الثلاثاء، 28 ديسمبر 2021

تونس: تصحيح أم ثورة مضادة؟ حيرة بين الناشطيين

بعد مشوار طويل من المناكفات والصراعات مع لوبيات المال والسياسة الفاسدة، اتخذ الرجل قراراته «الانقلابية»

 حاصراً جميع السلطات في يده

 ادعاء بدعم الثورة لا يكون من خلال تقويض الحياة الديمقراطية، ولكن عبر مزيد من الإجراءات الديمقراطية التي تضمن عدم تغول أي من السلطات على الأخرى، وألا يتم التعدي على إرادة المواطنين مهما كانت الأسباب. صحيح أن الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية في تونس وصلت إلى مستويات غير مسبوقة من التدهور خاصة مع تداعيات كوفيد-19 وارتفاع عدد الضحايا من المصابين والوفيات، ولكن هذا لا يكون بتقويض مؤسسات الدولة بل دعمها وتقويتها لمواجهة هذه الأزمة.

السلطويات العربية 

يسعى سعيّد بشكل دؤوب لتغيير موازين القوى في تونس، وإعادة تعريف قواعد اللعبة السياسية بحيث تكون اليد العليا له وليس لأية مؤسسات أخرى. فمنذ أن جاء للسلطة لم يبد ارتياحاً لطبيعة النظام السياسي الذي يوزع السلطات بين الرئاسة والبرلمان والحكومة.

لذلك فقد عطّل تشكيل حكومتي كل من إلياس الفخفاخ وهشام المشيشي أكثر من مرة. كما أنه عبّر في أكثر من مناسبة عن امتعاضه و"قرفه" الشديد من الطبقة السياسية، وكان يتمنى التخلص منها بأي طريقة باعتباره العقبة في سبيل تحقيق برنامجه الإصلاحي.

من يتابع الخطاب والسلوك السياسي لسعيد منذ أن جاء للسلطة في أكتوبر/تشرين الأول 2019 يكتشف أنه مشروع سلطوي جديد في المنطقة، وأنه يسير على خطى الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي الذي قاد انقلاب 3 يوليو/تموز الذي أجهض التجربة الديمقراطية في مصر وارتكب انتهاكات مروعة لحقوق الإنسان.

ربما ليس مفاجئا زيارة سعيد للقاهرة ولقاء السيسي في أبريل/نيسان الماضي حيث أجريا محادثات منفردة لا يعلم أحد ماذا دار خلالها. بل الأكثر من ذلك، فتبدو بصمات الإمارات واضحة على انقلاب سعيد سواء من حيث الشكل أو المضمون. فعلى مدار السنوات الأخيرة موّلت الإمارات حملات الدعاية السلبية ضد الثورة التونسية، وساعدت بعض السياسيين الفاسدين المحسوبين على نظام بن علي مثل النائبة عبير موسي من أجل تخريب العملية السياسية خاصة في البرلمان وتعطيل عمله كي يبدو عاجزاً أمام الجماهير. فإسقاط الإسلاميين في الشرق الأوسط هدف أساسي وإستراتيجي لولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد الذي ينفق المليارات من أجل دعم الأنظمة السلطوية العربية. وتحاول الإمارات استنساخ تجربة "الحاكم السلطوي القوي" في تونس كما فعلت من قبل، ولا تزال، مع السيسي في مصر، وحفتر في ليبيا.

الغرب مصالحه فوق أي اعتبار

في هجمات معاكسة أو ثورات مضادة، بدأت الأنظمة تعيد حساباتها وأوراقها بمعية غربية لا شك فيها مطلقاً، وبدأت عمليات التصفية، بغض النظر عن المبادئ والقيم الديمقراطية التي يتغنى بها الغرب سنوات طوال. واحتكم الناس أثناءها إلى صناديق الغرب الديمقراطية، وفاز الإسلام السياسي – كما يُشاع في الإعلام ويُراد به جماعة الإخوان المسلمين – فهل يسكت الغرب على هذا التحول غير المتوقع في أهم البلاد العربية؟

الغرب .. لا مبادئ أمام المصالح

هكذا إذن كان الغرب ولا يزال إلى يوم الناس هذا. قوته السياسية والعسكرية في خدمة اقتصاده وتجارته. إن حماية مصالحهم فوق أي اعتبار. ولا تقل لي مبادئ وأخلاق وقيم، فأمام الثروات المعدنية وغيرها من ثروات وخيرات هذا العالم العربي المنكوب، ومثله في أفريقيا وبعض دول العالم الثالث، يتجرد الغرب من كل تلك المبادئ والقيم التي يتغنى بها ليل نهار، وصدّع رؤوسنا بها لأزمان طويلة، ولو أدى ذلك إلى خراب البلدان ودمارها وهلاك ملايين النفوس البشرية، وما الحروب المستمرة في بقاع معينة من العالم، والقلاقل وعدم الاستقرار إلا دليل واضح لا يحتاج لكثير شروحات وتفصيلات.

حكم الفرد الواحد ليس الحل لمشاكل البلاد الاقتصادية، والدكتاتورية تؤدي دائما إلى زيادة الفساد والمحسوبية وانتهاك الحقوق الفردية وعدم المساواة.

*

المستبد الجديد بلباسه التونسي


 ينقضّ فيها على الديمقراطية التي أتاحت للصوص والظلاميين أن يشكلوا الأغلبية في برلمان.

الأيقونة المقدسة التي كسرها قيس سعيد.

 ظهر العرب على حقيقتهم ديمقراطيين، شعوبا تضع الديمقراطية في منزلة هي أعلى من كل شيء في الحياة. تموت من الجوع ولا تُمسّ الديمقراطية. ينهب النواب البلاد وتبقى مؤسستهم الدستورية التي اسمها البرلمان قائمة وتظل حصانتهم في أمان. ينتشر الفساد بين النفوس فلا تبقى نفس إلا وغمرتها رائحته ولا تتعرض الأحزاب التي تمكّنت من السلطة للمساءلة.

الشعب الذي يحترم نفسه ومكانته بين الأمم وسمعته عبر التاريخ يجب عليه أن يحترم الديمقراطية ولا يخدش حياءها بالرغم من أنه يعرف أنها مصدر كل الهلاك المهين والتيه المذل والندم الحائر الذي انتهى إليه الشعب التونسي بسبب تجربة ديمقراطية أذلته وجوعته وشرّدته وسرقته وسطت على ضميره وأهانت كرامته.
ليه ربته بالديمقراطية يعني الملكية هي الاستقرار 

أقال الحكومة وجمّد عمل مجلس النواب وبدأ بمساءلة أصحاب رؤوس الأموال بانتقاء محسوب عن سرّ تضخم ثرواتهم ولا يزال الأمر في بدايته.

لقد أقفل سعيد أبواب السيرك مؤقتا. ذلك ليس مهمّا بالقياس إلى ما يمكن أن تتوقع حركة النهضة وسواها من الأحزاب أن تواجهه بعد أن رُفع الغطاء القانوني الذي اسمه الحصانة عن نوابها. سيكون السؤال القديم الجديد جاهزا “ما هي مصادر التمويل الخارجي وكيف اُستعمل ذلك التمويل في إفساد العقول والضمائر والأصوات؟”. ذلك سؤال قانوني لا علاقة له بالسياسة. ثم مَن هو قيس سعيد لكي يتحدث في السياسة. إنه مجرد رجل قانون. كان من الممكن الاستخفاف به لو أنه استمر في سيرته الأولى، رئيسا منتخبا بطريقة مدهشة يتكلم العربية الفصحى في زمن تشهد فيه تونس انهيارا في نظامها التعليمي بعد أن كانت دولة متقدمة في ذلك المجال.

* Jul 28, 2021


الشباب والثورة المؤجلة

لم تكن ثورة 2011 ثورة سياسية ولا أيديولوجية، كانت ثورة شبابية بعمق اجتماعي بالدرجة الأولى. شباب المناطق الداخلية الذين تضرروا من خيارات اقتصادية محدودة هم من تظاهروا واعتصموا ليتطور الأمر لاحقا إلى سقوط نظام زين العابدين بن علي.

كان الشعار المركزي للتحرك الشعبي “الشغل استحقاق يا عصابة السرّاق”، والهدف هو الضغط من أجل أن تتولى الدولة توفير مواطن العمل. الأمر نفسه استمر بعد 2011 وتردد الشعار مع كل احتجاجات إلى حدود الخامس والعشرين من يوليو الأخير.

الشباب ينظرون إلى مصالحهم المباشرة، وراهنوا على أن الثورة ستكون في خدمتهم طالما أنهم هم من قادوها إلى حدود اللحظات الأخيرة قبل اختطافها. ودفعت صدمتهم في الثورة وفشل الأحزاب الحاكمة إلى ردات فعل مختلفة، فبعض الشباب استقطبته مجموعات إرهابية ناشطة في الجبال، والآخر التحق بمجموعات متشددة في ليبيا وسوريا، ومجموعات أخرى اختارت المغامرة بالهجرة السرية.

من بقي من الشباب ظل يتحين الفرص للانقلاب على منظومة سياسية فاشلة وفاسدة وعاجزة عن قيادة البلاد. وفي أول بارقة أمل مع ترشيح قيس سعيد للانتخابات الرئاسية ساهم هؤلاء الشباب في الحملة الانتخابية بقوة وحتى بعد فوز هذا المرشح بالرئاسة ظلوا يسندونه ويدعمونه من أجل الحصول على صلاحيات تخول تطبيق أفكاره التي كانت تدور حول خدمة الشباب.

القطاع العام لا يمكن أن يتحمل لوحده عبء أزمة التشغيل، ورأينا كيف أن انتداب مئات الآلاف من العاطلين في القطاع وكذلك الزيادات الكبيرة في الرواتب والعلاوات لم تحقق شيئا بل بالعكس ساهمت في ارتفاع كبير للأسعار، وظل الموظف في نفس الظروف المعيشية فيما تضاعفت الأعباء على الفئات المهمشة والفقيرة.

*
الياسمين لا تستسلم للديكتاتورية

 حمى صراع بين التيارين العلماني، بتنويعاته القومية والليبرالية واليسارية، والديني، تجتاح تونس وخارجها، تختزل المشهد من موقفٍ من إسقاط حزب النهضة (الإسلامي)، وبالتالي نرى تخندقا ليس داخل تونس فحسب، بل في العالم العربي، وهو سياقٌ غير دقيق، يحجب قضايا رئيسية، كان يجب أن تكون عماد الانتفاضات الغربية، من بناء دولة المؤسسات والحفاظ على الحريات إلى وضع أسس الاقتصاد المنتج والعدالة الاجتماعية.

الموقف من "الإخوان المسلمين" ووصولهم إلى السلطة، عن طريق صندوق الاقتراع، إضافة إلى التجاذب بين دول خليجية، هو المعيار الذي حكم مواقف مثقفين عرب عديدين. ولا يعني ذلك أن الطموح إلى بناء دولة مدنية تعدّدية، علمانية، تفصل الدين علن السياسة، غير مشروع، ولكن إسقاط الإسلام السياسي، عن طريق الانقلابات العسكرية، كما في مصر، أو انقلاب الرئيس على الدستور كما في تونس، يدمر فكرة بناء المؤسسات والدولة المدنية.

بشفافية، أؤمن بالعلمانية، ولا أتمنّى رؤية أحزاب دينية في السلطة، لكن تأييد انقلابٍ، لمجرّد أن الهدف هو التيار الإسلامي، يفقد النضال من أجل التغيير محتواه التقدّمي والتحرّري، ولا يمثل سوى انتقام لا يليق بأي مشروع نهضوي، نتبجّح به أو ننادي به، فالانقلاب في مصر لم يبن دولة القانون والتحرّر، بل أدّى إلى مأسسة جرائم الإقصاء والقمع والسجون والتعذيب، لأي آخر لا يريده النظام، وأثبت عبد الفتاح السيسي أنه الأكثر تعاونا مع إسرائيل من كل سابقيه منذ توقيع معاهدة كامب ديفيد. وتركيز السلطات في يد الرئيس في تونس، مهما كانت صفاته، هو تأسيس لاستبداد الفرد الذي يعتبر نفسه المنقذ الأعظم، وإن من الصعب تصديق مثل هذه الدوافع، واستبعاد الشكوك بأنه مدعومٌ من قوى داخلية أو خارجية، وكيف ننادي بالحريات واحترام الدستور والمؤسسات فيما نؤيد الانقلابات العسكرية والدستورية، بحجة ضرورة التخلص من التيار الإسلامي؟

هناك مشكلة موقف مبدئي من الحريات، وحتى العدالة الاجتماعية، في قلب القوى والحراكات التي تقول إنها تدافع عن حقوق الشعوب، إن كانت في مرحلة المعارضة، وبعد الوصول إلى السلطة، من انجرار آلة الصراعات الفئوية والفرعية إلى الصراع على السلطة، بعد الوصول إلى الحكم، وإهمال مركزية التحرّر والعدالة الاجتماعية.

خذلان طموحات الشعب التونسي كان في استمرار نهجا اقتصاديا عماده النيوليبرالية، خصوصا بعد الرضوخ لشروط النقد الدولي، أشهرا بعد إسقاط النظام، إذ كانت واشنطن حريصة على عدم المساس بهذا النهج، فلم تمض أيام على الانقلاب على الدستور، في 25 الشهر الماضي (يوليو/ تموز)، حتى دعت الولايات المتحدة الرئيس التونسي إلى الاستعجال بإنهاء المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، لأن تثبيت التبعية الاقتصادية أهم من الحريات والدساتير، وضمانة لهذه التبعية.

تدهور الوضع الاقتصادي وتثبيط أحلام العمال والمضطهدين مسؤولية تتحمّلها كل الأحزاب التي شاركت في الصيغ التوافقية التي حكمت تونس، بما فيها حزب النهضة،

ولم يكن دعم الشباب التونسي مرشح الرئاسة، قيس سعيد، إلا مؤشّرا على اختيارهم شخصا خارج تركيبة السلطة، لكن ذلك لا يجعل انقلابه وتقويض الديمقراطية مشروعا، وهو فعل أول ما فعل، بعد إعلانه ما سماها "تدابير استثنائية"، الإيعاز باقتحام مكتب قناة الجزيرة وإغلاقه، على الرغم من جهده في توطيد علاقته مع صحافييها، وترحيبه الدائم بالظهور على شاشتها، ما يعني أن فعلته هذه مؤشّر على نزعة انتهازية وقمعية فيه، لا تتناسب مع صورة المثقف، بل مع شخصيةٍ كانت تخطط برويّة للاستحواذ على كل السلطة.

لا نستطيع أن ننكر على التونسيين فرحتهم، فهو مؤشّر على فقدان ثقتهم بما يقدّم لهم، ولكن احتكار السلطات لا ينبئ بمرحلة إنقاذ وطني. أما فرح العلمانييين بهزيمة الإسلاميين فيدل على فهم ضحل، فليست فكرة العلمانية التي تنتصر، وإنما خسرَ مفهوما الديمقراطية والتعددية. ولكن لا نقوى على فقدان الأمل في الأمل الذي بزغ من تونس، وآمالنا الآن معقودة على منع القوى التونسية دخول بلدها إلى الديكتاتورية.

*

يتحيّن الرئيس التونسي، قيس سعيّد، الفرصة المناسبة، لإعلان اعتزامه الدعوة إلى استفتاء شعبي على الدستور، يستهدف تعديل النظام السياسي بحيث يصبح رئاسياً. خطوةٌ من شأن تحقُّقها الانتقال بتونس من وضع دستوري إلى آخر مغاير تماماً،

 الأحزاب واصلت انقسامها وتركيزها على فكرة «الانقلاب» أو الدعاية لـ»تصحيح المسار»

 وجهة النظر المصرية القائمة على أن «الضرورات تبيح المحظورات»، وأن سعيد يجب أن يحظى بدعم عربي في ظلّ مخاوف من انقلاب مضادّ على قراراته.

*Aug 1, 2021

فقال سعيد النجار: "لطيفة عملت أغنيه مؤيدة لقيس سعيد‬ ‏بتقول فيها "يحيا الشعب، يسقط كل عدو الشعب، تونس الخضراء بلدي الحرة، واللي مش عاجبه على برّه.." حاجه كدا من كتالوج الانقلابات النسخة المصرية أشبه بأغنيه "تسلم الأيادي" و أغنية "إحنا شعب وانتو شعب".

"تونس تحتاج من يقف معها في ظرف عصيب يحتاج إلى الفعل وليس إلى الكلام، وهذه المرحلة هي مرحلة الفاعلين وأنا منهم".

 تونس، تحوّلت الديمقراطية إلى أداة لتفكيك المجتمع وتخريب الذوق العام والتلاعب بالرأي العام عبر أجندات مصطنعة واحتكار وسائل الإعلام من قبل من يعتبرون أنفسهم أوصياء على حرية التفكير والتعبير، وتحويل مبدأ الرأي والرأي الآخر إلى تكريس دكتاتوري للرأي الواحد عبر ترذيل الرأي المخالف ضمن لعبة تبادل الأدوار داخل الإطار الواحد، وتوجيه القصف المباشر إلى الآخر لأسباب قد لا تتجاوز الذوق أو المزاج الخاص، مع تغليب فكرة العداء المجاني لمن لا غطاء سياسيا أو اجتماعيا له، وتجيير شعارات الليبرالية والتقدمية لخدمة أجندات أبرز أهدافها الانقلاب على كل قيمة سابقة بغاية تكريس قيم جديدة ولو كانت وهمية.

يبدو أن الديمقراطية بهذا الشكل، هي أخطر على المجتمعات من الأنظمة الاستبدادية والعسكرية، باعتبار أن أكبر أعدائها هم مدّعو الدفاع عنها، ولذلك فإن تسامحها قمعي، وتقدميتها رجعية، وليبراليتها مقيدة، وحرية التعبير فيها مرتبطة بمصالح المستفيدين منها، باعتبار أنهم من يمتلكون المنصات المجيّرة لخدمة المموّل سواء كان معلنا أو خفيا، والإقصاء فيها عملية يومية تستهدف من يمثلون خطرا على مجموع الدائرين في فلك الوهم الديمقراطي الزائف.


*

 مسلسل صراع الأنظمة التقليدية مع الثورات العربية.

فيما يبدو، لم تتمكَّن الإمارات في النهاية من تحقيق هدفها بسحق حركة النهضة الإسلامية على الطريقة المصرية بعد أن أعلمت مصالح الاستعلامات الفرنسية والألمانية والجزائرية نظيرتها التونسية بهذه الخطوة التي رُسِمت خطوطها العريضة في اجتماع ليلي حضره وزير الداخلية الفرنسي ورئيس المخابرات الإماراتية بجزيرة جربة

 ففي مصر، ألقى الجنرال عبد الفتاح السيسي خطاب الانقلاب شادا عضده بشخصيات ليبرالية ويسارية وإسلامية سلفية ودينية عبر الأزهر والكنيسة،

وهو عدم تحوُّل الخلاف التونسي إلى صراع على الهوية كما حدث في مصر، حيث انقسم الشارع والناس والسياسيون والمراقبون إلى فئتين، أولى مُدافعة عن الإسلاميين، وثانية مُعادية لهم ومُساندة لتحرُّكات الجيش. 

 تونس لا تعيش حاليا صراعا هوياتيا بقدر ما تحاول التخلُّص من الشعبوية السياسية التي انتشرت في بلدان عدة، مُستبعِدا أن تعود تونس -حتى إن أُطيح بالإسلاميين من موقع الأغلبية- إلى مرحلة اللائكية اليعقوبية الفرنسية المُعادية لجميع مظاهر التدين والتجمع، مُشيرا إلى أن البلاد لن تتجاوز خط العلمانية الأنغلو-أميركية الأكثر تسامحا مع الدين حال عادت مسألة الهوية من جديد.

*
لماذا تونس مهمة 

 (أصغر بلد في شمال أفريقيا)

أهمية تونس لم تكن يوماً بحجمها، ولا بإمكاناتها الاقتصادية، ولا بدرجة التنافس الدولي عليها، بل بدورها الفكري والحضاري الرائد وإرثها السياسي الملفت عبر التاريخ. فلا تُذكر تونس إلا وتُذكر معها الزيتونة والقيروان، اللتان شكلتا لقرون منارة للفكر والثقافة في شمال أفريقيا. وخلال الفترة بين القرنين الرابع عشر والتاسع عشر أعطت تونس للعرب والعالم اثنتين من أهم الشخصيات في تاريخ الفكر والسياسة الدولية: عبد الرحمن بن خلدون، رائد علم الاجتماع الأشهر (1332 - 1406)، والوزير والمفكر الإصلاحي البارز خير الدين التونسي (1820 - 1890). وفي فترة أقرب، اختارها العرب، من دون كل عواصمهم، لتكون مقراً لجامعة الدول العربية بعد تعليق عضوية مصر عام 1978، واختارتها منظمة التحرير الفلسطينية مقرّاً لها بعد خروجها من لبنان عقب الغزو الإسرائيلي عام 1982، ثم إجهاز النظام السوري على المنظمة في طرابلس عام 1983. وفي 2010، كانت تونس مُفجّرة ثورات الربيع العربي، والوحيدة التي نجت من تداعياته الكارثية، فسلكت طريق الانتقال الديمقراطي. وهذا السبب الأخير، تحديداً، هو ما يجعلها بؤرة اهتمام عربي وعالمي اليوم. إنها النموذج الذي يضع المنطقة على مفترق طرق: نحو الحرية والديموقراطية أو نحو الاستبداد والعبودية.

قبل تونس، لم يكن للعرب في تاريخهم المعاصر ثورة شعبية ناجحة (بدون جيش ودبابات) أسقطت الاستبداد يتمثلونها ويفاخرون بها. بعد تونس، فقدت ثورة إيران قدرتها على الإلهام، وقد صار للعرب ثورةٌ نجحت، بعكس إيران، في إنشاء ديمقراطية. لكن الأهم من ذلك كله أن تونس حطّمت، بتحولها إلى الديمقراطية، أسطورة "استثنائية" الحالة العربية والمزاعم التي سادت الأكاديميا الغربية حول "التناقض الجوهري" بين الإسلام والثقافة العربية والديمقراطية.

 المنطقة العربية تتميّز بخصائص ثقافية ودينية وبنية فكرية ومجتمعية تجعلها عالقة في الماضي، غير قادرةٍ على المضي إلى الأمام والتصالح مع الحداثة، حديثٌ قديم بدأ مع الفيلسوف الفرنسي، إرنست رينان، في القرن التاسع عشر، واستمر مع برنارد لويس وكثيرين غيره في القرن العشرين. لكن الاستثنائية العربية المزعومة بشأن الديمقراطية لم تبدأ إلا مع موجة التحول الديمقراطي الثالثة في العالم (أشار إليها صمويل هنتغتون في كتاب حمل العنوان نفسه)، وشملت دول جنوب أوروبا (اليونان وإسبانيا والبرتغال) في السبعينيات، ودول أميركا اللاتينية (الأرجنتين والبرازيل) في الثمانينيات. ومع اكتساح الديمقراطية كوريا الجنوبية وتايوان في أواخر الثمانينيات، بدأت هذه الاستثنائية تأخذ منحىً أكثر حدّة، خصوصاً وأن هذه البلدان كانت تمرّ بظروف مشابهة لظروف العالم العربي - الإسلامي (حروب، تخلف، فقر، ديكتاتورية.. إلخ). ثم راحت هذه الاستثنائية تأخذ أبعاداً ثقافية ودينية، مع انهيار الأنظمة الشمولية في أوروبا الشرقية وبلوغ الديمقراطية مجتمعات أفريقية (جنوب أفريقيا)، ما جعل الحالة العربية - الإسلامية شبه فريدة.

كان العوز الديمقراطي في المنطقة العربية والعالم الإسلامي عموماً جزءاً من حالة عامّة يعيشها العالم الثالث في ظل نظام الثنائية القطبية، وسيطرة الواقعية على السياسة الأميركية. ولكن ظهور تجارب ديمقراطية، وإنْ تعثرت أحياناً، في دول إسلامية مثل باكستان وبنغلادش وتركيا وماليزيا وإندونيسيا، أثبت أن الإسلام والديمقراطية يمكن أن يتعايشا، ما جعل العرب يبدون وكأنهم المكون الثقافي الوحيد المتبقّي خارج سياق التحول التاريخي الكبير.

نجاح التجربة الديمقراطية التونسية أسقط كل أساطير "الاستثناء" العربية، إذ بيّنت أن العرب، كغيرهم من الأقوام، يقدّرون عالياً قيم الحرية والعدالة والكرامة الإنسانية ويسعون إلى نظم سياسية تمثيلية أساسها القانون. من المهم أن يدرك الرئيس، قيس سعيّد، حجم الرهان هنا، فلا يعود بنا إلى مربع الاستثنائية الثقافية العربية التي ينتظر القائلون بها فشل التجربة التونسية حتى يدمغونا بها مرّة واحدة وإلى الأبد. هذه ليست إذاً مسألة حزبية محلية، أو خلاف سياسي، أو طموح شخصي، بل هي مسألة عربية تاريخية كبرى، وينبغي التفكير بها على هذا الأساس.

*

برهان غليون 

 فشل الأحزاب والقوى السياسية التي أنتجت النظام الديمقراطي الجديد، وفي مقدمها حركة النهضة، في توطيد أركان هذا النظام وتعزيز شرعيته وضمان تماسكه أمام المشاريع الانقلابية التي تواجه أي ديمقراطية فتية، أجاءت بفذلكة دستورية أم من دونها لا فرق، فجميع هذه الأحزاب السياسية التي شاركت في بناء نظام ما بعد الثورة، وتجسيداً لقيمها وتطلعات جمهورها، تتحمّل المسؤولية في وصول التجربة الديمقراطية التونسية إلى ما وصلت إليه، حتى لو كان لحركة النهضة النصيب الأكبر منها، لأنها كانت الحزب الأكثر نفوذاً وفاعلية في تسيير هذا النظام الجديد، أو بالأحرى في الفشل في تشغيله بما يحقق التطلعات التي كان الجمهور ينتظره منه.

ليس لهذا الفشل علاقة ضرورية بالأيديولوجية الإسلامية التي ترفع لواءها "النهضة". كما لن يعمل تهميش الحركة أو إخراجها من المنافسة السياسية على تحسين الإدارة أو الارتقاء بأداء الأحزاب الأخرى المنافسة. بل، على الأغلب، إنه سيفاقم من عجز النخبة السياسية التونسية بأكملها عن بناء نظام سياسي أكثر استقراراً، وأقلّ من ذلك قدرة على الاستجابة الفعالة لتطلعات الجمهور الغاضب. ومن الصعب لهذه الأحزاب أن تضمن وحدها العودة إلى أي نظام ديمقراطي، والحيلولة دون المغامرات الشعبوية التي تشجّع عليها اليوم ظروف تونس ومحيطها، مهما كان سببها ومبرّراتها، سواء أجاءت من داخل النظام أو من خارجه.

عجزت جميع الأطراف، إسلاميين وعلمانيين، أي الطبقة السياسية جملة، عن تحقيق أي برنامج إصلاح جدّي ينقذ البلاد من تدهور الأوضاع المعيشية

ربما كان من شأن نظام رئاسي أن يتغلب بشكل أفضل على تشتت الأصوات واستسهال المماحكات والنزاعات داخل المجلس النيابي، وأن يسهّل توحيد الكلمة وتنفيذ القرار، وأن يكون بالتالي أكثر فاعلية في مرحلة انتقالية صعبة، وظروف اقتصادية سيئة فاقمت من آثارها الأزمة الصحية العالمية، وضعف الخيارات الداخلية والخارجية. لكن خيار النظام البرلماني لم يكن، في اعتقادي، إلا تعبيراً عن ضعف الثقة بين الأطراف، وتطميناً للقوى والأحزاب الضعيفة على دورها ومشاركتها. على جميع الأحوال، ليس هذا هو السبب في وصول النظام الديمقراطي إلى المأزق الذي "برّر" الانقلاب الذي لا نعرف بعد أيضاً أبعاده ولا مآله، ولا أعتقد أنه يمكن أن يشكّل نهاية المسار الديمقراطي.

للأسف، لا يرى الكثيرون من هذا الحدث الخطير سوى الصراع المديد والعقيم معاً بين إسلاميين وعلمانيين، أي صراعاً على تقاسم النفوذ والسلطة، ومن ورائها الثروة التي تتناقص باستمرار، بمقدار ما تتراجع قدرة النخب الاجتماعية على التفاهم حول برنامج عمل وطني واحد لتعبئة الرأي العام والموارد المتاحة المادية والمعنوية لإنقاذ البلاد وتجنيب الشعب مصير بعض البلدان العربية التي تغرق اليوم في البؤس والفقر والحروب الأهلية.

فلا أحد من جمهور الشعب الذي شارك في الثورة أو خرج تأييداً للانقلاب يهمّه من هو الرابح والخاسر من هذا الصراع، فهذه الرهانات السياسوية الضيقة الأفق لا تكاد تعني شيئاً اليوم عند الرأي العام، ولن يكون لها قيمة ولا أثر، أي لن يقدّم ولن يؤخر شيئاً، أمام عجز جميع الأطراف، إسلاميين وعلمانيين، أي الطبقة السياسية جملة، عن تحقيق أي برنامج إصلاح جدّي ينقذ البلاد من تدهور الأوضاع المعيشية، ومعه تفاقم التناقضات والتوترات والإحباطات والمشاحنات. وهنا يتكرّر الشعار ذاته الذي نسمعه في كل مكان "كلن يعني كلن". المهم بالنسبة للجمهور الملوّع والمهدّد في أمنه الغذائي وصحته وتربية أبنائه هو مشروع هذا الإصلاح الذي يتوقف عليه مصيره وشروط حياته ومستقبله، وليس أي شيء آخر. نحن هنا أمام الدرجة صفر من السياسة وعلى حدود التمرّد والانتفاض.

عندما حرّرت كتاب "بيان من أجل الديمقراطية" (1977)، وأعتقد أنه كان أول محاولة لاستعادة الفكرة بعد هجرانها الطويل من قبل المثقفين والنخب السياسية العربية الفاعلة لصالح الأفكار القومية واليسارية الراديكالية والماركسية، لم تكن الحريات الفردية هي التي تحتلّ مقدمة المطالَب والخطاب الشعبي. كان وراء استعادة الفكرة الديمقراطية الاعتقاد أنه لا بد من إيجاد إطار يتيح التفاهم حول تداول السلطة والمشاركة فيها، والتخلّي عن فكرة الإقصاء التي سادت الحقبة السابقة من التاريخ السياسي للنظم والأحزاب العربية، وذلك من أجل تسهيل الخروج من مناخ الحرب الأهلية والانقسامات العميقة داخل النخبة بسبب الانتماءات الأيديولوجية، الإسلامية وغير الإسلامية، واليسارية واليمينية، والقومية والقُطرية، والمساعدة على إنتاج إرادة وطنية واحدة تسمح للنخب الوطنية بالتعاون من أجل توحيد الجهد وتكثيف العمل لإخراج البلاد من مأزق التخلف والفقر والبؤس الذي يدمّر معنويات أبنائها، ولفتح آفاق جديدة للجمهور الشعبي الواسع لمقاومة اليأس واحتمال تنامي الرهان على العنف وحركات التمرّد والعدمية السياسية.

لا يوجد حل في أية أيديولوجية أو نظام أو عقيدة أو أخلاق عمومية، وإنما هو في يد القوى الحية الفاعلة على الأرض
برجماتي امريكي تكنوقراط 

وهذا يعني أننا كنا ننظر إلى الديمقراطية من زاوية استراتيجية، هدفها تثبيت الأرض المتزعزة، للتمكّن من تشييد صرح آخر عليها، هو مشروع التغيير. وهذا منهج آخر غير الذي يستخدمه خصومها: الإسلام هو الحل أو العلمانية هي الحل أو الحداثة هي الحل. وأنه لا يوجد حل في أية أيديولوجية أو نظام أو عقيدة أو أخلاق عمومية، وإنما هو في يد القوى الحية الفاعلة على الأرض. وقيمة الديمقراطية تنبع، في هذا المنظور، من قدرتها العملية على تحقيق ثلاثة أمور أساسية لإخراج قوى التغيير من دورانها حول نفسها، وتبديد جهودها في نزاعاتها ولفتح طريق الأمل المسدود:

التغيير الذي أصبح حلماً مستحيلاً مع تسلط أنظمة قمعية وانقلابية، لا هم لها سوى تخليد نفسها ولا يهمها لا من قريب ولا من بعيد تدهور الأوضاع الاجتماعية وحالة التأخر الاقتصادي والثقافي والعلمي والحضاري عموماً. وما يمكن أن يحمله هذا التغيير من إطلاق للطاقات والمواهب وأشكال التضامن والتعاون لبناء اقتصاد قوي قادر على إيجاد فرص العمل وتحسين مستوى الأجور والمعيشة للجميع، وإنشاء مجتمع حديث ونشيط، عضو فاعل ومحترم في المنظومة العالمية للدول والأمم.

لم يكن هدفنا من الديمقراطية أن نقدم لنخبنا السياسية هدية جديدة اسمها لعبة الحرية، أو أن نوفر لهم مجالاً أوسع لممارسة مزيد من التنازع والتناحر والتنافس على المناصب أو على تأييد الجمهور وعلى أصواته الانتخابية، فنحن لسنا في مبارزة سياسية، وليس هذا هو هدف الديمقراطية ولا مبرّر وجودها. وحصوله واستمراره يضع الديمقراطية بالفعل في موقع أسوأ بكثير من موقع الديكتاتورية، لأنه يشيع الانطباع لدى الجمهور الشعبي الذي يعاني بأنها مضيعة للمال والجهد والوقت. ولا يمكن لمثل هذه المسرحية التي تخلق من الآمال بمقدار ما تحبط منها إلا أن تعيد الحنين لدى عامة الناس الذين يتحمّلون عواقبها الوخيمة إلى نمط القيادة التسلطية التي تقود الدولة والمجتمع بيد من حديد، ولو على حساب كرامة الأفراد وحرياتهم وسعادتهم.

من هنا، أرى أن مسؤولية الانتكاسة التي حصلت للتجربة الديمقراطية تقع على جميع القوى السياسية التي شاركت فيها، لأنها لم تحسن التصرّف بالسلطات الشرعية التي أوكلها الجمهور إليها، واستخدمتها سلاحاً للتنافس فيما بينها، بدل توظيفها في خدمة مصالحها العامة وكسر حاجز التخلف والتبعية والحاجة إلى التسوّل لتامين لقمة العيش. وهذا ما جعل الديمقراطية الجديدة تعيد تجربة الديمقراطيات التي شهدتها بعض البلدان العربية في الخمسينيات والستينيات، في مصر وسورية والعراق وبلدان أخرى، والتي كرّست سلطة طبقة سياسية أغلقت على نفسها، وحوّلت الديمقراطية إلى لعبة خاصة بها، وانشغلت بنزاعاتها وتنافسها على المناصب والنفوذ، وانفصلت عن الشعب بمقدار ما تجاهلت مصالحه. وأصبحت الديمقراطية في ذلك الوقت شكليةً بالفعل، تغطي فيه الحركة الانتخابية وألاعيبها على إرادة الحفاظ على الوضع القائم ومقاومة أي مشروع تغيير أو إصلاح. وعندما لا يعرف النظام الديمقراطي إلا المراوحة في المكان، وحفظ المواقع المكرّسة، وحماية المصالح الخاصة، يفقد مضمونه، ويعمل لغير الأهداف التي ضحّى الناس من أجلها في سبيل تحقيقها.

مسؤولية الانتكاسة التي حصلت للتجربة الديمقراطية تقع على جميع القوى السياسية التي شاركت فيها

 حتى في الديمقراطيات العريقة، ويضعها أمام مأزق كبير. فإذا لم يكن بمقدور الديمقراطية أن تخفّف من حدّة النزاعات العدائية بين القوى السياسية، بل عملت بالعكس على تعميقها، ولا أن تتيح تكريساً أكبر للوقت والجهد، لخدمة المصالح العامة والاستجابة للمشكلات الكبيرة الطارئة، ولا تعكس، بشكل أوضح، إرادة الشعب في مرآتها، ولا تنجح في تجميع قوى أكبر وأكثر انسجاماً واتساقاً وتعاوناً من ثم أقدر على تحقيق التغيير وتعزيز فرص مكافحة التخلف والاستقالة الأدبية والأنانية الحزبية والشخصية، فلن يبقى أمام الشعب الذي راهن عليها إلا العودة أدراجه ونقل رهانه من جديد إلى الديكتاتورية، سواء جاءت في صورة مخلص أو زعيم أكثر إحساساً بمأساة الناس وتعبيراً عن آمالهم، وغالباً أقدر على التلاعب بعواطفهم وأحلامهم. وربما لن يتردّد في تأييد أفعال الانتقام من نخبةٍ يعتقد أنها خدعته وخانت عهودها. عكس المنصف المرزوقي 

 لا قيمة للحريات السياسية، في هذه المرحلة على الأقل من عمر التجربة، إلا بمقدار ما يبرهن نظامها، أي الديمقراطية، على مقدرته على حل المشكلات الكبرى التي تواجه مجتمعاتها. ولا يمكن أن تكون الديمقراطية اليوم، في عالم الفقر والبؤس والتهميش، هدفاً في ذاتها. ولن تكسب شرعية وجودها عند جمهور الشعب، إلا عندما تثبت قدرتها على أن تكون النظام الأكثر مقدرة على التغيير وإدخال المجتمعات في دورة الحضارة والمدنية التي تعيد اليوم صوغ الهوية الإنسانية على ضوء معاييرها ومكتسباتها. وكل ديمقراطية تخفق في ذلك تخسر شرعية وجودها، وتفتح الباب حتماً أمام الديكتاتورية. وهنا يصبح مستقبل الشعوب معلقاً على المصادفة والحظ في أن يمدّها القدر بزعيم قوي ومخلص وحساس لمأساتها يفتح أمامها طريق التغيير والتقدم، أو بمتسلط مفترس، يسومها سوء العذاب، ويحكمها بالحديد والنار، ليحتفظ لنفسه بما يمكن أن يسطو عليه من مواردها وثرواتها.

فيما يتعلق بالوضع التونسي الراهن، لا أعتقد أن مصير التجربة الديمقراطية قد حسم، وأن الطريق أصبحت معبدة لعودة الديكتاتورية وحكم الأقلية المفروضة بالقوة، سواء أكانت أقلية عسكرية أو سياسية على طريقة الحزب الواحد أو تكتل من الأحزاب. ولا أعتقد أن من الممكن بسهولة تجاوز إرث ثورة الكرامة والحرية الذي كنس أو كاد كل تراث الاستبداد، وما مثله من احتقار للشعب والفرد والإنسان.

 استعادة قوى الديمقراطية المبادرة، وقطع الطريق على تطور المسار الانقلابي، لن يكونا ممكنين بعد الآن من دون مراجعة هذه القوى جميعاً، إسلاميين وعلمانيين، يساريين وليبراليين، تجربتهم فيها، والتفكير في أسباب تعثّرها، سواء ما تعلق منها بأساليب العمل والممارسة واتخاذ القرار، أو بالافتقار لخطة مشتركة لمواجهة الظروف الاقتصادية والصحية الصعبة، أو معالجة أثر البيئة الإقليمية المضطربة التي أثرت عليها، أو الخلل في التضامن الدولي لنظام عالمي متداعٍ. وعلى شفافية هذه المراجعة وصدقها وإدراك الأحزاب والقوى السياسية، وكذلك المثقفين الذين ساهموا في هذه التجربة العربية الفريدة، مسؤوليتهم المشتركة في إنهاضها، يتوقف الأمل في استعادة الروح الديمقراطية التي أنضجتها الثورة الشعبية، ومقاومة الحنين إلى الزعامة الفردية الكاريزمية، ليس في تونس فحسب ولكن في عموم البلاد العربية، فعلينا جميعاً أن ندرك، في النهاية، أنّ الديمقراطية ليست نبتةً برّية تظهر أينما وكيفما تشاء الطبيعة، وإنما هي نبتةٌ مدنيةٌ تحتاج إرادة واهتماماً ورعاية وتنازلات متبادلة ومناخاً صحياً، ولا تعيش وتستمر في البقاء إلا بمقدار ما يحرص الفرقاء على وجودها ويضحّون من أجل بقائها.

*

صراع على السلطة بين الديمقراطية والاستبداد

الرئيس العلماني قيس سعيد


التوق لرجل قوي

لقد دفع الركود الاقتصادي (تقلص الاقتصاد بنسبة 8 في المئة العام الماضي) والبطالة المتزايدة (المقدرة بنحو 17في المئة) والطبقة السياسية المنقسمة، عدداً متزايداً من التونسيين للاعتقاد بأن الديمقراطية لا توفر لهم ما يصبون إليه.

 التأثير المدمر لجائحة كورونا، حيث أن معدل الوفيات الناجمة عن الجائحة في تونس هو الأعلى على صعيد القارة الأفريقية.


كل هذه العوامل خلقت لدى قطاع كبير من التونسيين شعورا باليأس وفقدان الثقة في البرلمان والأحزاب السياسية.

هذا يفسر قبول الإجراءات الصارمة التي اتخذها الرئيس بارتياح في الشارع. لقد سئم أنصار الرئيس من البرلمان وكانوا يتوقون إلى شخصية وربما إلى رجل قوي يمكنه حل أزمة البلاد.

لكن هل الرئيس سعيد قادر على إصلاح البلاد؟ فقد حذرت مجلة الإيكونوميست في افتتاحيتها الأخيرة من أن "الرجل القوي ليس هو الحل لمشاكل تونس".

المستبدون يفرحون

 حركة النهضة ذات التوجه الإسلامي، والتي تملك الكتلة الأكبر في البرلمان.

ووصفته بأنه انقلاب، ويوافق المراقبون المستقلون وأطراف أخرى على هذا التوصيف.

على الصعيد الإقليمي، كان الحكام المستبدون من مصر إلى الخليج يفركون أيديهم فرحاً ولم يتأخروا في التعبير عن دعمهم لسعيد، أما انصار الديمقراطية فيخشون وقوع الأسوأ ودقوا ناقوس الخطر.

ا لا تذكر في نصها أن له الحق في تعليق عمل البرلمان وإلغاء الحصانة البرلمانية لجميع أعضائه وإقالة الحكومة. لهذا السبب خلص الكثيرون إلى أن سعيد قام بنوع من "الانقلاب". المادة 80

هذا التوصيف لا ينطبق تماماً على خطوات الرئيس لأنه ليس جنرالاً عسكرياً، وانتخب في انتخابات حرة ونزيهة عام 2019.

بين أولئك الذين يعتقدون أن الشرعية تنبع فقط من الدستور، وأولئك الذين يعتقدون أن الناس هم الحكم النهائي.
مع ذلك في أوقات الأزمات الشديدة، تصبح الحدود بين ما هو قانوني بحت وما هو سياسي غير واضحة.

 الرئيس يتمتع بتأييد الشارع إن جاز التعبير.

شبّه الكثير من المعلقين ما حدث في تونس بما جرى في مصر عام 2013 عندما أزاح عبد الفتاح السيسي، وزير الدفاع والرئيس الحالي آنذاك، الرئيس الإخواني المنتخب محمد مرسي، عن السلطة وسط فرحة حشود غفيرة في الشوارع، في مشاهد شبيهة بما شهدته تونس بعد بيان الرئيس سعيد.

لكن هناك اختلافات جوهرية، فقد تم انتخاب سعيد بحوالي 70 في المئة من أصوات الناخبين، ولم يلعب الجيش أي دور رئيسي في السياسة التونسية، بينما في مصر هو حجر الأساس في الدولة منذ ما يقرب من 70 عاماً.

هناك اختلاف جوهري آخر في أوضاع البلدين، ففي تونس هناك حركة نقابية قوية ومنظمات مجتمع مدني فاعلة.

عشر حكومات في 10 سنوات

ستكون الأنظار موجهة ليس لسعيد فقط بل أيضاً إلى المنظمات الأربع المعروفة باسم الرباعية للحوار الوطني، التي قادت في عام 2013 الوساطة بين الإسلاميين وخصومهم العلمانيين، مما جنب البلاد الاستقطاب والانقسام السياسي الذي طال أمده، وقد نالت الرباعية جائزة نوبل للسلام عام 2015 عن تلك الجهود.

أعلنت لجنة جائزة نوبل النرويجية اليوم الجمعة فوز اللجنة الرباعية الراعية للحوار الوطني في تونس بجائزة نوبل للسلام هذا العام نظراً "لإسهاماتها الحاسمة في بناء ديمقراطية تعددية" في تونس.

 إقامة نظام سياسي متوازن ويضمن وجود ضوابط وآليات تمنع سيطرة الرئيس، لكن في مجتمع شديد الاستقطاب كحالة تونس أدى ذلك إلى إصابة البلاد بحالة شلل.

حتى قانون الانتخاب ساهم في الفوضى التي تعيشها البلاد، حيث أعطى مقاعد نيابية لعدد كبير من الأحزاب الصغيرة الأمر الذي زاد من تشظي المشهد السياسي المنقسم على نفسه أصلاً. وكانت المحصلة النهائية أن البلاد عاشت في ظل عشر حكومات في عشر سنوات.

يأمل الحكام الاستبداديون في المنطقة أن يمنحهم ما وقع في تونس المزيد من المبررات ليقولوا: "إن الديمقراطية لا تناسب الشعوب العربية" بينما سيظل دعاة الديمقراطية يأملون في بقاء تونس منارة لشعوب المنطقة.

فهل يمكن للبلد الذي منح العالم العربي شعار الثورة الذي لا يُنسى "الشعب يريد إسقاط النظام" قبل عشر سنوات، أن يكتب شعار موت الثورة ودفنها والكتابة على ضريحها " الشعب لا يستطيع أكل الديمقراطية" كما قالت امرأة تونسية غاضبة ذات يوم؟

*

حركة النهضة تخشى أن ينجح الرئيس قيس سعيد في العبور بتونس من الأزمة وهو ما يثبت أن لا تقدم للبلاد والإخوان يسيطرون على السلطة.

غالبية الشعب وليس النخب السياسية والأحزاب المدنية فقط صارت رافضة للإخوان.

وأطلق الرئيس سعيد تصريحا موحيا يعكس احتمالية تعرض الدولة لموجة من عمليات الإرهاب والعنف بعد قرارات إقصاء الإخوان عن السلطة عندما قال “ومن يطلق رصاصة واحدة ستجابهه قواتنا المسلحة العسكرية والأمنية بوابل من الرصاص الذي لا يحده إحصاء”.

ويشبه هذا الكلام ما ذكره الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي عندما كان وزيرا للدفاع عقب بيان الثالث من يوليو 2013 الذي تضمن طرح خارطة طريق بعد عزل جماعة الإخوان عن السلطة عندما طلب من الشعب المصري تفويضا لمواجهة الإرهاب المحتمل.

*

استقطاب إقليمي

قال وزير الخارجية المصري، سامح شكري، إنّ الرئيس، عبد الفتاح السيسي، يدعم سعيد بشكل تامّ، وهو الموقف الرسمي الأكثر وضوحا في المنطقة. وقالت السعودية والبحرين والإمارات، بصيغ مختلفة، إنها حريصة على أمن تونس واستقرارها، بينما دعت قطر إلى "تغليب صوت الحكمة وتجنّب التصعيد".

من الخارج الغرب والدول العربية والمديونية الخارجية وسعيد لوحده 


*

توزع التيار المدني المصري على 3 مواقف أظنها تمثل الاتجاهات الاساسية داخله: الأول التجاهل بالصمت -كما قدمت- وهو الغالب؛ فلا تدوينة ولا بوست وكأن الحدث لا يعنيهم من قريب أو بعيد، والموقف الثاني هو استعادة لحالة الاستقطاب مرة أخرى من خلال إظهار التشابه بين موقف النهضة وموقف إخوان مصر، أما الموقف الثالث وهو الأهم -من وجهة نظري- لأنه يتعلق بالمستقبل ويستحق التوقف أمامه طويلا برغم أنه لم يكن السائد، فقد كان موقفا يتسم بالنقد الذاتي وإن لم يصرح بذلك، ساعده على عملية المراجعة هذه أنه وإن أكد على تحمل النهضة للمسؤولية فيما آلت إليه الأوضاع في تونس، إلا أن مخاوفه على مستقبل المسار الديمقراطي كانت هي الغالبة أو المنظور الأشمل الذي قيم به ما يجري في تونس، بما يعنيه هذا من أرضية يمكن أن يبنى عليها لتجاوز الاستقطاب الإسلامي العلماني نحو استقطاب جديد يدور حول الموقف من الديمقراطية.


الاقتصاد التونسي الساحلي خدمي، وصناعاته وسيطة، ومنفتح أكثر على العالم. أما الداخل، فهو اقتصاد زراعي، وصناعة زراعية، وطقس أقل رحابة، ومناخ أكثر صحراوية.

حاول الرئيس السبسي استمالة أثرياء العرب إليه ودعوتهم إلى المشاركة في مؤتمر تونس للاستثمار، الذي عقد في نوفمبر/ تشرين الثاني 2016 في مسعى منه لتنشيط الاقتصاد الوطني، لكن لم يحضر من الزعماء العرب سوى أمير دولة قطر، الشيخ تميم بن حمد، الذي قدّم حينها حزمة من الدعم المالي بقيمة 1.25 مليار دولار، وقدّم نائب رئيس الصندوق السعودي للتنمية، يوسف البسام 500 مليون دولار، وكذلك فعل المدير العام للصندوق الكويتي للتنمية، عبد الوهاب البدر، الذي أعلن تقديم 500 مليون دولار أيضاً.

انتهت فترة حكم الرئيس الباجي قائد السبسي، وجرت انتخاباتٌ كاد فيها نبيل القروي، صاحب محطة تلفزيون "نسمة" أن يقارب الفوز وينجو من المحاكمة بتهمة الفساد. لكنّ الرئيس الحالي قيس سعيّد، فاز بأغلبية واسعة بعد جولتين. 
ظهرت إلى السطح المنازعات والمناكفات بين حزب النهضة، ممثلاً للتيار الديني، والأحزاب العلمانية والممثلة لأفكار الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة.

*Aug 4, 2021
Aug 7, 2021

قيس سعيد»، والتى يصفونها بتعميق الديكتاتورية. وطبعا مطلوب منا أن نصدق باإنعدام الصلة بين هؤلاء، وبين وصف ما يسمى بالاتحاد العالمى لعلماء المسلمين، المأوى الرسمى للتنظيم الدولى لجماعة الإخوان، لمنشئه يوسف القرضاوى، لتلك الاجراءات بأنها انقلاب استبدادى غير شرعى وحرام!.

المترحمين على الديمقراطية، التى اعتدى على شرفها الرئيس التونسى، لامواثيق شرف لديهم. فهم يكذبون ويزورون الحقائق، ويتلاعبون بالألفاظ و يفرغون المصطلحات من معناها الحقيقى، للدفاع عن الفوضى التى أشاعتها حركة النهضة الإخوانية خلال عقد كامل، للاستحواذ بآليات ديمقراطية شكلية، على سلطة القرار فى تونس فى الحكومة والبرلمان، وادخال البلاد فى دائرة جهنمية تقودها من فشل إلى آخر، ليقبع 40 % من سكانها تحت خط الفقر فى35 % من شبابها فى دوامات البطالة، ولتغرق مؤسسات الدولة والحكم بالموالين والأنصار بغض النظر عن الكفاءة والجدارة!.

المشترك بين تلك القوى النائحة وبين النهضة، هو العداء للدولة والوطنية ومؤسساتها، الأمنية والقضائية على وجه الخصوص. فمشروع الإسلام السياسى بمجمله، كما يعلم القاصى والدانى، هو مشروع خارجى مصنوع ومدعوم من الدول الغربية التى تروج لإعتداله وأهليته للحكم، برغم الفشل الذريع الذى أثبتته تجربة جماعة الإخوان فى حكم مصر والسودان، وربما بسبب ذلك، لأجل البحث عن أدوات طيعة ،تقود بنفسها من داخل بلادها مهمة تمزيقها!.

*
Aug 25, 2021

تونس نموذجا.. هل تُمهِّد الشعبوية الطريق إلى الاستبداد؟


 "يحيا الشعب.. يسقط كل عدو الشعب" احتفالا بالإجراءات التي اتخذها الرئيس التونسي "قيس سعيد" بحل البرلمان وإسقاط الحكومة وضم السلطات الثلاث القضائية والتنفيذية والتشريعية إلى صلاحياته رئيسا للدولة التونسية،

لا حزب ولا تاريخ نضالي ولا مال ولا دعم إقليمي أو دولي، وذهبت أغلب التوقُّعات قبيل انتخابه إلى أنه سيكون الرئيس الأضعف في تاريخ البلاد، لا سيما في ظل استقطاب سياسي حاد بين الإسلاميين والعلمانيين. بيد أنه سرعان ما كشَّر عن أنيابه وأظهر سعيه لاحتكار السلطات كافة في يده،

الشعبوية العربية طريق إلى الشمولية 

مفهوم الشعبوية من أكثر المفاهيم المتنازَع على تعريفها، ولكن رغم الاختلافات والتباينات، يتفق أغلب المفكرين على سِمَات رئيسية لها، أبرزها العداء الجذري للنخبة والمؤسسات الوسيطة كمنظمات المجتمع المدني والبرلمان والهيئات السيادية غير المُنتخَبة مثل القضاء والمحاكم الدستورية. في المقابل تنحاز الشعبوية بشدة لمفاهيم مثل الإرادة العامة والشعب المتجانس والديمقراطية الجماهيرية والسيادة الشعبية.

 المرتكزات الخطابية هي التي قامت عليها حملة قيس سعيد الرئاسية، وهي التي أوصلته إلى أعلى منصب سياسي في تونس، تحت شعار "الشعب يريد ويعرف ما يريد". وقد قُدِّم قيس سعيد إلى التونسيين بوصفه واحدا من الشعب

 مقارنة قيس سعيد مع شعبوية الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، الذي حفل خطابه بالهجوم الشرس والمستمر على النخبة الأميركية السياسية والثقافية، بوصفها نخبا طفيلية لا تُمثِّل عموم المواطنين في الولايات المتحدة. ومثله مثل قيس سعيد، أتى ترامب من خارج الطبقة السياسية الفاشلة والعاجزة عن حل مشكلات المواطنين، ليُقدِّم نفسه مُمثِّلا حصريا وحقيقيا للشعب، ومن ثمَّ مرشَّحا أقدر على التعبير عن الشعب وهمومه وأقدر على سماع مشكلاته. قدَّم ترامب وقيس سعيد نفسيهما مُمثِّلين للإرادة العامة للشعب دون اعتبار أو قداسة للعملية الانتخابية أو المؤسسية بالضرورة. بيد أن ثمة فارقا مهما بينهما، هو نفسه الفارق بين شعبوية ترامب الأميركية وشعبوية قيس سعيد والشعبوية العربية في العموم.

 موقف قيس سعيد، الذي يقود المد الشعبوي في تونس اليوم ضد الطبقة السياسية والمجتمع المدني والإعلام، حيث ظهر الرجل في الإعلام وبجواره قيادات الجيش والأجهزة الأمنية ليُعلِن تعليق العمل بالبرلمان والدفع بالدبابات إلى الشوارع لتُحاصِر مجلس الشعب مانعةً النواب المُنتخَبين من دخوله. وبحسب الكاتب التونسي "علي كنِيس": "فبعد أن جمع قيس كل السلطات في يده، فإنه يتجه الآن إلى تسليم عدد من الملفات للجيش بحجة أن النخبة السياسية والإدارية فشلت في إدارتها. يرافق ذلك حالة من الإنكار الواسعة لوجود انقلاب في البلاد، والتهليل لكل خطوة يتخذها سعيد. إنها بداية لعسكرة إدارة الشأن العام، ولن يكون التخلُّص من هذه الإجراءات الاستثنائية سهلا أبدا"

هنا تكمن خطورة الشعبوية العربية التي يُمثِّلها قيس سعيد، وهي أنها لم تأتِ تجسيدا لتحالف اجتماعي أو مشاريع سياسية من قوى المجتمع المدني لفرض تصوُّرها عن السلطة والشرعية من أجل حل مشكلات المجتمع نفسه، بل أتت شعبوية سعيد هذه المرة على أنقاض فشل المجتمع المدني وقواه السياسية والاجتماعية في إدارة عملية الانتقال الديمقراطي وإدارة الملفات السياسية العاجلة في الاقتصاد والصحة وغيرها، ولذا ليست الشعبوية في الحالة التونسية هنا سوى جسر للانتقال من الديمقراطية إلى الديكتاتورية البيروقراطية والعسكرية، وتنحية المجتمع بكل طبقاته وقواه من المجال السياسي، بل وإفقاد التسيُّس وممارسة السياسة قيمتها من الأساس وأهميتها في نظر العامة، مع تقديس للحاجة إلى "إنجاز المهام" و"ضبط الأمن" وغيرها من المفاهيم.

حالة قيس سعيد شكلا من أشكال الشعبوية الهشة. ففي حين أن شعبويي الغرب المعاصرين، مثل "فيكتور أوربان" في المجر، و"جان ماري لوبان" في فرنسا، و"دونالد ترامب" في الولايات المتحدة، هُم مُمثِّلون سياسيون لقوى موجودة على الأرض وشرائح اجتماعية ذات ثقل وحضور وسط الناس، ويُقدِّمون أنفسهم بوصفهم بديلا أكثر ديمقراطية وقدرة على تمثيل مصالح الشعب مقارنة بالنُّخَب، ويدخلون إلى المجال السياسي عبر صناديق الاقتراع وأُطر الشرعية الدستورية، فإن قيس سعيد قادم من الظل تماما، بلا أي ظهير مجتمعي منظم، وبلا حزب يميني أو شعبوي، فلا يسنده سوى القوى الكارهة لحركة النهضة والساخطة على الأوضاع الحالية في تونس، ولا يمنحه الشعبية سوى خطابه المجرَّد وهجومه على الأحزاب والتعددية السياسية والمجتمع المدني بمعناه الكلاسيكي؛ فاتحا الباب بذلك أمام السلطوية وتصفية المجال السياسي لصالح حكم سلطوي أو شمولي مرتكز حول شخصه ومن بعده أجهزة الدولة الأمنية والعسكرية.

زعيم تونس الشعبوي الجديد يفتقد القوة السياسية الحقيقية المنظمة، باستثناء التفاف أجهزة الدولة البيروقراطية وغير السياسية بالضرورة حوله، فمن المُرجَّح أن يصبح أسيرا لها بمرور الوقت لا قائدا لها، ومن ثمَّ لعله يُمهِّد لحكم تلك الأجهزة العسكرية والأمنية في المستقبل القريب. أما القطاعات الشعبية المؤيدة له، فلربما تجد نفسها في القريب العاجل وقد خابت ظنونها بخروج قيس سعيد من المشهد بانتخاب غيره أو وفاته، لا سيما وهو مُنْبَت الجذور بأي ظهير سياسي، وسيكون عليها حينئذ أن تواجه مشكلة أكبر بكثير من نخبة غير كفء أو برلمان مشلول، وهي نخبة أخرى لا يمكن إزاحتها من السلطة بصناديق الاقتراع.

*Dec 28, 2021

حبس المرزوقي 4 سنين حكم 

الإضراب يسعى لتحقيق جملة أهداف، منها "إطلاق سراح جميع النواب والمساجين السياسيين وإيقاف كل المحاكمات العسكرية والتوقف عن الإساءة إلى الجيش الوطني ومحاولات توريطه في المسار الانقلابي".

*




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق