-بوجه عام- قد حمل على عاتقه مهمة تربية المجتمع وفقا لمعاييره الجديدة، فكل الأفراد أحرار مهما جنحوا، وكل التوجُّهات تستحق أن توجد ما دام هناك مَن يتبنَّاها، وتلك هي الصوابية الجديدة التي يجب على الجميع الالتزام بها.
ما هذه الصوابية التي تحكم عوالمنا اليوم؟ وهل يعتمد خطابها أصلا على اعتبارات أخلاقية تنطلق منها معايير المجتمعات الجديدة؟ أم أنها أخلاق لا أخلاقية،
الأخلاق الجديدة لعالم اليوم لا ترتكن إلى أي مرجع أخلاقي حقيقي، وإنما تتمركز حول الفردانية وتدعم قبول كل شيء ما دام يُحقِّق سعادة لأصحابه ويوافق أهواءهم، وترفع -في المقابل- السلاح في وجه كل رافض أو ناقد لا يُسبِّح بحمدها. فمن أين بدأت هذه الأخلاق، وكيف وصلت إلى هذه المرحلة التي طغت فيها على كل المرجعيات؟
"إذا لم يكن الإله موجودا فكل شيء مباح"
كتابه "أفول الواجب"، يُخبرنا الفيلسوف الفرنسي "جيل ليبوفيتسكي" أن هذه المُسلَّمة تم التحايل عليها كثيرا منذ نشأة الدولة القومية الحديثة واستبعاد الدين من المجال العام. فمع مطلع القرن السابع عشر الميلادي كانت الأخلاق قد تحرَّرت بالفعل من المعتقدات الدينية، وحلّ محلّها مفهوم الواجب. ذلك الواجب لم يكن مرادفا للإلزام الإلهي الذي يُثاب فاعله ويُعاقب تاركه كما في العصور الوسطى، وإنما الإلزام الذي يُصيِّر الإنسان نفسه الغاية الكبرى، ويجعل حقوقه القيمة المُطلقة ولا شيء فوقها. ففي النصف الثاني من القرن الثامن عشر، أعلن "جان جاك روسو" -من خلال كتابه "العقد الاجتماعي"- ولادة الدين المدني الحديث. فالوفاء والنزاهة والإخلاص بقيت أمورا عظيمة كما كان الحال في العصور الدينية، لكنها أصبحت كذلك لأجل غاية أخرى مغايرة: بناء نظام سياسي مُنظَّم وسِلمي
ع ذلك، فلم تُبنَ القواعد الأخلاقية في هذا العصر على أساس من العقل المطلق وحده، وإنما ظل صدى الأخلاق والتشريعات المسيحية ملموسا في الكثير من القوانين الحديثة، لكن الاختلاف المركزي كان في تخلُّص هذه الأخلاق الجديدة -أو الواجب- من أي التزامات دينية وأخروية. حينها نُقِلت الإلزامات التشريعية من المجال الديني إلى مجال الواجبات الفردية والجماعية، فما كان إثما دينيا صار مرضا وبشاعة وهذه هي المرحلة الأولى من العلمنة التي مرَّت بها الأخلاق المسيحية
في هذه المرحلة، كما يقول "ليبوفتسكي"، أعلى الغرب من قيمة الديمقراطية وما تحتويه من حريات فردية، حتى إن أي محاولة لفرض قيود أخلاقية -بالمعنى الديني- على المجتمع صارت تُقابل باستهجان شديد
ما يعني أن الحداثة جاءت لتجعل الأخلاق في مرتبة أعلى من الدين
وكانت تلك هي الخطوة الأولى من فصل الأخلاق عن مصدرها المُطلَق واستبداله لصالح مُطلَق آخر، يُؤلِّه المصلحة العامة بدلا من الخالق ويُعبِّر عن الأخلاق بالواجب والمنفعة المجتمعية. لكن، لأن أكثر ما تتميَّز به الحالة الغربية هو الركض بلا توقُّف، سرعان ما انتقلت الأخلاق إلى مرحلتها الثانية من العلمنة؛ مرحلة نزع الشرعية عن فكرة الواجب الأخلاقي نفسه، فلم تعد ثمّة معايير للصواب والخطأ إلا رؤية الفرد وإرادته، وهكذا أصبح كل مرغوب مُباحا بوجه من الوجوه.
مرحلة الحداثة -أو مرحلة العلمنة الأولى للأخلاق- كانت تسودها الروح الجماعية والتنظيمية، بينما تمركزت المرحلة الثانية -مرحلة ما بعد الحداثة- حول الفرد فقط، فطغى سعيه وراء سعادته الشخصية على جميع القيم، وهو ما يُرجعه الفيلسوف الفرنسي إلى سببين رئيسيين: أولهما هو العقلانية المُفرطة المتجرِّدة من أي قيد ديني، بينما الثاني هو النزعة الاستهلاكية النهمة التي أعلت من قيمة السعادة الفردية على حساب الأوامر الأخلاقية.
عندما يصبح همّ الإنسان الأول هو سعادته الخاصة، ويرى أن الأشياء تُحقِّق له هذه السعادة عوضا عن الأشخاص، فإنه لن يتورَّع عن تحصيل أكبر قدر ممكن من هذه السعادة دون اعتبار لأي إلزام أخلاقي تجاه الآخرين، وهذا ما يُطلِق عليه "ليبوفيتسكي" مرحلة ما بعد التخليق. وهو يُرجع اختياره للفظة "ما بعد التخليق" -وليس "ما بعد الأخلاق"- من أجل عكس حالة الفوضى التي يستشعرها القارئ من كلمة "تخليق". فهذه المرحلة لا تُغيِّر المرجعيات مع الإبقاء على القيم كسابقتها، وإنما تنسف هذه القيم من الأصل وتضع "الفرد" قيمة واحدة. إن التخليق أشبه بالتزيين، فلا أخلاق، ولكن زينة تُوهمنا أن هناك مرجعية، لكن الحقيقة أن الهوى والرغبة هما كل شيء.
من حضارة الواجب إلى ثقافة السعادة الذاتية والأنشطة الترفيهية والجنس: إن ثقافة حب الذات هي التي تحكمنا بدلا من النظام القديم للقمع والتحكم التوجيهي للعادات
صار الجسد حقا خاصا لكل إنسان، يصنع به ما يشاء: يميل لأمثاله في الجنس، يُغيِّر من هويته الجنسية، يُحوِّل جنسه بالكلية… كل شيء مباح ما دام يُحقِّق له سعادته، وعلى الجميع احترام هذه السعادة لأن هذا هو التخليق الجديد، وهو ما يهم، أما الأخلاق فقد دفنها الواجب قبل هذا، وها نحن ندفن الواجب نفسه الآن أمام اللذات.
أخلاقيات الدين تمنع التشويه الاختياري للأعضاء البشرية، وذلك من منطلق واضح ومفهوم وهو الالتزام التعبدّي لله. الأمر نفسه نجده في أخلاقيات الواجب، لكن من منطلق آخر؛ هو عدم الإساءة لإنسانية الإنسان، وهو المبدأ الذي حُظِرت لأجله عمليات التحوُّل الجنسي -بموجب القانون- في العديد من البلدان الأوروبية حتى القرن الماضي. أما في العصر ما بعد التخليقي فإن "الأنا" فوق كل اعتبار، لذا لم يبقَ التحوُّل الجنسي عملا شيطانيا وإنما أضحى تقدُّما إنسانيا رائعا.
عصر الانتصار للتصرُّف في الذات، لذا ليس من العجب أن يتبدَّل حال المتحوِّلين جنسيا والمثليين -من آثمين أو منبوذين- إلى جزء من نسيج المجتمع تدعم حقوقهم الأخلاق -أو التخليق- ويصبح على الجميع قبولهم والرضا بما هم عليه، بل والدعوة إليه ما دام يُحقِّق للمرء سعادته ويُلبِّي رغباته الخاصة.
خُلِعت الأخلاق الغربية من سياقها مرتين؛ مرة حين تعرَّت من غطائها الديني، فبدَّلت مرجعيتها المطلقة بمرجعية أخرى -مهما اتفق عليها المجتمع- بشرية يحق للجميع نقدها، ومرة أخرى حين تجرَّدت الأخلاق من غطاء العقل ليحل محله غطاء الهوى والمتعة دون علاقة بأي واجب اجتماعي.
القواعد الجديدة التي تفرضها الصوابية السياسية على عالم اليوم، وتُطالِب الجميع بقبولها، بل وتُرهِب كل مَن يحاول استرداد أي غطاء مُطلَق للأخلاق.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق