الطعام من مقاوم للحزن ومعبّر عن الفرح إلى وسيلة تمرّد.
القسمة الثنائية التي تهيمن على أنواع الأطعمة التي يتناولها المصريون، فالطبقات الفقيرة تتناول “الفول والطعمية”، والطبقات المتوسطة تتناول “الكبدة والسجق”، والطبقات الأعلى تتناول “الكباب والكفتة”، ويُلاحظ أن الشباب يميل إلى الوجبات السريعة، وهي أيضا وجبات تهيمن عليها القسمة الثنائية مثل “الشاورمة والهامبورجر”.
المناسبات الدينية والاجتماعية، التي يكون الأكل فيها من مظاهر الاحتفال، “الكنافة والقطايف” في رمضان، و”الكعك والبسكوت” في العيد، و”الحمصية والسمسمية” في المولد النبوي الشريف.
تسمع من “الكاشير” العديد من الاختيارات المربكة في بعض الأحيان والمرهقة في معظم الأحيان، من قبيل “فول ولا طعمية”، “بلدي ولا شامي”، “مهروسة ولا محمرة”، “شيبسي ولا صوابع”، “كاتشب ولا مايونيز”، “حار ولا بارد”، “حادق ولا حلو”، “لحمة ولا فراخ”..
القسمة الثنائية موجودة أيضا داخل البيوت، وتظل الأسئلة نفسها مطروحة، والاختيارات متذبذبة بين طرفي نقيض، من قبيل “البيض: مسلوق ولا مقلي”، “الباذنجان: مقلي ولا مخلل”، “السمك: مقلي ولا مشوي”، “المحشي: كرنب ولا ورق عنب”، “باذنجان ولا فلفل رومي”.
مبررا لهذه القسمة سوى الرغبة في التنوع وكسر الملل الغذائي من ناحية، والتغلب على ارتفاع التكاليف المادية من ناحية أخرى، حيث يمكنك أن تصنع من الصنف الواحد أكثر من صنف، ولعل البطاطس والباذنجان يعدان من أكثر الأطعمة قابلية للقسمة والتعدد، ولذلك يتمتعان بالانتشار الواسع داخل الطبقات الشعبية ومحدودة الدخل.
تحولا نحو الوحدة أكثر من التعدد، فبدأنا نلحظ محاولات كثيرة داخل محال الأطعمة وداخل المطبخ المصري، للعمل على دمج أكثر من صنف في بعضها البعض، فقدمت المطاعم الشعبية ساندوتشات “فول على طعمية” و”طعمية على باذنجان” و”فول بالبيض” و”بيض بالبسطرمة”
مسألة الدمج بين الأطعمة لم تؤد إلى انخفاض الأسعار بقدر ما أدت إلى ارتفاعها، بالرغم من أن الكميات واحدة وأسعار الأصناف منفردة واحدة، خاصة إذا كانت من جنس واحد مثل الفول والطعمية، ولا مبرر لذلك سوى عملية الدمج أو الخلط نفسها، حيث يتلقى البائع مقابل الجهد المبذول في توليف عناصر الأكل المتباعدة، وهي عملية لا تستدعي جهدا مضافا على الحقيقة.
لم يقف الأمر عند حد دمج صنفين من الطعام في وحدة واحدة، وإنما ابتكرت المطاعم أنواعا من السندوتشات الضخمة التي احتوت في تكوينها على أصناف عديدة، وقد أطلق مبتكروها عليها أسماء ترتبط باسم المحل كنوع من الدعاية، مثل “ساندوتش جاد” أو أسماء تعبر عن الضخامة والقوة من باب الدعاية كذلك مثل “القنبلة” و”الكومبو”، حتى أن بعض المحلات مثل “ماكدونالد” و”زاكس” قد اخترعت ساندوتشات متعددة الطوابق، طرحتها للجمهور في سياق عروض ترفيهية أو مسابقات شبابية.
المفارقة أن حركة الأطعمة باتجاه الوحدة، تأتي معاكسة لحركة الفكر ما بعد الحداثي، الذي تحول من الوحدة التي فرضتها فلسفة ديكارت في القرن الثامن عشر إلى التعددية التي فرضتها فلسفات بارت وفوكو ودريدا في القرن العشرين.
المفارقة بنحو أكبر إذا ما استخدمنا مصطلحات الفكر في سياق الأطعمة، بحيث يمكننا أن نقول إن ثنائية “الفول والطعمية” مثلا تتحول، خلافا لمسيرة الفكر، من التفكيك إلى التركيب، أي من التفكيكية إلى البنيوية.
لا يمكننا أن نفهم، لماذا يفكر الإنسان بطريقة ويأكل بطريقة معاكسة لتفكيره، هل هو نمط من المقاومة اللاواعية، ونوع من التمرد على أيديولوجيا مهيمنة يعجز الإنسان عن تغييرها في سياقها، فينتقل إلى سياق آخر بعيدا عن الهيمنة، ليمارس احتجاجه وتمرده؟
ربما يأتي الأكل مقاوما للحزن أو تعبيرا عن الفرح، لكن أن يكون وسيلة للتمرد فلم نشهدها من قبل، بل على العكس، فالاحتجاج إنما يأتي غالبا، في شكل “إضراب عن الطعام”، أي امتناع عن الأكل لا ممارسة لفعل الأكل.
تظل مسألة اللاوعي ذات أهمية في التفسير، نظرا إلى أن التدخل الواعي في عناصر الوجبة الغذائية من الأمور التي لن تجد قبولا لدى الكثيرين،
فقد الطعام ما كان يُعرف قديما بـ”سر الخلطة” أو “سر الطبخة”، ولم يعد هناك سر في الحقيقة، لأن كل شيء تحوّل إلى عرض احترافي له أدواته وديكوراته وشخصياته التي تقوم بالأداء.
تجاوزت الرغبة في الأكل لتصير رغبة في الفرجة على الأكل، والفرجة بالطبع لن تحل محل الأكل، ولكن أصبح للشكل أو الصورة دور أو حضور في سيكولوجية التذوق. والحقيقة أنها مسألة ليست جديدة، فشكل المائدة كان دائما له أهمية في إقبال الناس على الطعام. وبعيدا عن درجة الابتكار والإبداع الكبيرة في جماليات المائدة، فإن تحول الطعام من موضوع لحاسة التذوق إلى موضوع لحاسة الرؤية جعل المسألة أشبه بالعمل الفني، ما يعني إفساح المجال لمساحة كبيرة من الخيال.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق