Aug 26, 2020
ذهب وبورصات وأفيال في الحجرات
26 أغسطس 2020 م
يعكس ارتفاع سعر الذهب عبر التاريخ، توقعات عموم الناس بشأن التضخم وزيادة الأسعار، أما إذا كان الارتفاع شديداً، كما رأينا مؤخراً، فهذا يشير إلى أمر آخر أكثر خطورة، ألا وهو تردي الثقة بالعملات الدولية السائدة. إذ يلجأ الناس إلى الذهب، كما فعلوا من قبل في أزمنة الحروب، وتزايد مظاهر اللايقين والقلق من المستقبل وغموض احتمالاته. فالذهب ليس استثماراً جيداً في الظروف العادية التي تتوفر فيها بدائل الاستثمار في أصول وأوعية مالية وأنشطة اقتصادية مختلفة. فهو لا يمنح حامله عائداً كالسهم أو سعر فائدة كالوديعة أو السند. ولكنه يحقق لحامليه قيمة مكتنزة، إذا كان سعره غداً لن يقل عن سعره اليوم، ليحتفظ بقيمة المال في وقت التقلبات والأزمات.
ووفقاً لمجلس الذهب العالمي، فنصف الطلب المستمر على الذهب يأتي من استخداماته في صنع الحلي والمجوهرات، وتمثل الصين والهند نصف السوق العالمية. والرافد الثاني للطلب يقوده المستثمرون الذين زاد طلبهم على الذهب بمقدار 235 في المائة، خلال العقود الثلاثة الماضية. أما الرافد الثالث للطلب على الذهب، فقادته البنوك المركزية، خصوصاً المنتمية للأسواق الناشئة والاقتصادات النامية؛ حيث اشترت هذه البنوك 550 طناً في المتوسط سنوياً بعد الأزمة المالية العالمية. أما الرافد الرابع المتنامي منذ فترة هو استخدام الذهب في الصناعات الإلكترونية، ثم فتحت تكنولوجيا النانو آفاقاً لاستخدامات أوسع في الصناعات الهندسية المتقدمة ولاحتياجات الطب والطاقة المتجددة. لكن المحددات الأهم لسعر الذهب وتغيراته يدفعها الطلب عليه لأغراض المضاربة على سعره، في ظل عرض مقيد بحدود إمكانات استخراجه والتحكم في المعروض منه. أما التغيرات الحادة في سعره كالتي نشهدها اليوم، فتدفعها ظروف عدم الثقة واللايقين.
في الماضي القريب، تعرض سعر الذهب لموجات ارتفاع حادة إبان انخفاض التوقعات في قيمة الدولار، بسبب التضخم المدفوع بأسعار البترول في أواخر السبعينيات بعد الثورة على حكم الشاه في إيران، بما هدَّد استقرار الدولار كعملة دولية. وجاءت الموجة الثانية الكبيرة في أعقاب الأزمة المالية العالمية في عام 2008، وما صاحبها من تبعات سياسية واقتصادية التي وصلت ذروتها في عام 2011، بالخلاف في الكونغرس حول مستقبل الدين العام وسقفه، متزامناً ذلك مع الأزمة في نطاق اليورو التي هدَّدت استمرار الاتحاد الأوروبي. وفي هذه الأثناء ثارت تساؤلات حول مستقبل العملتين، الدولار واليورو، كعملتين دوليتين تشكلان حوالي 60 في المائة و20 في المائة تقريباً من الاحتياطي النقدي الدولي على الترتيب.
كان اللجوء للذهب مدفوعاً بأغراض التحوط والمضاربة، ففي الفترة التي شهدت فيها البورصات انخفاضاً بحوالي 57 في المائة من أكتوبر (تشرين الأول) 2007 حتى مارس (آذار) 2009، ارتفع سعره بحوالي 26 في المائة، وواصل ارتفاعه بعد تقلب في أسعاره حتى تجاوز سعره 1920 دولاراً، ثم بدأ في التراجع حتى وصل سعره إلى 1200 دولار، مع إعلان الفيدرالي الأميركي في عام 2013 نهاية سياسات التيسير النقدي.
وفي مطلع هذا العام، كان سعر أوقية الذهب 1520 دولاراً تقريباً، وبعد أزمة «كورونا» وتداعياتها تجاوز سعره 2000 دولار للأوقية الواحدة. حدث ذلك مع ما شهده الدولار من تراجع أمام العملات الرئيسية بسبب انكماش الاقتصاد الأميركي، والإخفاقات في التصدي لجائحة «كورونا»، واستمرار تصاعد التوترات الجيوسياسية، وشدة الاختلافات المحلية حول السياسات العامة، قبل أسابيع معدودة من الانتخابات الرئاسية.
وتتصاعد التساؤلات مجدداً حول مدى قيام الدولار بدوره كعملة دولية، ومستقبله كعملة احتياطي للبنوك المركزية حول العالم. وتُبرز تعليقات الدوريات المالية والاقتصادية تزايد تخلي بعض الدول في صادراتها عن الدولار في تسوية معاملاتها. فروسيا الاتحادية، على سبيل المثال، زادت نسبة متحصلاتها باليورو عن صادراتها إلى الاتحاد الأوروبي من 38 في المائة إلى 43 في المائة، خلال الستة أشهر الماضية، كما لجأت دول آسيوية لتسوية تجارتها البينية بعملاتها المحلية، مع تزايد استخدام اليوان الصيني في المعاملات الدولية، حيث أصبح خامس عملة في التداول، سابقاً الفرنك السويسري، وإن كانت نسبته لم تتجاوز بعد 2 في المائة من إجمالي التداول الدولي؛ ولكنها في تقديري مسألة وقت، كما اعتدنا في العقود الأخيرة بشأن نمط تطور الأداء الاقتصاد الصيني ومنافسته عالمياً.
ورغم ارتفاع سعر الذهب، فإنه لم يستطع الاحتفاظ بسعر 2000 دولار، كما تأرجح سعره بفعل المضاربة ودخول مستثمري التجزئة، وكثير من المغامرين، فبعد ارتفاع إلى 2080 انخفاض بمقدار 200 دولار، حتى وصل إلى 1880 دولاراً بين 6 أغسطس (آب) حتى 11 أغسطس، ووصل سعره اليوم وأنا أكتب هذا المقال إلى 1940 دولاراً بنسبة زيادة بلغت 28 في المائة منذ بداية العام، لعلك تقارنها بسعر فائدة يقترب من الصفر على الودائع الدولارية، ولكن الأمر لن يخلو مستقبلاً من موجات تصحيح في أسواق الذهب والبورصات أيضاً.
فبعد ارتفاع قياسي العام الماضي في البورصات العالمية بلغ 29 في المائة، تعرضت البورصات لانخفاض شديد، وتقلب في أسعارها، بعد اندلاع أزمة «كورونا» استمر لأسابيع، ثم اتخذت اتجاهاً صعودياً عوضت به خسائرها. تتكاثر التبريرات حول صعود البورصات، رغم الأزمات الصحية والاقتصادية الراهنة. كذكرهم أن المتعاملين في البورصات يتطلعون للمستقبل على مدى 12 إلى 18 شهراً، وليس الأوضاع الراهنة التعيسة للاقتصاد؛ وأن البورصات مدفوعة بشركات التكنولوجيا الكبيرة، «أمازون» و«أبل» و«مايكروسوفت» التي ارتفعت أسهمها بنسب 80 في المائة و60 في المائة و35 في المائة على الترتيب؛ وأن هناك من يراهن على وجود عقار ناجع لـ«كورونا» في وقت قريب؛ وأن الأموال السائلة التي ضختها البنوك المركزية لم تجد لها وعاءً أفضل من الأسهم؛ وأن مزيداً من هذه الأموال السائلة في الطريق بما يزيد من الطلب على الأسهم. فبمثل هذه التفسيرات يبرر البعض ازدهار البورصة، رغم ركود في الاقتصاد يقترب به من حافة الكساد!
بعدم رؤية أفيال من التداعيات الكبرى للأزمات الراهنة، وتأثيرها على حياة الناس، ومعيشتهم، مع ارتفاع أرقام البطالة والفقر والديون.
هذه التحديات الكبرى لن يحتويها زيادة الذهب لمعاناً وسعراً، أو ارتفاع سعر صرف عملة مقابل أخرى، أو أن تحطم البورصات المالية أرقاماً غير مسبوقة؛ بل يسهم في التصدي لها سياسات محكمة الأولويات، تتصدى للأزمات الطارئة من دون إهدار لقواعد التعافي المستدام فتحقق نمواً في الاقتصاد يخفض من البطالة والفقر، ويتجه بها إلى تمويل التنمية، حيث يجب أن يكون مستثمراً في قطاعات الصحة والتعليم والمرافق الأساسية، بما في ذلك ممكنات التحول الرقمي والتنافسية في عالم شديد التغير.
***
عن خرافة السفينة الواحدة
أكتوبر 2020
شاع في بدايات أزمة «كورونا» أن الجائحة قد ساوت بين الناس في تعرّضهم لمخاطرها، وأن موبقاتها التي اجتاحت العالم لم تفرّق بين أغنى الدول وأفقرها، فعطلت الحياة في أكثر المدن ثراءً وأشد القرى فقراً. وانتشرت مقولة بأن الإعصار قد طال ركاب سفينة العالم من دون تمييز، وعلى الرغم مما في هذه المقولة من تهافت لتجاهلها حقائق التفاوت بين الناس من حيث الدخول والثروات والفرص والإمكانيات، فإنها انتشرت انتشار الوباء نفسه.
استفاد من حزم الإنقاذ الممولة من دافعي الضرائب أو بديون تحملها عموم الناس، مؤسساتٌ مالية وشركات كان بعضها شريكاً في صنع الأزمة بين جشع وتلاعب، فاختصمت من موازنات الدول مخصصات كان الأولى بها أن توجَّه إلى التعليم والرعاية الصحية ونظم الضمان الاجتماعي ومشروعات البنية الأساسية.
أزمة الجائحة قد جاءت على عالم يعاني من هشاشة في اقتصاده، وأزمة ثقة سياسية بين أطرافه، وتوتر جيوسياسي وصراعات وحروب شهدها بعض أقاليمه من خلال حروب الوكالة وبتأجيج الفتن العنصرية والطائفية. كما تجاهل بعض قادة هذا العالم الأخطار المهددة لبقائه بتدهور مقومات المناخ والبيئة، غاضّين الطرف عن شواهد وأدلة علمية عن أثر هذا كله على الحياة بشح المياه ونقصان الغذاء، ومدى صمود المدن الساحلية خصوصاً في الدول النامية بارتفاع مستويات البحار والمحيطات، ناهيك باندثار جزر بأكملها.
يبدو أن مروّجي مقولة السفينة الواحدة تناسوا أن 26 شخصاً فقط يستحوذون على نصف ثروات سكان العالم، وأن أكثر من ثلثي سكان العالم يعيشون في اقتصادات تزايدت فيها مؤشرات عدم العدالة في توزيع الدخل، وأن المؤشرات متعددة الأبعاد للفقر وفرص التنمية ازدادت سوءاً عند الأخذ في الاعتبار عناصر الجنس واللون والنوع الاجتماعي والأصول الاجتماعية والانتماء العرقي. وفي حين يجدر النظر إيجابياً إلى ما يمكن أن تُحدثه تكنولوجيا المعلومات من وثبات نوعية في حياة البشر من حيث التعلم واكتساب المهارات والمنافسة في الأسواق، فإن غياب خدمات الإنترنت عن 40% من البشر، والافتقار إلى النوعية فائقة السرعة عن نسبة أكبر، ينذر بتكريس وجه جديد من عدم العدالة بالحرمان من اكتساب المعارف وخدمات الشمول المالي والتجارة الإلكترونية والعمل.
أصحاب شعار السفينة الواحدة وهم يرون الناس في أمواج هائجة لعاصفة الجائحة فحسبوا أنْ لا فرق هناك بين ركاب سفن متينة الأركان، وأصحاب يخوت فاخرة سريعة المراوغة، وجموع من عموم الناس تتكدس في مراكب تميد بهم، وآخرين يتعلقون بحطام خشية الغرق.
*
24 مارس 2021
عن تغير المناخ وجمود السياسات
إن جذور المشكلة تكمن في فشلين: الأول فشل الأسواق في التسعير المناسب لمواردنا الطبيعية والانحياز للاستثمار في رأس المال المادي على حساب الاستثمار الواجب في الحفاظ على رأس المال الطبيعي المرتبط بالبيئة، والثاني في فشل مؤسسات الدولة في الرقابة والإدارة والإنفاق المنفلت المحفز لتدمير البيئة، الذي يتراوح بين 4 تريليونات دولار و6 تريليونات دولار سنوياً.
والحل الرئيسي وفقاً لتقرير داسجوبتا المهم يكمن في تعديل نهج قياس إنجازات التنمية الاقتصادية في جميع البلدان، ليدمج في حساب الثروة جميع الأصول؛ وأولها الأصول الطبيعية، فضلاً عن الأصول المادية والمالية للمجتمع. وهذا يتطلب نظاماً جديداً للحسابات القومية للدخل والناتج، كما يستلزم تغييراً في السياسات المالية والاجتماعية والاقتصادية والمؤسسات القائمة عليها.
ويحدد التقرير مجالات الاستثمار الخاص والعام؛ فالاستثمار المستدام هو مظلة عامة في تطوير الأصول وفقاً لاعتبارات مالية كالربح تشترك مع اعتبارات التأثير الإيجابي الشامل، الاستثمار الأخضر هو مكون من الاستثمارات المستدامة تتركز في الطبيعة مثل السندات والصكوك الخضراء وصناديق الاستثمار في التنوع البيئي. ويضاف إلى هذه الاستثمارات بعد مهمل وهو الاستثمار المباشر في رأس المال الطبيعي في حماية وصيانة رأس المال الطبيعي مثل مصادر المياه والغابات والشواطئ. إذا نجح هذا النهج فسيحقق اعتدالاً في الطلب على الموارد البيئية والطبيعية بما يتناسب مع ميزان قدراتها على الوفاء بها، ويبلغ بنا شاطئ الاستدامة.
ويحدد التقرير مجالات الاستثمار الخاص والعام؛ فالاستثمار المستدام هو مظلة عامة في تطوير الأصول وفقاً لاعتبارات مالية كالربح تشترك مع اعتبارات التأثير الإيجابي الشامل، الاستثمار الأخضر هو مكون من الاستثمارات المستدامة تتركز في الطبيعة مثل السندات والصكوك الخضراء وصناديق الاستثمار في التنوع البيئي. ويضاف إلى هذه الاستثمارات بعد مهمل وهو الاستثمار المباشر في رأس المال الطبيعي في حماية وصيانة رأس المال الطبيعي مثل مصادر المياه والغابات والشواطئ. إذا نجح هذا النهج فسيحقق اعتدالاً في الطلب على الموارد البيئية والطبيعية بما يتناسب مع ميزان قدراتها على الوفاء بها، ويبلغ بنا شاطئ الاستدامة.
ففي إطار حماسنا الواجب والمشروع للتصدي لتغيرات المناخ، لا ينبغي أن ننسى أن هذا هدف واحد فقط من أهداف التنمية المستدامة السبعة عشر، التي أقرها قادة الدول في قمة خاصة بالأمم المتحدة في سبتمبر (أيلول) 2015. وأنه لا مجال لتحقيق الاستدامة المنشودة مع إهدار تحقيق الهدف الأول للتنمية المستدامة وهو القضاء على الفقر، خصوصاً بعدما زادت أعداد من يعانون من الفقر المدقع لأول مرة منذ عام 1998 بما يزيد على 100 مليون إنسان بسبب الجائحة. هل يمكننا إهمال السعي لتحقيق العدالة في الدخول وفرص المساواة، وهو الهدف العاشر، خصوصاً بعد زيادة حدة التفاوت منذ الثمانينات وارتفاع حدة الاحتقان المجتمعي والتوتر السياسي بسببها؟
قد علمتنا التجربة العالمية المريرة مع وباء كورونا أثر تدهور الرعاية الصحية على النحو المنصوص عليه في الهدف الثالث من أهداف التنمية، فهل لم نعِ من هذا الدرس شيئاً؟ وماذا عمن أصابهم فقر التعلم من جراء الجائحة وأضيفوا إلى إخوة لهم يعانون أصلاً من تراجع الأداء بشكل عام في تحقيق نوعية راقية من التعليم، وهو ما يذهب إليه الهدف الرابع من أهداف التنمية المستدامة؟
إن نبل مقاصد حماية المناخ والبيئة للأسباب التي أوردناها يحتم وضعها قيد التنفيذ في إطارها الصحيح الذي يتمتع بتطلعات عموم الناس وبمساندة سياسية؛ وهو النهج الشامل لأجندة 2030، التي تتناول بشكل متكامل ومترابط تحقيق التنمية البشرية والنمو الاقتصادي الشامل للكافة في إطار من الحوكمة والمشاركة الدولية في تحقيقها. لا يحتمل التنفيذ الفعال لهذا الإطار المتكامل انتقائية أو اجتزاءً.
إن نبل مقاصد حماية المناخ والبيئة للأسباب التي أوردناها يحتم وضعها قيد التنفيذ في إطارها الصحيح الذي يتمتع بتطلعات عموم الناس وبمساندة سياسية؛ وهو النهج الشامل لأجندة 2030، التي تتناول بشكل متكامل ومترابط تحقيق التنمية البشرية والنمو الاقتصادي الشامل للكافة في إطار من الحوكمة والمشاركة الدولية في تحقيقها. لا يحتمل التنفيذ الفعال لهذا الإطار المتكامل انتقائية أو اجتزاءً.
*
10 مارس 2021
عن عودة التضخم وفخ الوسط
Apr 7, 2021
الانفراج بين أزمة جيدة وأزمة تعيسة
أن الأزمة نعمة ونقمة في آن واحد»، فتتعجب، ما بال أقوام لا يصيبهم من الأزمات إلا نقماتها، وأين تذهب هذه النعم؟
قال «إياك أن تضيع أزمة جيدة». وأصول الحكمة التشرشلية، شائعة الاستخدام في يومنا هذا، ترجع لأستاذ مدرسة انتهاز الفرص، السياسي الإيطالي الأشهر نيكولو ميكافيلي صاحب كتاب «الأمير» الصادر في عام 1532، حيث أوضح ما قد تجود به الأزمات الجيدة من فرص. وتجد عموم الناس أمام الأزمات في قلق وارتياب، وترى الساسة وصناع القرار حيال الأزمات بين منكر ومؤكد، ومستسلم ومصارع، ومدمر ومنقذ.
لكاتب والروائي الأميركي تشارلز هاريسون تحت عنوان «شكراً لله لإصابتي بأزمة قلبية». وطفقا يعددان الدروس والخبرات التي جاءت في الكتاب التي كان ينشد بها الكاتب إعلام قرائه بنظام حياة أكثر انضباطاً في مراعاة الإرشادات الصحية والغذائية،
، بيّنت فيها «خرافة السفينة الواحدة». ولنتحقق من تفاوت حدة أزمات هذه العاصفة من حيث وقعها وآثارها،
مجالات عدة لتفاقم حدة التفاوت وعدم العدالة، ولكن أخطرها في المرحلة الراهنة تفاوتات ثلاثة على النحو التالي:
التفاوت الأول: عدم العدالة في توفير اللقاح. رغم انتشار مقولات يرددها بعض قادة الدول الأعلى دخلاً على وزن «لا أحد بمأمن من خطر الجائحة إلا إذا أصبح الجميع آمناً منها»، تجد عدداً من هذه الدول وقد سيطر على اللقاحات إنتاجاً وتوزيعاً.
التفاوت الثاني: تباين النمو والتعافي الاقتصادي. أصاب العالم ركود بانكماش اقتصاده بنحو 3.5 في المائة في عام 2020. وهناك توقع، متعلق بافتراضات عن مدى السيطرة على الوباء واستمرار ضخ تمويل حزم التيسير والمساندة، بأن يصل معدل النمو الاقتصادي العالمي لنحو 6 في المائة في هذا العام. أي أن ما خسره العالم في العام الماضي سيعوضه ويزيد عليه في العام الحالي. لكن هذه متوسطات تحجب أكثر مما تظهر. ففي حين يتوقع أن يصل الاقتصاد الأميركي والاقتصاد الصيني للرقم المذكور، فدول أوروبا لن تجاري القطبين في هذا السباق، كما أن منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، التي تضم أكثر الدول العربية، تشير توقعات البنك الدولي الصادرة أخيراً إلى نموه بمقدار 2.2 في المائة وهو معدل أقل بكثير من المتوسط العالمي للنمو، كما أنه أقل من أن يعوض الانكماش الذي سببه عام الجائحة؛ إذ بلغ معدل النمو فيه سالب 3.8 في المائة. بطبيعة الحال هناك استثناءات أكثر إيجابية وسلبية أيضاً.
سيشهد العالم بذلك أداءً شديد التباين يعمق عدم العدالة في الدخول بين الدول وداخلها أيضاً، حيث لن تسترد قطاعات كثيفة العمالة كالسياحة والخدمات وبعض الصناعات معدلات إنتاجيتها السابقة على الأزمة. في هذه الأثناء تضخ الدول، ذات القدرة على الإنفاق العام والاقتراض بتكاليف منخفضة بعملاتها الوطنية، أموالاً ضخمة كما هو الحال في الولايات المتحدة التي ضخت 1.9 تريليون دولار ستتبعها بتريليونين آخرين على الأقل في مشروعات البنية الأساسية والصحة والتعليم والخدمات العامة، وكذلك تفعل أوروبا واليابان وكوريا وغيرها من دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، كلٌ وفقاً لقدرته بما يحقق الاستمرار في التعافي وزيادة التنافسية الدولية وتوفير فرص العمل. مثل هذا الإنفاق العام السخي لا يتوفر للدول العربية إلا قليلاً بما يحتم تحفيز القطاع الخاص على المشاركة مع أهمية الاستمرار في استثمارات عامة تعمل كالرافعة على أن تكون موجهة للقطاعات والمشروعات ذات الأولوية التي توفر فرص العمل وتزيد الإنتاجية. وتظهر في هذه المرحلة أهمية الاستثمارات في التحول الرقمي وبنيته الأساسية، والمشروعات ذات التوجه التصديري، ومجالات الاستثمارات المستدامة فيما يعرف بالاقتصاد الأخضر، وكذلك في تطوير رأس المال البشري تعليماً ومهارة ورعاية صحية.
التفاوت الثالث: التمويل بتكلفة صفرية للأغنى والتمويل بصفر للأفقر. ستظل عملية تمويل التنمية وتوطينها تحدياً في ظل الجائحة والأوضاع الاقتصادية المتباينة في الدول النامية. ففي حين تستطيع دول متقدمة الاقتراض بتكلفة تقترب من الصفر في أسواق المال، فلا سبيل للأفقر في هذه الأسواق. أما الدول الواقعة في فخ الوسط فيمكنها الاقتراض، ولكن بتكاليف باهظة تزيد من مديونياتها، التي كانت آخذة في الازدياد أصلاً قبل اندلاع أزمة الجائحة، وهي لا تستفيد من التيسيرات الأخيرة التي قدمتها مجموعة العشرين، كتأجيل أقساط الديون أو آليات لإعادة هيكلتها في ظل غياب لهيكل متكامل لبناء متكامل لإدارة الديون السيادية، هذا فضلاً عن مديونيات الشركات المتزايدة أيضاً. ويحتاج منع تحول هذه الموجة للديون لأزمة شاملة إلى تعاون دولي يتجاوز الحلول الجزئية والمسكنات الوقتية قبل استفحالها، وعندئذ سيُذكر أن أعباء العلاج الباهظة سببها تهاون في الوقاية الواجبة، وأن بمثل هذا تأتي الأزمات.
مفاتيح اقتصاد ما بعد «كورونا» ومغالقه
May 19, 2021
May 19, 2021
عالم تفقد فيه الأرقام معناها يصعب اتخاذ قرار لحماية عموم الناس وتتغلب الخرافة والشائعات على العلم والحقائق. وقطعاً للشك بيقين المشاهدة لأثر اللقاح، فما من سبيل إلا التوسع العاجل في إتاحة اللقاح.
قد ضاع من العالم ستة أشهر حاسمة في جدل ومهاترات حول مدى ضرورة إعفاء اللقاح من قيود حقوق الملكية الفكرية التي تقدمت الهند وجنوب أفريقيا، مدعومتين بعشرات من الدول النامية، بطلب في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي لمنظمة التجارة العالمية لإعفاء مؤقت منها، وهو ما رفضته دول متقدمة قادتها الإدارة الأميركية السابقة. وقد تطلب تفهم هذا الطلب البديهي تغيراً في الرئاسة الأميركية وسقوطاً لعشرات الملايين من البشر بين قتيل بالفيروس ومريض به، حتى يتم الإعلان عن عدم الممانعة في منح الإعفاء المؤقت وفقاً لضوابط تسمح بإنتاج اللقاح وإتاحته في الدول النامية.
*
Jun 16, 2021
Aug 25, 2021
أوهام القوة وحقائق الوهن
Dec 1, 2021
عندما تفقد النقود قيمتها
يحاول الاقتصاد العالمي تعويض ما خسره بانكماشه في العام السابق بسبب نشوب الجائحة تأبى الأيام الباقية من هذه السنة إلا وتتحداه بالمتحور الجديد – «أوميكرون» - ليزيد من حالة اللايقين التي تشهدها الأسواق، ثم تأتي زيادات متوالية للأسعار كضربات موجعة في وجه محاولات التعافي. فقد تعرضت الاقتصادات المتقدمة لزيادات في معدلات التضخم لم تشهدها منذ أربعين سنة. وكانت أعلى معدلات الزيادة من نصيب الولايات المتحدة
فقد أدرك أخيراً القائمون على رأس البنك المصدر لأكبر عملة دولية في التداول، أن التضخم هذه المرة ليس مؤقتاً عابراً بسرعة كما كانوا يقدرون ويتمنون. فالتضخم سيكون أكثر استمراراً بفعل عوامل تراجع عرض المنتجات لارتباك سلاسل الإمداد وزيادة تكلفة النقل والشحن، مع زيادة في الطلب المتأجج مدفوعاً بما ضخ به من سيولة على مدار عامي الجائحة في الدول المتقدمة.
رفع لسعر الفائدة بعدما تقوم بسحب لإجراءات التيسير النقدي وبرامج شراء الأصول المالية التي تقدر بنحو 120 مليار دولار شهرياً، بسرعة أكبر مما كانت تخطط له.
من المتعارف عليه، أن إبقاء معدلات التضخم في حدود منخفضة، كانت تبلغ في حالة الدول المتقدمة متوسط 2 في المائة سنوياً، من ضمانات الاستقرار الاقتصادي، ومن المتفهم أن تكون هذه المتوسطات أعلى من ذلك في الدول النامية لمشكلات هيكلية ومؤسسية في اقتصاداتها على ألا تتجاوز آحاد الأرقام. ومما اتفق عليه الاقتصاديون ورجال السياسة، أن هدف استقرار الأسعار هو من أولويات السياسات العامة. فرغم الاختلاف الشاسع في الرؤى بين الاقتصادي الإنجليزي الأشهر جون ماينارد كينز والثوري الروسي الماركسي فلاديمير لينين، تجد كينز موافقاً للينين في رأيه بأن أفضل طريقة لتدمير النظام الاقتصادي لدولة هو باستنزاف قيمة عملتها.
قد مرت دول بحالات غلاء شديد جعلت عملاتها بلا قيمة تعادل تكلفة حملها؛ فاستحالت الحياة باستقرار مع هذا الغلاء الذي جعل من عملات البنكنوت وقوداً لأفران تدفئة المنازل كما حدث بألمانيا في العشرينات من القرن الماضي بارتفاع التضخم إلى 500 في المائة في الشهر الواحد، بما كان من ممهدات صعود الحركة النازية بنهايتها المعروفة مروراً بالحرب العالمية الثانية. ومن حالات الغلاء الشديد ما تعرضت له زيمبابوي في عام 2008 وفنزويلا منذ خمسة أعوام.
كما تعد معدلات التضخم المرتفعة من أكثر أنواع الضرائب سوءاً وقسوة وإضراراً بالحقوق. فسوؤها يرجع لأنها تفرض من دون تشريع، فهي ضريبة بلا نص في القانون يحدد وعاءها أو مناسبة فرضها. أما قسوتها، فترجع لعدم عدالتها بعدم تفرقتها بين موسر أو فقير. أما إضرارها بالحقوق فلإخلالها بالعقود إذا ما ثبتت قيمة العقود عند مبلغ محدد بلا تغيير مع مرور الزمن، أو كان الاتفاق على تغييرها عند معدل أقل من معدل التضخم. ولتنظر ماذا حل بعقود إيجار ثبتت عند أسقف لم تتجاوزها رغم ارتفاع التضخم انتقاصاً من قيمة النقود وأثر ذلك على حقوق الملاك وصيانة الثروة العقارية، ولتنظر أيضاً إلى أصحاب رواتب وأجور ومعاشات ثابتة لم تتغير بما يتناسب مع غلاء الأسعار، ولتراجع الأوضاع المالية لمودعين لا يتناسب العائد على ودائعهم مع ارتفاع التضخم. ولما كان علاج مثل هذه الاختلالات مكلفاً فالأولى احتواء الضرر قبل وقوعه بالسيطرة على التضخم ابتداءً، مع تحقيق زيادات منضبطة تتوافق مع آليات السوق وتغيراتها واعتبارات العدالة والضمان الاجتماعي. ولهذه الشواهد التاريخية والمعاصرة لفقدان النقود لقيمتها مع حالات الغلاء الشديد وتداعياتها السياسية والاجتماعية والأمنية، لا تنتظر البنوك المركزية الحصيفة حتى تتحول زيادات الأسعار إلى موجات تضخمية، أو تزيدها هياجاً بمزيد من إصدار نقدي لا تقابله زيادة في الناتج. وفي ظل هذه التطورات القائمة والمتوقعة هناك أربع أولويات:
تزامن ذلك مع ارتفاع في سعر الدولار أمام العملات الأجنبية كرد فعل لبدء التحول في السياسة النقدية الأميركية نحو التقييد الائتماني ورفع سعر الفائدة.
فالتضخم الراهن يأتي مع عدم اكتمال تعافي الاقتصاد، وإذا كان يصلح لأميركا ودول أخرى متقدمة أن تركز على إجراءات السياسة النقدية، فإن علاج التضخم ومنعه من التحول إلى غلاء في البلدان النامية أكثر تعقيداً. فمع ضرورة التنسيق بين السياسات النقدية والمالية ودعم نظم الضمان الاجتماعي، يلزم الأمر زيادة في الاستثمارات عامة وخاصة وأجنبية لتحقيق زيادة في الناتج والإنتاجية معاً. وتشمل هذه، الاستثمارات في تطوير وصيانة البنية الأساسية، ومراجعة المشروعات الإنتاجية والطاقات المعطلة، والتركيز على المشروعات ذات القيمة المضافة والبحث والابتكار والتطوير، بما في ذلك مجالات التحول الرقمي والاقتصاد الأخضر وتلك المولدة لفرص العمل وتفعيل نظم المشاركة بين القطاع الحكومي والقطاع الخاص بما يحقق النفع لعموم الناس.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق