الأربعاء، 13 أبريل 2022

ثورات الربيع غيّرت الصورة الغربية للمجتمعات العربية . أوليفييه روا *********

Apr 2, 2021 Sep 5, 2021

  المفكر الأميركي آصف بيات، أستاذ علم الاجتماع ودراسات الشرق الأوسط بجامعة إيلينوي في أوربانا شامبين، وصاحب مؤلفات مهمة من بينها "ثورة بلا ثوار: مسعى لفهم الربيع العربي" (Revolution without Revolutionaries: Making Sense of the Arab Spring) عن جامعة ستانفورد سنة 2017 وكتاب "الحياة السياسية: كيف يغير بسطاء الناس الشرق الأوسط؟" (Life as Politics: How Ordinary People Change the Middle East) عن جامعة ستانفورد سنة 2013 وغيرها من الكتب والدراسات القيمة.

 وسائل الإعلام الغربية السائدة تنظر إلى الشرق الأوسط على أنه منطقة فريدة، تختلف اختلافا جوهريا عن مناطق العالم الأخرى، من حيث إن مشاكله الحالية مثل الأنظمة الدكتاتورية، والفقر، والتطرف الديني، أو النزاعات العرقية هي نتاج من ثقافتها الفريدة ودينها (الإسلام) وتاريخها، يريد كتابنا أن يوضح أنه بينما تؤثر الثقافة والدين في التطورات الحالية، فإن القوى الدولية والجيوسياسية العالمية (مثل المصلحة الغربية في نفط المنطقة، واعتماد الأنظمة على الحكومات الغربية، واعتماد اقتصادات هذه الدول على نفط الشرق الأوسط، أو البيع المكثف للأسلحة في المنطقة) تلعبان دورًا أكبر في تشكيل سياسة المنطقة واقتصادها.

في العقود الماضية عانت دول الشرق الأوسط من الحروب والقمع السياسي وتعاظم عدم المساواة وصعود التطرف، ولكن هل هذه الأمور متجذرة في الثقافة المحلية أو أنها من مخلفات العولمة داخل المنطقة؟

ربما يعزو العديد من الأشخاص غير المطلعين هذه المشكلات إلى الثقافة المحلية ومنظومة التراث، لكن هذه القضايا معقدة أكثر، وفي الواقع، بعض فصول الكتاب، على سبيل المثال، فصل أوليفييه روا يعطي إجابة مختلفة عن هذا السؤال، فهو يقلب الفكرة التقليدية المرتبطة بـ"تطرف الإسلام" ليدعنا نفكر في ما سمّاه بـ"أسلمة التطرف".

أشرتم لبحث مهم للفيلسوف الفرنسي أوليفييه روا عن جذور الجهاد، يرى فيه أن معظم الجهاديين تعوزهم المعرفة الإسلامية القوية، فهل هذا يعني أن "الجماعات الجهادية" لا تستمد سرديتها من التراث الإسلامي؟


تعتبر فكرة روا عن "أسلمة التطرف" فكرة مهمة للغاية، إذ يجادل بأنه لا يوجد أي عنصر متأصل في الإسلام (أو أي دين آخر) لجعله "متطرفًا"، بدلاً من ذلك، يمكن لأفراد أو جماعات أو حركات معينة في العالم الإسلامي أن تكون "متطرفة" وتعطي لذلك صبغة دينية وهوياتية، وهو بالضبط التطرف الذي أظهره الإرهابيون المتشددون، حيث كان حاضرا في الماضي وتبنته اتجاهات أيديولوجية مختلفة بما في ذلك الجماعات الراديكالية "العلمانية" خاصة في سبعينيات القرن الماضي، وهو ما تجسده جماعات مثل" الألوية الحمراء" (Brigate Rosse) الإيطالية أو "جماعة الجيش الأحمر" (Baader-Meinhof) الألمانية، ولم يظهر "الجهاديون المتطرفون" سوى في السنوات الأخيرة (بفعل صعود النهضة الدينية في العالم).

يقول روا إن حقيقة عَوَز الجهاديين لـ"المعرفة الدينية" للإسلام وخاصة ما هو مرتبط بمفهوم "الجهاد" يؤكد أن مساعيهم نحو العنف غير مرتبط بالقيم الإسلامية، لذلك وجب البحث عن تلك المصادر وجذورها خارج المنظومة الإسلامية.

في إحدى الأوراق البحثية في الكتاب، والتي قدمها عالم الاجتماع عمرو علي والتي اشتغل فيها على اللاعب "محمد صلاح" باعتباره قيمة ترمز لمنطقة الشرق الأوسط؛ هل كان سبب رمزية محمد صلاح لأنه يكثف القيم الأخلاقية بفعل أخلاقه وممارساته "الإحسانية" التي تتجاوز الثقافة والدين والحدود الوطنية أو أن الأمر يكمن في شيء آخر؟


 لا يحظى محمد صلاح بشعبية لمجرد كونه لاعبا ماهرا في لعبة كرة القدم، ففي النهاية، كان هناك العديد من نجوم كرة القدم المَهرة مثل الجزائري الفرنسي زيدان، لكنهم لم يغدوا مثل محمد صلاح، فالسبب الرئيسي لشعبية محمد صلاح الاستثنائية في جميع أنحاء العالم، ولا سيما في بريطانيا، تعودُ لقيمه الأخلاقية وإحسانه وتواضعه وهو أمر نادر في المشهد الرياضي الاحترافي.. هذا النوع من القيم الأخلاقية يتجاوز الثقافة والدين والجغرافيا. وبحسب ورقة عمرو علي فإن محمد صلاح يمثل زعامة عالمية للوطن العربي لم يعرف لها مثيلا ربما منذ زمن جمال عبدالناصر.

في ورقتك البحثية المدرجة في الكتاب والمعنونة بـ"التحرير العالمي"، اعتبرت أن احتجاجات ميدان التحرير أصبحت نموذجا للاحتجاج المعولم في المجال الغربي، كيف ذلك؟ هل هذا يعني أن الغرب بدوره، يحتاج إلى أدوات للاحتجاج على سياسة العولمة؟


ما أحاول أن أعرضه في هذا الفصل هو كيف أن الذخيرة السياسية التي تطورت في مصر في عام 2011 سرعان ما أصبحت ظاهرة عالمية، فقد كان احتلال ميدان التحرير الموجود في القاهرة لمدة 18 يومًا (حيث نصب آلاف المتظاهرين خيامًا للبقاء ليلًا ونهارًا، وتنظيم الخدمات اللوجستية والأمن والغذاء والمساعدة الطبية والتواصل مع بقية العالم)، شكلاً جديدًا للسياسة المكانية.

لقد كان شكلاً من أشكال الاحتجاج وشكلًا من أشكال الحياة الجماعية الديمقراطية والتنظيم الذاتي في الفضاء العام، وانتقلت هذه الفكرة بعد ذلك عبر وسائل التواصل الاجتماعي إلى بلدان مختلفة وأصبحت نموذجًا لحركات الاحتلال، مثل حركة "احتلوا وول ستريت"، التي تطورت بعد فترة وجيزة في مئات المدن حول العالم، سافر نشطاء من الدول الغربية إلى القاهرة للاطلاع على التجربة ومقابلة نظرائهم في مصر، كما سافر بعض النشطاء من مصر إلى الولايات المتحدة وأوروبا لمناقشة الإستراتيجية المشتركة بينهم .

في حالة علاقات القوة غير المتكافئة في العالم يكون تدفق الأفكار عادة من "المركز" (الدول الصناعية) إلى "الأطراف" (الدول النامية)، وهو ما عمل بالضبط نموذج "التحرير" على قلبه.

، قبل حدوث الثورات العربية، ظل يُنظرُ للشرق الأوسط في وسائل الإعلام الغربية على أنه منطقة تغذي التطرف والأصولية الدينية، لكن الثورات التي كانت في الغالب سلمية في تونس ومصر والتي انتفض فيها الناس للمطالبة بالديمقراطية والحكومات المسؤولة والكرامة والعدالة، هي ما غيّر المواقف في الغرب.

بيد أن هذا لم يستمر طويلاً، مع تدخل الثورة المضادة الإقليمية -مثل ما قامت به السعودية التي حاولت زرع الصراعات الطائفية في أماكن مثل مصر- وكذا صعود داعش وما تحمله من وحشية، وصعود الأحزاب الدينية في الانتخابات، عاد الشرق الأوسط مجددا ليُعبر عن منطقة التطرف والعنف، وذلك على الرغم من أن الكثير من العنف جاء من الأنظمة القائمة التي تحظى برعاية القوى الإقليمية.

*

Dec 20, 2020

الإسلام السياسي السيسي ومحمد بن زايد

 ابن زايد ابن سلالة حاكمة، يحكم بشرعية تقليدية عددا من الإمارات المُطلِّة على ساحل الخليج العربي، والسيسي ابن مؤسسة عسكرية حديثة أسّسها جمال عبد الناصر بوصفها نقيضا سلطويا لأنظمة الحكم التقليدية الملكية والسلالية

 حلم القضاء على ما يُعرف بـ "الإسلام السياسي".

يفهم عبد الفتاح السيسي الإسلام السياسي بشكل محدد جدا، فهو كما يبدو عنده محصور في جماعة الإخوان المسلمين، والتنظيمات المسلحة في سيناء، وقد أعلن بشكل صريح وقت ترشُّحه للرئاسة أنه ما دام في السُّلطة فلن يكون هناك أي وجود للإخوان المسلمين في مصر. أما ابن زايد فيفهم الإسلام السياسي بطريقة أوسع، ففي الوقت الذي اكتفى فيه السيسي بقمع تنظيم الإخوان المسلمين في الداخل المصري، يقود ابن زايد حملة عالمية لتقويض أي فعالية سياسية إسلامية في الشرق أو الغرب، ولا يحصر عداوته مع جماعة الإخوان المسلمين فقط، إذ يتعامل حاكم إمارة أبو ظبي مع خصمه الإسلام السياسي بوصفه ظاهرة عالمية أوسع من الإخوان.

كالإخوان المسلمين مثلا، حيث يرى "أوليفييه روا" و"نوح فيلدمان" و"آصف بيات" الإسلام السياسي باعتباره تعبيرا عن واستجابة لوضعية تاريخية معينة في عالم جديد وجدت المجتمعات المسلمة نفسها داخله مع انهيار السلطنة العثمانية عقب انتهاء الحرب العالمية الأولى، حيث تَشَكَّل عالم جديد ومختلف جذريا عن كل ما عاشه العالم الإسلامي لقرون عديدة مضت، عالم عُمِّمَت فيه نُظم قانونية وسياسية واقتصادية على أغلب البلدان العربية والإسلامية، شَكَّلت في مضمونها وهويتها قطيعة تاريخية مع التاريخ الإسلامي الممتد منذ قرون الإسلام الأولى.

 تغوُّل السُّلطة التنفيذية والإدارية والعسكرية والأمنية على سُلطة القانون والمؤسسات التشريعية والقضائية، ما يعنيه فيلدمان تحديدا ليس مجرد تواطؤ المؤسسات القانونية والتشريعية مع السُّلطة التنفيذية، ولكن ضعف المرجعية القانونية المستقلة عن السُّلطة والضابطة لها من خارجها، الأمر الذي أدّى إلى أن تكون السُّلطة هي المُنتِجة للقانون وهي المُنفِّذة له في خلل دستوري وسياسي فادح، هنا تحديدا يرى فيلدمان أزمة الحداثة العربية، وهنا أيضا سبب المشروعية المتجددة التي تحظى بها حركات الإسلام السياسي.

رفع الإسلاميون شعار تطبيق الشريعة في وجه استبداد السُّلطة التنفيذية في كل بلد، ونادوا بعودة الدين بوصفه مرجعية حاكمة للمجال السياسي، هكذا يرى نوح فيلدمان اقتران خطاب الشريعة بالعدالة في بواكير المخيلة الإسلامية الحديثة، اقتران وثيق عزّز حضوره وارتباطه استبداد السُّلطة التنفيذية الحديثة الدائم، وهيمنتها على تأويل القانون الوضعي وتفسيره وتطبيقه طوال الوقت، وكأن القانون عبارة عن ورقة بيضاء تكتب فيها السُّلطة ما تشاء وقتما تشاء، بينما تظهر الشريعة والمرجعية الإسلامية بوصفها فكرة قانونية-أخلاقية خارج سيطرة السُّلطة والنُّخَب الحاكمة، وهي مرتبطة في الوعي الإسلامي بكونها العنصر الجوهري الذي صنع مجد الدولة الإسلامية القديمة، حيث يصف فيلدمان الإسلام السياسي بعبارة دالة بأنه "حنين إلى العدالة القانونية الإسلامية القديمة؛ لكنه حنين يتطلع إلى الأمام أيضا"

إهدار لفكرة حكم القانون والعدالة، وتحطيم التوازن الدستوري الضعيف أساسا بين السُّلطات التنفيذية والقانونية، في سياق الحملة القمعية الشرسة التي يتزعّمانها.

قد يقضي السيسي وابن زايد على الإخوان في مصر، وعلى الإسلاميين في سوريا، ويحاصرون النهضة في تونس، والإخوان في الأردن، قد ينتهي تنظيم الإخوان للأبد، لكن ما لا يُدركه ابن زايد والسيسي وفريقهما أن الإسلام السياسي ليس نتاج مؤامرة قام بها بعض سيئي النية الذين يمكن استئصالهم والقضاء عليهم، الإسلام السياسي هو الرد التاريخي للمجتمعات الإسلامية على اللا عقلانية والاستبداد وغياب المرجعية القانونية التي اتّسمت بها الحداثة العربية **مضاري الرشيد ** طوال القرن الماضي كله، وما دامت تلك السمات التي يُمثِّلها ويدافع عنها حلف السيسي وبن زايد مستمرة، فسيبقى الإسلام السياسي مُرشَّحا للظهور بأشكال تنظيمية وخطابية أخرى، وهنا تكمن المفارقة ربما.

تجاوز حركات الإسلام السياسي للكثير من مقولاتها المؤسسة، كمقولات الحاكمية، والجاهلية والسيادة الإسلامية، والمفاصلة، وتخلّيها عن إنتاج سياسة قطع مع الأنظمة القائمة، واندماجها المُتدرِّج في المجتمع المدني العربي.

 الإسلام السياسي حركة نقدية إصلاحية للحداثة العربية وتغوُّل السُّلطة التنفيذية فيها، ما يدعم فكرة فيلدمان أن الإسلام السياسي رد فعل من قلب المجتمع المدني في المشرق العربي على الدولتية العربية الضاربة بتعبير نزيه الأيوبي، أو استبداد السُّلطة التنفيذية بتعبير فيلدمان نفسه.

 الإسلام السياسي "حالة" وليس "مشروعا"، فهو حالة تُمثِّل "محاولة لدمج التديُّن والحقوق، والإيمان والحريات، والشريعة والدستور والقانون ، فهي محاولة لتحويل وقلب المبادئ والسمات الأساسية للتحديث السُّلطوي العربي رأسا على عقب بواسطة التأكيد على الحقوق بدلا من الواجبات، وعلى التعددية بدلا من الصوت الفردي السّلطوي، وعلى المستقبل بدلا من الماضي"، في إطار سعي عام يهدف لمناهضة الاستبداد السياسي، وإقامة نظام دستوري ديمقراطي مَدني يصون الحقوق والحريات

الإسلام السياسي ليس فكرة أيديولوجية ثابتة لتنظيم أو جماعة بعينها، ولا مجرد مشروع حزبي للوصول إلى السُّلطة، كل هذا وأكثر هو مجرد تجلّيات لظاهرة تاريخية أكبر وأوسع مصطلح الإسلام السياسي هو عنوانها، ربما يكون تحالف بن زايد والسيسي قد نجح في هزيمة الإسلاميين في مصر وسوريا، لكن ما يغيب عن قادة الثورة المضادة أن الإسلام السياسي ظاهرة لها شروط موضوعية مُنتِجة لها، وهي شرط استمرارها، تلك الشروط الموضوعية هي تحديدا ما يُعيد إنتاجه تحالف السيسي وبن زايد في مشروعهما.

*

"أوروبا.. هل هي مسيحية؟".. صراع الدين والعلمانية في القارة العجوز

Jan 26, 2020

21/2/2019
شهدت أوروبا منذ ستينيات القرن الماضي تحولات كبيرة قطعت بشكل كبير مع التاريخ المسيحي للقارة العجوز. وفي زمن انهيار الإرث المسيحي، برز الإسلام كقوة دينية ظنها بعض الأوروبيين تهديدا لما تبقى من هويتهم المسيحية، فدقوا ناقوس الخطر ودعوا إلى حماية هذا الإرث الذي أصبح اليوم بلا لون ولا طعم ولا رائحة.
مشكلات الهوية الأوروبية وجذورها المسيحية تمثل مادة دسمة لجدل لا ينتهي حول العلاقة بين السياسي والديني، والعلاقة بين الأديان أو الطوائف داخل الدين الواحد، وكيفية التعامل معها في قارة تقطع كل يوم خطوات جديدة نحو العلمانية التي تريد فرض قطيعة تامة مع التديّن وتصوراته حول الحياة والفكر والمجتمع.
وفي خضم هذا الجدل أصدر الباحث الفرنسي أوليفييه روا كتابا بعنوان "أوروبا.. هل هي مسيحية؟"، نشرته دار "سوي" الشهر الماضي في 204 صفحات.
يعتبر روا أحد أبرز المتخصصين في الدراسات السياسية وما يتعلق منها بالإسلام تحديدا، وله عدة مؤلفات بينها "الجهل المقدس.. زمن دين بلا ثقافة"، و"الخوف من الإسلام"، وهو حوار مع الصحفي نيكولا تريون، و"الجهاد والموت" و"العلمانية والإسلام" و"تجربة الإسلام السياسي".
أزمة مرجعية
في الفصل الثالث، ينطلق الباحث من التساؤل الآتي "هل يمكن بناء منظمة أخلاقية خارج الحقل الديني؟"، ويعود بالحديث إلى ما قامت به الكنيسة لصد موجات التحديث ما بين عامي 1864 و1964، ويتكلم عن فلسفة الأنوار وعلمنة الأخلاق.

*

أوليفييه روا يتحدث عن عالم ما بعد 11 سبتمبر وماذا بقي من "صراع الحضارات"

يحظى الأستاذ في المعهد الأوروبي الجامعي في فلورنسا بشهرة عربية واسعة، إذ ترجمت مؤلفاته إلى اللغة العربية ومنها "الإسلام والعلمانية"، و"عولمة الإسلام"، و"تجربة الإسلام السياسي"، و"الجهل المقدس".

يكتب روا عن تحوّلات السياق الديني ما بعد طغيان القيم العلمانية على نظم الحكم السياسية في أوروبا، وتأثير العولمة على صعود التطرّف الديني كردة فعل على رفض القيم السائدة.

من أبرز المنظرين لتهافت نظرية صراع الحضارات التي راجت بعد أحداث 11 أيلول، وغزو أفغانستان والعراق، كان من البديهي طلب الحديث معه بمناسبة الذكرى العشرين للهجوم على برجي مركز التجارة العالمي في نيويورك.

 كانت الانقلابات الدينية من أبرز التحولات في المشهد العالمي بعد هجوم تنظيم القاعدة على قلب الحضارة الرأسمالية الغربية الحديثة. وبعد عودة طالبان إلى الحكم في أفغانستان اليوم، تطرح أسئلة كثيرة حول الدروس المستقاة من سنوات ما بعد 11 سبتمبر/ أيلول. هل كانت الحروب التي قادتها الولايات المتحدة باسم نشر القيم الغربية، من أجل لا شيء؟

عندما وقعت الهجمات قبل عشرين سنة، خرجت أصوات تقول "إن المسلمين يتحدون قيمنا". والمقصود بتلك القيم، القيم الليبرالية، مثل الديمقراطية، وحقوق المثليين، النسوية، وغيرها... ولكن ماذا رأينا بعد 16 عاماً من ذلك التاريخ؟ انتخاب الأمريكيين لدونالد ترامب رئيساً وفق برنامج مناهض للنسوية، ومناهض لحقوق المثليين، ولحقوق الأقليات.

لم تعد المسألة مسألة قيم غربية يُراد فرضها على عالم تقليدي يحتفظ بقيم رجعية.

ما نراه اليوم بدل "صراع الحضارات"، هو ما أسميه "صراع القيم" داخل كل المجتمعات.

ما يحدث في الولايات المتحدة، وأعني حرب الثقافات أو ما أسميه حرب القيم، إذ تتشكل منذ السبعينيات جبهة بيضاء مسيحية شعبوية قومية ضد زواج المثليين والأقليات والمهاجرين، وجبهة ليبرالية منفتحة.

"الجهل المقدس" أن المؤمن في العالم اليوم يجد نفسه أمام خيارات صعبة، لأن إيمانه لم يعد متصلاً بالقيم السائدة في المجتمع.

مسألة الميول الجنسية، نلاحظ أنه حتى عقد الستينيات في أوروبا، كان المجتمع العلماني يتشارك القيم ذاتها مع الأديان، في ما يخصّ المثلية والعائلة والجنس. كان القانون الفرنسي على سبيل المثال يجرم المثلية، ويعطي أهمية للزواج وللإنجاب في أطر شرعية...

الآن أخذت المجتمعات عموماً وجهات أكثر ليبرالية، ولكن على المقلب الديني، لم تتغير الأمور.

الجهل المقدس هو حين يرفض المؤمن الاعتراف بالثقافة السائدة، ويقول سأعيد تركيب حياتي وفق القيم الدينية فقط، ومن أمثال هؤلاء الكاثوليكي الأصولي، والسلفي، واليهودي الأرثوذكسي، الذين يرون أن الثقافة السائدة ليست فاسدة فحسب، لا بل وثنية أيضاً.

فشل الإسلام السياسي كمشروع، ولكن طالبان تعود إلى الحكم اليوم. هل ما زلت عند رأيك؟

 فشل الإسلام السياسي كمشروع إدارة للسلطة والمجتمع عبر دولة إسلامية. مثال على ذلك "الإخوان المسلمون" الذين فشلوا سواء بسبب القمع، أو بسبب خسارة قاعدتهم الشعبية، أو كما حدث في تونس، حيث فقدوا قدرتهم على جذب الشرائح الرافضة في المجتمع، مع دخولهم في لعبة الديمقراطية.

بموازاة فشل الإسلام كمشروع سياسي، ظهرت لدينا الأصولية الجديدة والأسلمة الثقافية للمجتمع خارج أي نموذج سياسي، من خلال إعادة تدوير الأسلمة على يد الحكومات الاستبدادية العربية.

 عدنا إلى سنوات التسعينيات، سنجد أن الإسلاميين كانوا من يطبق الحسبة، ويلاحقون المثليين، وينادون بتطليق الخارجين عن الإسلام. والآن من يفعل ذلك؟ المحاكم التابعة للدول.

فرضيتي أننا بعد حقبة ما بعد الإسلام السياسي في التسعينيات، انتقلنا الآن إلى ما يمكن وصفه بحقبة ما بعد السلفية. النموذج السلفي يلفظ أنفاسه الأخيرة، وهناك تنويع للحقل الديني.

في التسعينيات كان السلفي هو المسلم الجيد، ويعطي دروساً للجميع. نشهد الآن عودة الصوفية في مصر والمغرب وحتى تركيا، وفي المغرب هناك أشخاص لا يترددون في إعلان إفطارهم علناً خلال شهر رمضان.

طرحت حركات الربيع العربي فكرة تحقيق المواطنة غير المشروطة بالانتماء الديني. لدينا الآن جيل أكثر تسامحاً، وأقل تشدداً حول الموضوع الهوياتي من الأجيال السابقة، والمشكلة الوحيدة هي إيجاد نموذج سياسي مناسب.

أمل الديمقراطية بعد الربيع العربي فشل، لكن الثقافة السياسية للشباب تغيرت وأصبحت أكثر تسامحاً.

عن أي تسامح نتحدّث في ظل التوتر السياسي والهوياتي الواضح بين الشيعة والسنة على سبيل المثال؟

هذه الاختلافات الدينية خاضعة لاستراتيجيات الدول التي تسعى للسيطرة الإقليمية، من خلال أخذ المسألة الدينية ومسألة الأقليات رهينة. أعتقد أن الحل قد يكون عبر منح الاستقلالية للديني. بمعنى أن يتواصل القادة الدينيون مع بعضهم البعض من دون المرور بالدول.

هذا ما يجعل زيارة البابا إلى العراق مهمة، لأنه التقى بشخصيات دينية لإجراء حوارات دينية. كان لذلك وقع إيجابي، بعد لقائه المرجع آية الله علي السيستاني، وقبله شيخ الأزهر الإمام أحمد الطيب. لن تظهر نتيجة ذلك على المدى القصير، ولكن ستتضح أكثر على المدى الطويل.

سادت فكرة دينية بعد 11 سبتمبر أن الهجوم كان من علامات القيامة. وكذلك تجددت خطابات نهاية الزمان لدى جماعات مثل داعش في السنوات الأخيرة. تقول إن العلمنة والعولمة أسهمتا في تأجيج أفكار نهاية الزمان عند بعض المتدينين، كيف ذلك؟

هناك فكرة لدى بعض الجماعات الدينية أن العالم يتجه إلى نهايته، وأن العلمنة دليل على أن نهاية الزمان والقيامة باتت قريبة. تجدين ذلك لدى السلفيين والكاثوليك الأصوليين، وخصوصاً لدى الإنجيليين المهتمين جداً بعودة المسيح الثانية ونهاية العالم.

التفاوت بين الديني والثقافي الذي يعيشه بعض المؤمنين، يخلق تأثيراً مخيفاً ومقلقاً بالنسبة لهم، ويخلق انطباعاً يشبه ما يرد في سفر رؤيا يوحنا حول عودة بابل، أي طغيان المجتمع الفاسد وعودة الأصنام. ذلك لا يخلق خوفاً من القيامة فحسب، بل رغبة بها.

تسود الآن لدى بعض الجماعات المتطرفة فكرة أننا لم نعد قادرين على أي إصلاح في العالم الحالي، ما يمثل نهاية اليوتوبيا بالنسبة للمتدينين.

يدرك المتطرفون في العمق أن الدولة الإسلامية لا تملك مقومات الحياة. لذلك يبحثون عن الشهادة لأنهم متشائمون من النصر. نرى ذلك لدى الشباب الذين يلتحقون بداعش، فهم لا يفعلون أي شيء يظهر اهتمامهم ببناء دولة إسلامية، بل يلتحقون بالتنظيم للقتال والموت فقط.

هل تعتقد أن بعض حركات اليمين المتطرف لديها تقاطعات مع حركات مثل داعش؟

 للحركات اليمينية التي تروّج للعنف، نعم. فكرة أننا اقتربنا من نهاية العالم، وأننا بتنا قبل القيامة، فكرة منتشرة جداً.
بعض أفراد اليمين المتطرف يتبنون العنف الآن مثل بريفيك مرتكب هجمات عام 2011 في النرويج. يعتقد هؤلاء أننا مُنحنا الفرصة الأخيرة قبل نهاية العالم، ويجب حمل السلاح.

 ارتباطات مثيرة للفضول بين نموذج الإرهابي الإسلامي المتطرف، والذين ينفذون الهجمات الدامية في المدارس الأمريكية.

تواز مثير للدهشة بين طريقة عمل الجهاديين وتصرفات الشباب العدميين الذين يهاجمون مدارسهم.

صراع القيم، هل تعتقد أن المجتمع الأوروبي العلماني، كما في النموذج الفرنسي مثلاً، لديه نفور من الدين بشكل عام، أم من الإسلام بشكل خاص؟

بالنسبة لليمين التقليدي في أوروبا، القارة مسيحية، والإسلام جسم غريب.

ما نلاحظه أن من يريدون الحفاظ على "مسيحية" أوروبا، ليسوا مسيحيين، بمعنى أنهم لا يذهبون إلى القداس ولا يعيشون وفق تعاليم الكنيسة، وعلاقتهم بالمسيحية هوياتية وثقافية صرف.

 إن أفرغنا الدين من الايمان وحولناه إلى موضوع ثقافي بحت، فإننا بذلك نقتل الدين. هذا ما يقوله لهم البابا، بالدعوة لمقاربة الدين من خلال الإيمان والحب.

إن نظرنا إلى اليسار، فهو مناهض للدين خصوصاً في فرنسا، إذ أنه تشكّل ضد الكنيسة بالأساس. ووفق هذه الرؤية اليسارية، الإسلام هو آخر تجسيد للدين، ويجب الانتصار عليه.

بعد حادثة شارلي إيبدو، بدا وكأن هناك معركة لحماية الحق بالتجديف من الإسلام، ولكن الكنيسة الكاثوليكية أيضاً ضد التجديف.

التجديف في الإسلام هو السخرية من كلام الله وآياته، والاستهزاء برسله وخاتمهم الرسول محمد، وإهانة الملائكة أو إنكار نبوة أحد الأنبياء. ذكر القرآن التجديف والاستهزاء، بيد أنّه لم يُنص فيه على أي عقوبة دنيوية للحدّ منه.

منذ أن أصبحت شارلي إيبدو رمزاً للمعركة ضد الأصولية الإسلامية، تحولت "روحية شارلي" إلى خطاب رسمي في فرنسا، وكأنه يجب علينا جميعاً أن نكون شارلي، لكن الكنيسة ليست شارلي، ولا يمكنها ان تقبل التجديف أو السخرية من الرموز الدينية.

*
لماذا تراجع تأييد الإسلام السياسي في مجتمعات مسلمة؟

 تنظيم القاعدة كان محل سخط 57% من إجمالي المشاركين، تليه حركة طالبان (51%) ثم حماس (45%) وحزب الله (42%). بالنسبة للدول العربية فإن نسبة القلق إزاء التطرف الإسلامي كانت الأعلى في لبنان (73%) تليها تونس مباشرة (71%) ثم مصر (67%) والأردن (54%). ورد أيضاً في التقرير أن نسبة تأييد مسلمي لبنان –البلد الذي ينتمي اليه حزب الله– متفاوتة بشكل كبير وفقاً للمذهب. 91% من المسلمين السنة لديهم نظرة سلبية تجاه الحزب مقارنة بـ 89% من الشيعة الذين ينظرون إليه بإيجابية.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق