Nov 9, 2021
صامت لا يتكلم وكأنه أخرس. أما السكوت فيكون بعد بدء الكلام ابتداء، يقال: تكلم ثم سكت، وغالبا ما يكون دافع الصمت والسكوت كليهما الخوف، وربما لهذا السبب تجد في تاريخنا الفكري والتربوي الكثير من الوصايا والمواريث والأمثلة التي تحث على السكوت وعدم التحدث، فالخوف من شيم النفوس، وهو أحد أشهر المشتركات البشرية التي يتقاسمها الكبار والصغار
هذا الخوف تجوهر فينا نحن العرب طوال تاريخنا لأننا لم نحظ بفرصة حقيقية للحرية الفكرية وذلك لأننا لم نحظ بحكام حقيقيين،
علاقتهم بحكامهم غير إنسانية، يقول المثل: “إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب
نوع العلاقات المتشنجة المتطرفة الحدية التي كانت تسيطر على واقع مجتمعنا العربي الجاهلي، كان السكوت السمة الغالبة على عموم الناس، وهذا يعني أن طلب الأمان كان هو الدافع إلى السكوت،
قَال رَسول الله (ص): من صمت نجا
.فطول الصمت في هذه الحالة يترك للفكر فسحة لكي يسيح في الآفاق بحثا عن المعرفة ولاسيما في ذلك المجتمع المفتوح، لكن أن يتحول إلى ثقافة غير منتجة فذلك هو الأمر الذي يدل على أنّ الصمت كان لدوافع أخرى.
فكم كان جميلا لو أن أجدادنا صمتوا ليتفكروا وينظروا ويتأملوا، ولكنهم للأسف ثرثروا حتى الثمالة، فتسافل بعضهم وتدانى،
“من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت”
المثقفين منهم فهموا اللعبة، وأدركوا الهدف. هؤلاء وحدهم قرنوا الصمت بالحكمة، فالهذر وكثرة الكلام يتنافى مع الحكمة، قال علي بن أبي طالب (عليه السلام): “إذا تم العقل نقص الكلام”. أما غالبية الناس فكانوا إما صامتين خوفا وإما مهذارين بالباطل.
دعوة إلى التحكم بالكلمة وتحسين مخارجها لكي لا تتسبب في أذى للمتكلم شخصا وللبلد والأمة مجتمعا.
السكوت سمة العقلاء الباحثين عن السلامة والأمان، فسحبنا ذلك على بداية مراحل إسلامنا، أو ربما تشبثا منا بموروثنا، نقلنا سنن جاهليتنا إلى عصر إسلامنا، فدمجنا المنظومتين: منظومة الأمان الجاهلية، ومنظومة الحكمة الإسلامية، لنخرج بمنظومة هزيلة أضاعت هدفها مثلما أضاع الغراب مشيته!
فالإسلام بقدر ما دعا إلى الصمت وإلى السكوت، دعا كذلك، وحث على التكلم في أوقات ومناسبات كثيرة دون النظر إلى موضوع السلامة الشخصية. فدفاعا عن الحق يتوجب الكلام، لأن “الساكت عن الحق شيطان أخرس” وما أعظم “كلمة حق في وجه سلطان جائر”
جمع الإسلام بين المتناقضين، واجتماع المتناقضين في بعد فكري واحد يعني فيما يعنيه أن الكلام أكثر قيمة وأجدى من الصمت في بعض المواطن، والسكوت أكثر قيمة وأجدى من التكلم في مواطن أخرى، والإنسان هو الذي يحسن أو يسيء الاختيار، فكم من سكتة قتلت صاحبها، وكم من كلمة حق قتلت صاحبها.
“تكلم يا هذا لكي أراك”
موضوعة الحقوق الفردية، أو التعايش السلمي بين مكونات الشعب العراقي بشكل مستمر – رغم كثرة الكلام في هذا الشأن – سيرسخ في ذهن المتلقي مجموعة أفكار قد تتيح لصاحبها أن يقتنع بالكلام الجديد الذي سيقال في المستقبل. بما يدفعه إلى لبحث عن كلام جديد أو ربما المشاركة بالكلام الدائر، وإبداء الرأي وطرح المقترحات والحلول التي قد يكون بعضها على مستوى عال من الأهمية والرجاحة، بما يسهم في حل مشاكل عويصة عجزنا عن التوصل لحلها بالطرق النمطية الموروثة. وقد احسن (جون لوك) التخمين عندما حاول أن يبرهن على أن جميع معلوماتنا هي نتيجة خبراتنا المبكرة وتأملاتنا التي بدونها تنعدم الأفكار
لا نتهيب من التكلم ، ولا نتخوف من أن كلامنا قد يكون تافها سطحيا بسيطا غير مؤثر أو غير مقبول ، لأنه حتى لو كان كذلك فانه سيكون محاولة لرفع موضوع ما قد يكون كثير الأهمية إلى مستوى نظر الآخرين مما يسمح لهم برؤيته، وهنا يجب أن لا ننسى أن جميع الأعمال الفكرية العظيمة تبدو بسيطة وبديهية حالما تطرح كما يقول الباحث ألان وود
يجب أن لا نتخوف ولا نيأس من ردود أصحاب الذوق السيء ذوي الاستجابات الفجّة اذا ما اعترضوا على مشاريعنا الثقافية الداعية إلى التغيير نحو الأصح والأحسن، وحتى على أقوالنا المجردة. فهذا الاعتراض لا يعني بالضرورة وجود خلل في هذه المشاريع أو عدم واقعيتها بقدر ما يدلل على وجود نوايا شريرة مسبقة لدى بعض من يستفيد من ديمومة حالة الخطأ التي نعيشها منذ ما يزيد على أربعين عاما. وهو ما أكده الناقد رتشاردز في تلميحه إلى: أن الذوق السيء والاستجابات الفجّة ليست مجرد عيوب ثانوية في الشخصية وإنما هي في الحقيقة شر أصيل تنتج عنه نقائص أخرى في الشخصية أو كما قال الأستاذ البلداوي: إن الذين يقاومون أي تغيير في نظام حياتهم مهما كان لمجرد أن التغيير الجديد لم يألفوه هم معقدون. وكلما كانت مقاومتهم شديدة كان التعقيد المبتلون به شديدا أيضا
من الطبيعي أن يكون الكلام من اهم آليات ادراك الحقائق ولذا يزداد التعلم طرديا مع ازدياد الكلام المجدي
فتصمت عند الحاجة إلى الصمت، وتتكلم حينما يكون الكلام هو العلاج، فكم من صمت حلّ مستعصي المشاكل، وكم من كلمة أريقت بسببها الدماء البريئة أو غير البريئة،
نحتاج إلى الكلام لترطيب الأجواء وشحن النفوس بالحب والتسامح والروح الوطنية؛ من أجل البناء وتجاوز العثرات، ونحتاج إلى الصمت عما بدر من أخطاء، تسببت في خلق صراعات دموية غبية، فالعقل لا يبدع والسعادة لا تتحقق إلا بكسر حاجز الصمت، فالصمت يصادر الجمال ويكمم الأفواه فتضيع الحقوق.
*
الكلام شهوة .. لكنه قد يكون نوراً هادياً أحياناً .. وقد يكون جهلاً وغباءً ومرضاً .. فى أحيان أخرى .. كثيرة!
أشرف عبد الشافى، شرح معاناة الانسان «المحشور» وسط أحاديث وقصص يرويها أناس لا يمكن منعهم من «الرغى» والنميمة
كلام الناس عن الناس، من نميمة ونقمة، وحقد وحسد،
جلسة عنوانها الظاهر هو تبادل الآراء حول القضايا العامة، وهو شئ لطيف يفترض أن يكون مفيداً وممتعاً، لكن ما يحدث على أرض الواقع، هو شئ آخر مختلف، مختلف تماما
من الصامتين المشاركين بتوزيع الابتسامات وحسب، ليس بارادتى طبعا، لكننى لا أجد منفذاً وسط «الرغى» والافتاء الدائم المتصل المتواصل للمشاركة بجملة مكتملة.
أشعر - مع خيالاتى المريضة - بأنى «حشرت» داخل فيلم «بورنو»، شهوات المتكلمين «الفتايين» تتصارع، والبقاء دائما لصاحب الشهوة الأقوى، فهو من ينجح فى «اغتصاب الرغى» طوال الجلسة، يغير مسار الحوار فى القضية التى يطرحها هذا، ويقاطع ذاك بعد مجرد جملة من حديثه، فيقاطعه آخر صاحب شهوة أيضا شعر «بالانتهاك»، حتى تصل الجلسة الى «الذروة» .. «اتنين بيتكلموا فى وقت واحد!».
الحوار فى جلساتنا، بل فى وطننا، لم يعد يهدف الى الاستفادة وتبادل الأفكار والبناء عليها، وأغلب المتكلمين لا يريدون الاستماع للآخرين، فهم وحدهم الأكثر فهما وخبرة، الأكثر تجربة وحكمة، الأكثر شهوة!
احتكار الكلام، لا يختلف عن احتكار التدين وفهم نصوص الدين عند البعض، ولا يختلف عن احتكار الوطنية بحجة الاطلاع على المعلومات وأسرار المؤامرات ضد الوطن، عند البعض الآخر، فكل هؤلاء المحتكرين يقصون الجميع، ويزعمون الانفراد بامتلاك المعرفة.
*
شهوة الكلام
علاج شهوة الكلام أن نقتدي بسيدنا زكريا عليه السلام، أن نصوم عن الكلام، ولو لثلاثة أيام، حينها سيخف الضجيج، وتتراجع الأمراض النفسية، وتتحسن حياة الناس، وتنجو مجتمعاتنا من طريق الخراب الذي تقودها إليه نخبة الكلام.
تقرأ صحيفة أو تجلس أما التلفاز تشاهد الحوارات؛ تجد كلاماً فوقه كلام تحته كلام، عالم كامل من الحروف، والكلمات الفارغة الجوفاء، لا حقائق واقعية لها، ولا هدف من قولها، إلا أن تملأ فراغ الفضائيات، وتسوِّد بياض الصفحات بحروف ما فيها من حبر أكثر قيمة مما تحمله من أفكار ومعانٍ.
تحاول أن تخرج بفكرة أو رؤية أو طاقة أمل أو نور معرفة أو قيمة إنسانية تضيء طريق القادم من أيامك، لن تجد إلا ظلاما دامساً، سبابٌ ولعناتٌ، وتشكيكٌ، وتشاؤمٌ، لقد أدمنت نخبة البوم والغربان الحديث عن السلبيات، ومواطن الفشل، وتضخيم الأزمات، ونشر الفضائح، والرذائل في المجتمع. بل إن هناك منظومة متكاملة من القنوات الفضائية، والمواقع الإخبارية؛ تقف وراءها دولة غنية؛ تسخر مواردها، وتجيش كل إمكانات، وعلاقات هذه الدولة من أجل نشر ثقافة البوم والغربان.
ما تفعله قطر ومعها تركيا بقايا اليسار والليبراليين؛ في جوهره هو نشر ثقافة البوم والغربان، وتضخيم الفشل، ودفع الشعوب إلى اليأس، والانفجار والتدمير، كل ذلك من خلال تعظيم شهوة الكلام عند الجميع، وتحويل البسطاء إلى متكلمين في القضايا التي لا تستطيع عقولهم استيعابها أصلاً، ولكنها شهوة الكلام التي ظهر للجميع أنها أشد الشهوات شراسة وقوة، وأعظمها تحكماً في الإنسان.
أمام شهوة الكلام تراجع العقل، وانزوى المنطق، وفقدت كل العلوم مضامينها؛ لأن المدمنين على شهوة الكلام يعتقدون أن الواقع كله كلام، وأن العالم عبارة عن كلام، وأن الحقائق في الكون يصنعها الكلام، ويغيرها الكلام، وإليك مثال تنظيم الإخوان الفاشل، وخلفه تركيا وقطر، جميعهم يعتقدون اعتقاداً جازماً أنهم يصنعون عالما من الكلام، يتهجمون على الدولة المصرية بكلام فارغٍ من المعاني، مليءٍ بالفراغ، خال من القيم، ويظنون أن هذا الكلام يستطيع أن يغير حقائق الواقع، ويصنع لهم واقع على مقاسهم،
شهوة الكلام أكثر خطورة من جميع الشهوات الدنيئة في الإنسان
كل القتل والتدمير الذي يحدث في الدول العربية في عصرنا هذا كان ناتجا عن كلام في صورة خطب عصماء لسياسيين انتهازيين، أو لرجال دين من عدماء الدين، وتجار الدين. الكلمة قد تبني وقد تهدم، وترفع صاحبها إلى مقام المصلحين، وتهوي به مع القتلة والمخربين.
حول طبقة من البشر؛ هي الأكثر تعلماً تغرق في ثرثرة فارغة تصم الأذان، ولا تنير العقول، قديما وصف الإغريق الحكماء هذا الصنف من المثقفين بالسفسطائيين، أولئك المتلاعبون بالكلام الخالي من المعاني، عديم المنطق؛ لملء العقول بالأوهام والأكاذيب، والعبث بالمجتمع بأن ينقلب الحق باطلا، والباطل حقاً، فتضيع الحقائق، وتفسد المجتمعات.
شهوة الكلام في مجتمعاتنا تقودها إلى التفكيك والخراب، فحقيقة الظواهر المدمرة التي تعصف بالمجتمعات العربية هي في جوهرها كلام،
ظاهرة الحوثيين في اليمن كلام من شخص تم تدريبه في إيران ولبنان ليكون نسخة بالكربون من سيد الكلام السيد حسن نصرالله؛ الذي صنع أكبر قوة في الدولة اللبنانية بالكلام، وكل ظاهرة الإخوان كلام
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق