د. نصر محمد عارف
تخرج الفكرة من عالِم أو فريق من العلماء والباحثين، سواء كانوا متخصصين في العلوم الطبيعية مثل الطب، أو العلوم الاجتماعية مثل الاقتصاد والسياسة، أو الإنسانيات مثل الأدب والفلسفة والفنون.. تخرج الفكرة الجديدة من واحد من هؤلاء، فتلتقطها الصحافة والإعلام المرئي والمسموع، وتتناولها بالتحليل والنقاش والتمحيص والنقد لفترة من الزمن تحقق المعرفة المجتمعية بها، حيث عادة تتناول هذه الموضوعات البرامج الحوارية في المحطات الجادة، وقد يمتد هذا الحوار حول فكرة واحدة من أسابيع إلى شهور، بحيث يعيش المجتمع كله هذه الحالة من الحوار الجاد، فإذا ما استقرت الفكرة دخلت إلى حلقة السياسة، وأصبحت من القضايا التي يتم تبنيها سياسيا من أحد الفاعلين السياسيين، ثم تتحول إلى سياسة عامة Public Policy في مجالها، أو إلى مشروع عملي، أي تنزل إلى الواقع التطبيقي في المجتمع.
فواحد ينتج الأفكار، والثاني يصنعها ويغلفها ويسوقها، والثالث يطبقها في أرض الواقع ويحقق الفائدة منها، ولا يستطيع المجتمع الاستغناء عن أي منهم، ولا يستطيع أي منهم أن يقوم بدور أخيه لأن لكل دور طبيعة ومتطلبات لا تتوفر في الآخر.
في عالمنا العربي نجد تداخلاً وتصارعاً وتبادلاً للأدوار من أشخاص معظمهم ليسوا مؤهلين لأداء أي من هذه الأدوار الثلاثة، فقط يجد كل منهم نفسه في وظيفة تتعلق بدور لا يملك مؤهلاته.
المأساة الكبرى أن الصنف الأول، وهو العالِم، معرض للانقراض،
الجيل الثالث الموجودة غالبيته على الساحة اليوم، فلا يعرف معنى العلم، ولا منهجه ولا أخلاقياته، العلم بالنسبة لهذا الجيل مصدر رزق، إلا من رحم ربي طبعا، العلم بالنسبة لهم وظيفة لأكل العيش، ومن هنا أصبحنا نعيش مع طرفين من المعادلة هما الصحافي والسياسي.
الصحافي استطاع أن يحل محل العالِم، أو انقلب العالِم إلى صحافي، فعدد أساتذة الجامعات الذين تحولوا إلى مذيعين ومذيعات كبير، ما يشير إلى أن العمل كمذيع أو مقدم برنامج هو أرقى وأفضل من العمل أستاذاً في الجامعة.
فوضى ما سمي "الربيع العربي"، ولعبت وسائل الإعلام الدور الأساسي في ظل غياب الدول ومؤسساتها أو على الأقل تراجعها.
تراجع شديد في الوعي الجمعي، وارتباك أشد في حركة الجماهير قادها إلى التشتت والتشرذم، وفتح الباب واسعا أمام انتشار الشائعات والأخبار الكاذبة، ونفاذيتها وقوة تأثيرها واستمراريتها، ما أفقد جهود الدول والمؤسسات فاعليتها وأضعف تأثير خططها التنموية ومشروعاتها الكبرى.
*
التنمية
التنمية هما: الشمول والعدالة، فالشمول ينصرف إلى قدرة السياسات التنموية على استيعاب جميع القطاعات الاقتصادية، بحيث لا تكون تنمية مشوهة، أو مبتورة الأطراف، أو مشلولة، إذ يحدث ذلك عندما تركز التنمية على بعض القطاعات الاقتصادية وتتجاهل قطاعات أخرى، كأن تكون تنمية صناعية غير مصحوبة بتنمية زراعية، وقد تكون مركزة على التجارة والخدمات والسياحة دون وجود بنية صناعية قوية، ما يجعل الدول خاضعة للتقلبات العالمية.
العدالة بين طبقات المجتمع، والعدالة بين أقاليم الدولة.. أما العدالة بين طبقات المجتمع فتحددها البنية القانونية للملكية، وسياسات الأجور، والضرائب، والخدمات العامة، والمسؤولية الاجتماعية لرأس المال، والسياسات الاجتماعية للدولة مثل دعم التعليم والصحة والتأمين الاجتماعي للفقراء، وأما العدالة بين أقاليم الدولة، فتتحقق عندما يتم توزيع مشروعات التنمية على مختلف الأقاليم بصورة تحقق الاستخدام الأمثل والعادل لموارد كل إقليم، وتحقق التشغيل وخلق فرص العمل للسكان في كل إقليم، ولا تقود إلى الهجرات الداخلية، وعمليات النزوح القسري تحت ضغط البحث عن فرص العمل من منطقة إلى أخرى، ومن الريف إلى المدينة، ما يُحدث تشوهاً اجتماعيا وخللاً عُمرانيا يقود إلى ظهور أحزمة الفقر المحيطة بالمدن الكبرى، وخلق العشوائيات التي تُجهض أي جهد تنموي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق