الأحد، 19 ديسمبر 2021

الإسلام بين الرّؤية الوثــنيّة واليقين

Oct 3, 2019

(2): نسبـيّة الوحي / صلصلة الجرس

 مفهوم المُطَلق تبعا للمرجعية الفلسفية، أو مفهوم الله تبعا للموروث الديني في مراحله الناضجة، فنحن نتحدث هنا عن الكمال المطلق، الذي لا يساوره أية نسبية أو خطأ أو تغيير. وهذا ما يتفق حوله أهل الفلسفة وأهل الدين، ضمن أطر صارمة لا تقبل الجدل وليس فيها أي هامش للسّفسطة؛ وذلك بأن الله هو الحقيقة النهائية المطلقة، وهو الكامل الذي لا ينازعه في صفة الكمال أحد من الكائنات أو الموجودات. وبذلك، يُوصَد باب التأويل والاجتهاد، حول مفاهيم غير قابلة أصلا للجدل،

ندما كان الإنسان قد بدأ يتلمس الطريق إلى الله عبر الخرافات والأساطير وتعدد الآلهة. وبذلك كان هناك مُرتكَز مشترك، لكي تنبثق المفاهيم وترسخ العقائد، حتى ولو نشأت الفروع وتشعبت، ما بين الفلسفة واللاهوت فيما بعد، ولكن بقي الكمال والإطلاق للمُطلَق، أو لله وحده. وكل من أنكر أو تشكك في تلك القاعدة، كان تبعا للفلسفة مُتعدٍّ على المنطق. وكان تبعا للدّين مُشرِك، أو كافر، بما في ذلك كل من يدَّعي أو يظن أن فهمه لماهية وفحوى الدين، هو فهم كامل وغير خاضع للنسبية أو التغيير. وبما أن صفة الكمال المطلق هي حصرية لله، حيث لا يشاركه فيها أي من الكائنات أو الموجودات أو أي مما هو مُتعيّن أو مُدرَك أو محسوس، يمكننا هنا وبضمير نقي، تأويل ذلك على أن الكمال بمعناه المُطلق، لا يمكن أن ينطوي على الأنبياء والرسل، ولا حتى على الكتب المُقدسة.

ولكن في أي مأزق نحن، وإلى أي منحى ننحو؟ ما دمنا قد أقررنا سلفا، بأن الله هو الكامل المُطلق، فكيف يمكن للكتب السماوية - وهي كلام الله - أن تكون خاضعة للنسبية ومفتقدة للكمال؟

التأمل بمعنى ممارسة تقنيات الصمت هو نوع من الصلاة، لا بل ركن أساسي من العبادة في الكثير من الديانات الروحية الشرقية القديمة

 مفهوم القداسة في الإسلام. وبلا أدنى شك، فنحن نتحدث هنا عن ظاهرة الوحي.
كيف كان النبي يتلقى الوحي الإلهي؟ بمعنى هل كان النبي طرفا مُنفعِلا بالمطلق أثناء تلقي الوحي؟ ومن ثم، هل كان الوحي دائما مجرد تلقين كلامي بالمعنى الحرفي اليسير؟ وهل كان النبي قادرا فعلا على أن يعي كل ما ورده من الله بسهولة ويسر، وبطريقة لا تقبل التأويل أو الاجتهاد من النبي نفسه؟

لا شك بأن الجواب غالبا هو النفي القاطع؛ ذلك أنه ثمة أحاديث نبوية هي من الأحاديث الجوهرية في الإسلام، والتي تخبرنا، بأن الوحي كان يرد على النبي "أحيانا" على شكل رسائل كونية أو أصوات مُبهمة، كحديث عائشة زوجة الرسول، والتي تنقل لنا على لسان الرسول، بأن الوحي كان يأتيه أحيانا مثل صلصلة الجرس، وفي أحيان أخرى، على هيئة رجل يكلمه.[1] وفي حديث آخر، كان الوحي يأتيه مثل صوت الصلاصل، وذلك عندما سُئل النبي إن كان يُحِسّ بالوحي، فأجاب: نعم، أسمع صلاصل.[2] ونفهم من هذا الحديث النبوي الأخير، بأن النبي لم يكن يسمع كلاما مقترنا بصلاصل، وإنما صلاصل فحسب. وكذلك في الحديث الأول المنسوب إلى عائشة، فإن الوحي كان يأتيه أحيانا في مثل صلصلة الجرس، دون الإشارة إلى أي خطاب أو كلام مترافق مع تلك الصلصلة، وأحيانا أخرى كان يتمثل له الملك رجلا، فيكلمه، ولكن دون الإشارة إلى سماع صلاصل أثناء ذلك.

آيات مُحكمات وآيات متشابهات في القرآن، يعود إلى وجود طريقتين على الأقل لتلقي الوحي، وهما مختلفتان في آليتهما ووضوحهما: {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} (آل عمران7) وهنا لا بد من الإشارة إلى أن هناك افتراضات عديدة لطرائق هبوط الوحي، وصلت في بعض المصادر إلى سبع[3] بما في ذلك الإلهام والرؤيا الصادقة. وفي مصادر أخرى، بلغ عددها ما يفوق ذلك بكثير. وعلى أية حال، فإن ما سيتمحور حوله اهتمامنا في هذا البحث، هو الوحي عبر سماع صلصلة الجرس، لكونه مُسنَدا بالأحاديث الواضحة التي يمكن اعتبارها سندا قويا للبناء عليه، من دون محاولة تحميلها ما لا تحتمل. وكذلك لأنّ هذا الضرْب من الوحي يستحق الكثير من التمحيص والاهتمام، بسبب انبثاقه من جذر واحد، يجمعه مع الثقافة الروحية الكونية في العالم أجمع.

وفي الحقيقة، إنّ ظاهرة سماع الأصوات المُبهمة، وكتأكيد على قداسة هذه التجربة الروحية الفريدة وسموها. هي ظاهرة كان قد عايشها أيضا، العديد من المستنيرين في ثقافات روحية غير سماوية، ممن يمكن تسميتهم بنخبة البشر،
الرسول، حسب فهمنا، حيث كان يتحنث في غار حراء قبل أن يأتيه الوحي، لليالٍ ذوات العدد.[6] إلى أن انصهرت روحه النقية المتأمِّلة في روح الكون وجوهره.

التأمل بمعنى (ممارسة تقنيات الصمت)[7] هو نوع من الصلاة، لا بل ركن أساسي من العبادة في الكثير من الديانات الروحية الشرقية القديمة

فريد الدين العطار. وذلك عبر كَشف ذوقي، أو حالة إلهية مُباركة هي مافوق الوعي

إنّ مهمة الرسول، الذي ينقل إشارات الغيب هي أشبه بمهمة المُترجم الصادق الأمين، الذي يترجم من لغة إلى لغة، ويُتقن بنفس الوقت كلا اللغتين

 المستوى الثاني: وهو مرحلة العبور بتلك الصلاصل من أعماق روح النبي إلى سطح إدراكه، لمعالجتها وتحويلها إلى صور أو تصورات في خياله ووعيه. أو إلى أفكار ومفاهيم محددة؛ كالتشريعات والأحكام والقيود وما إلى ذلك. وهنا نكون قد ولجنا في مرحلة تحويل ما هو إلهي مطلق، إلى ما هو بشري نسبي، أو مرحلة سكب الخامة المطلقة في قالب الوعي البشري.

 المستوى الثالث: وهو مرحلة صياغة تلك الصور والأفكار والمفاهيم في قالب لغوي ملائم، قوامه اللغة العربية، وسِعته أو حدوده، هم من سِعة أفهام الناس قي تلك البيئة وفي ذلك الزمن، وحيث لا تتجاوز حدود إدراكهم، أو تتصادم بشدة مع مفاهيمهم المسبقة.

تتطلب من النبي جهدا عظيما ومسؤولية كبرى، لتلقف إشارات الوحي وتعقلها، ونقلها إلى لغة بشرية قابلة للفهم والنقل، بتؤدة وصبر {لَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَىٰ إِلَيْكَ وَحْيُهُ} (طه 114) - {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} (القيامة 16)

 لو افترضنا مثلا، أن كلا اللغتين هما من لغات البشر، التي هي أقل إبهاما على أية حال من لغة المطلق (وذلك بهدف المُقاربة فحسب، وليس للحط من مقام لغة الوحي بغية التشويش والخلط بينها وبين لغة البشر)، فعندما نقرأ نصا مترجما مثلا، فإني أكاد أقول، بأننا في بعض الأحيان، نقرأ للمُترجم أكثر مما نقرأ لكاتب النص نفسه،

ولا سيما إذا كانت ترجمة النص تتطلب شفافية ودِقة واجتهادا، لكي تنفذ إلى الوجدان

 المترجِم يُعمِل وجدانه الشخصي المتميز في فضاء النص الواحد أصلا، فينتِج أو يُبدع نصا "جديدا" مطبوعا بطابعه الذاتي وإبداعه الشخصي. هو نص موازٍ للنص الأم، مع انعدام امكانية التطابق معه؛ وكذلك لأن الكلمة وإن عبَّرت عن المعنى، فإنها تبقى عاجزة عن احتواء كثافته وعن التعبير عن جماليته كلها، أو عن احتواء جميع دلالاته، ولاسيما إذا كان الأمر يتعلق بالترجمة. فماذا إذا كان الأمر يتعلق بترجمة إشارات إلهية مبهمة إلى لغة بشرية؟ وأي عبء سوف يقع على كاهل الرسول لوعي تلك الإشارات وترجمتها، إلى لغة بشرية واضحة ومتساوقة مع مفاهيم وثقافة العصر الذي يعيش فيه، من دون أن يربك أفهام الناس أو يحمّلها أكثر مما تستطيع أن تحتمل؟ لذلك يقول الوحي: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} (المُزَّمِل 5) وهذه الآية تجعلنا نلّح في الافتراض، بأن مهمة تلقف الوحي لم تكن دائما مجرد عملية تلقين كلامي حرفي، بل كانت أحيانا، أقرب إلى ترجمة في غاية التعقيد، من قربها إلى النقل أو التلقين الشفهي اليسير السهل

حديث عائشة سالف الذكر. وبذلك، فلا مناص من الافتراض، بأن هناك نسبية وهامشا بشريين في صياغة الوحي، حيث تعاون الإلهي والبشري في ولادة تلك الرسالة، التي لا يمكن أن يكون الرسول فيها طرفا سلبيا بالمطلق.

 (الم، المص، الر، المر، كهيعص، طه، طسم، طس، يس، ص، حم، عسق، ق، ن)[8] ومن اللافت للنظر، بأنه لم يبلغنا عن النبي محمد أي شرح أو تفسير لمعناها، وليظل معناها مجهولا ومفتوحا على كافة مسارات التأويل والاحتمالات. وذلك ما يدفعنا إلى الافتراض بأن النبي نفسه لم يعِ معناها، فنقلها أو نسخها بأمانة وصدق، وذلك تبعا لإيقاع سماعه لها، على هيئة تركيبة حروف لا تحمل أي معنى باللغة العربية؛ لغة القرآن. لنخلص بذلك إلى نتيجة افتراضية، بأن هناك إشارات إلهية (صلاصل) كانت عصية على فهم النبي، فنقلها لنا كما هي من دون تأويل أو ترجمة. وذلك ما يدفعنا إلى الافتراض أيضا، بأنه لو كان النبي قد قام بنقل لغة الوحي كلها كما هي، وبدون تدخل خبراته البشرية التي تفرد بها (بفضل موهبة إلهية وليس بسبب فِعْل إلهي محض) لكان القرآن، أو جزء منه على الأقل، على هيئة تركيبة حروف عصية على الفهم البشري، بل ولا تحمل أي معنى مما يفهمه البشر، ثم إنه لو كان نقْل لغة الوحي أو ترجمته تتم عبر فعل إلهي محض وليس عبر اجتهاد بشري، لكانت جميع شرائع الأنبياء متطابقة بالحرف، وليس بالجوهر أو المضمون فقط.

 قام بتحويلها / ترجمتها / تأويلها / صياغتها / قولها، عبر لغة قرآنية / مقروءة بلغة البشر. {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} (الدخان58) - {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ} (مريم 97) - {مَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} (الرعد 38)

القرآن إلهي في خامته، بشري في قالبه.

أما الخامة؛ فهي الجوهر المقدس الثابت الذي يكمن ما وراء حروف النص القرآني، والذي يمكن تسميته بروح القرآن المُقتَبس من ذات الله عبر التجربة المحمدية، أو أنه هو التجربة المحمدية ذاتها، حيث التقى النبي بربه، عبر غيابه عن نفسه وحواسه وإدراكه وكيانه قاطبة، حتى لم يتبقَ منه سوى روح صرفة، فذابت في بارئها، ثم لم يبقَ سوى الله. ولكن تلك الرؤية المَهولَة هي معايشة عصية على الوصف، لأن مسرحها هو ما وراء وما فوق الطبيعة التي يعرفها الأحياء، وهي كذلك تجربة غير قابلة للتعميم؛ بمعنى أن البوح بخفاياها هو ما لا يستطيع عامة الناس فهمه أو تقبله، لأنه يخرج عن دائرة إدراكهم واستيعابهم وعن كل ما هو طبيعي أو عادي أو مألوف. وهنا تكمن معاناة الأنبياء والقديسين والمتصوفين، وذلك بسبب عجزهم عن شرح ما لا يمكن شرحه عقلانيا. هذا ما يحاول التعبير عنه العارف بالله ابن عطاء الله السكندري، حيث يقول: "إن سَألَنَا الناس بلغة دارجة، أجبنا بإشارات وألفاظ مُبهمة، لأن لسان البشر لا يقدر على الإفصاح بمثل هذه الحقيقة السامية التي هي فوق طاقة البشر. أما قلبي، فقد عرفها وعرف الغيبة التي غمرت كل أعضاء جسدي"[9]

وأما القالب؛ فهو النص القرآني، أو صياغة الرسالة الإلهية عبر وعاء شخصية النبي البشرية. وهذا ما سيبقى خاضعا للنسبية وقابلا للجدل وللتحول في فهمه، تبعا لوعي الناس ولِسِعة إدراكهم وتبعا لتقلبات أحوال أزمنتهم وأماكنهم. وبما أن الهُوَّة بين وعي الناس وإدراكهم وأفهامهم قد اتسعت، إلى درجة أن صارت تلك الهُوَّة هي المُقدس، أو حيث كاد أن يندثر فيها المُقدس؛ فلم يعد هناك من سبيل لوأد تلك الهُوَّة / الجحيم، سوى الهجرة من القالب إلى الخامة.

وفي الحقيقة، إنه يمكننا أن نتخيل حالة الغُربة التي كان النبي محمد يعيشها بين ناسه وأهل بيئته وعصره، بسبب محدودية علمهم وفهمهم، حيث كان النبي قد أدرك عبر كشفه الفريد ما يفوق تصورهم وخيالهم، عندما رأى من آيات ربه الكبرى، ونَفَذَ إلى جوهر الحقيقة الكلية الواحدة. أو حسب تعبير الصوفية؛ "كَشَفَ الغطاء عن السبب الدفين للوجود بأسره" {فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} (ق22) ولذلك لم يكن من اليسير عليه أن يبوح لعامة الناس عن معايشته للوحي أو عن الآلية الروحية المعقدة لمقدماته وتداعياته، أو أن يحاول البرهنة على وجود ما يتسامى عن أي فهم أو برهان منطقي، لأن النتيجة الطبيعية أنهم سوف يُكّذبون رسالته، أو يهزؤون منه، حتى أنهم قد يتهمونه بالجنون، مثلما كان قد حدث فعلا في بداية الدعوة، فجاء الرد عبر آية من آيات أكثر السور القرآنية جمالا: {وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ} (التكوير22) وهكذا فقد كان يتوجب على النبي لكي ينشر نور رسالته، أن يخاطب عامة الناس تبعا لمستوى إدراكهم وفهمهم، بصيغة مقيدة بخصوصية تراثهم وموروثهم وبيئتهم. ولذلك، فإن جواهر الإسلام كانت، وما تزال دفينة، اللهم إلاّ إذا استثنينا "أهل الخاصة" والذين كان منهم في ذلك العصر أيضا، من هم مقربون إلى الرسول، كابن عمه الإمام علي مثلا، والذين كانوا أكْفَاء لفهم "المذهب الغامض" وصونه مما يبوح لهم به الرسول، من أسرار وكنوز تجربته الروحية، والذين وَرِثوا ووَرَّثوا ذلك الإرث الروحي، حتى يومنا هذا. كما نقرأ في الأبيات التالية المنسوبة للإمام علي زين العابدين:


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق