواجهة على أراضيها وأجوائها، وبتمويل من مالية دولها.
*
«الغابة تنمو مجدداً» يحذّر الكاتب روبرت كيغان، من أن القوى التي تهدف إلى زعزعة استقرار النظام الدولي استعادت قوتها من جديد.
على عكس ما يعتقد بعض المراقبين، فإن النظام الدولي الحالي شيء مصطنَع وليس حالة طبيعية. الحالة الطبيعية هي أن تكون هناك قوى متصارعة على الدوام، كل قوة تحاول أن تفرض هيمنتها وفرض نموذجها، ومع تصاعد قوتها الاقتصادية ونزعتها القومية، تتزايد طموحاتها العسكرية للتمدد والتوسع، وعندها تندلع الحروب والصراعات. لنتذكر أن توازن القوى الأوروبية استمر لفترة معينة بسبب تزاحم أوروبا بالقوى المتجاورة الطموحة. ما بين عام 1850 إلى عام 1945 دخلت فرنسا وألمانيا في ثلاث حروب 1870 و1914 و1939. روسيا وألمانيا اشتبكتا بحربين طاحنتين. فرنسا وبريطانيا دخلتا في حرب مع ألمانيا.
ما صنعته الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية، حيث هزمت القوى المنافسة من النازية والفاشية وانهيار الاتحاد السوفياتي، ومن حينها يعيش العالم إلى حد ما في عالم مسالم خالٍ من الحروب المدمرة، وبسبب ذلك ازدهر الاقتصاد وتطورت التقنية، واتصل العالم بعضه ببعض بشكل غير مسبوق في تاريخ البشرية.
لكن كل هذا مصطنع وليس طبيعياً أو حقيقياً كما نتوهم. بعد سنوات بالعيش في هذا الوضع نعتقد أنه مضمون ولكنه على العكس من ذلك؛ فالغابات، القوى المنافسة الطامحة، كما يشير الكاتب، تعود للنمو من جديد وتسعى لبسط نفوذها.
يتهمهم بالتراخي والضعف وعدم المحافظة على استقرار النظام الدولي الليبرالي الذي سينهار مع صعود قوى مثل الصين وروسيا وغيرها من القوى التي تطمح لإيجاد نموذج يناسب مصالحها ويفرض نموذجها حول العالم أو في مساحات واسعة منه.
الخروج من أفغانستان، والنزاع في إثيوبيا، والتراخي في دعم أوكرانيا، واتفاق غير مُقنع مع إيران... كلها انتقادات توجَّه إلى الإدارة الحالية تؤكد طبيعتها الانسحابية من دورها التاريخي، ولكن من جهة أخرى تركز إدارة بايدن على الصين وحدها لأنها تعدها التهديد الاستراتيجي الأكبر لها. وصفقة الغواصات مع بريطانيا وأستراليا أكبر إشارة على هذا، ولكن رغم كل التحليلات والتوقعات لا أحد يعرف عملياً كيف سينتهي شكل هذه الصراعات التي نعيشها.
انهيار القوة الأميركية سيعني بلا شك ولادة عالم جديد لا نعرف ملامحه حتى الآن. ولكن من الخطأ أيضاً المبالغة في وجود أحداث كبيرة قد تغير المعادلة الدولية، فحتى بعد نهاية آخر الحروب العالمية مر العالم بخضّات أكبر من التي نعيشها حالياً لم يمكن بمقدور الولايات المتحدة القيام بشيء حيالها. الثورة الشيوعية في الصين عام 1949 كانت كارثة على المصالح الأميركية التي لم تفعل معها شيئاً. بعدها الحرب الكورية، تدخلت فيها أميركا وخرجت منها كما دخلت إليها، بالإضافة إلى خسائرها في الأرواح (35 ألف قتيل و100 ألف جريح). وبالتأكيد الحرب في فيتنام والقوة المتصاعدة للاتحاد السوفياتي أيضاً لم يكن بمقدور الولايات المتحدة تحجيمها.
فكرة عودة الغابات أو الأحراش للنمو مجدداً فكرة مثيرة للاهتمام يمكن تطبيقها على منطقة الخليج بكل تأكيد. السلام والازدهار الاقتصادي الذي تعيشه ليس طبيعياً ولكنه مصنوع بفعل القوى التي تحارب التنظيمات الإرهابية والميليشيات الطائفية والتدخل من قوى خارجية في شؤون المنطقة. ليس من الصعب تخيل البديل، فالعراق ولبنان واليمن وشعوبها، تعاني بسبب عدم قدرة الدولة على قص الأحراش المتطاولة بداخلها.
*
ثاني أعظم حدث في التاريخ البشري، بعد ثورة 1917 البلشفية. حيث تمكن ملايين البشر، الذين كانوا حتى ذلك الحين مجرد عبيد للإمبريالية، من إسقاط نير الاستغلال الإمبريالي والرأسمالي المذل، ودخلوا مسرح التاريخ العالمي.
أيهما الأصل: الحرب أم السلام؟
يقول ديورانت: «الحرب أحد ثوابت التاريخ، لم تتناقص مع الحضارة والديمقراطية. فمن بين السنوات الواحدة والعشرين بعد الثلاثة آلاف والأربعمائة سنة الأخيرة من التاريخ المسجل، لا توجد سوى 268 سنة بغير حرب».
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق