السبت، 16 أبريل 2022

أين الخلل في المشهد الثقافي؟ مسفر بن علي القحطاني **********

Dec 2, 2019 Apr 21, 2021 Nov 24, 2021
مقال - مسفر بن علي القحطاني
2019
مجلة اليمامة 

أولا: أرهق الصراع الأيديولوجي بين التيارات الليبرالية والصحوية مشهدنا الثقافي، واشتغل الكثير من الطرفين بالهجوم أو الدفاع حول قضايا هامشية في قيمتها، ولكنها منطقة تجاذب وصراع إما على توسيع النفوذ أو احتكار الجمهور أو ادّعاء تمثيل السلطة، وكانت أهم تلك الموضوعات: قضايا المرأة (نوع الحجاب والعباءة، قيادة السيارة، الابتعاث، العمل كاشيرات، الاختلاط وغيرها)، وقضايا الترفيه (المعازف، ومسلسل طاش ماطاش، والسينما، وغيرها)، بالإضافة إلى قضايا تتعلق بالأيام الوطنية والمنكرات العامة، وتنامى الصراع وازدادت حدّة الاصطفاف، وخرجت فتاوى وبيانات التفسيق في مقابل مقالات التخوين والوصف بالهمجية، كل ذلك كان يستقطب المجتمع ويشغله بتلك المعارك الهامشية والسطحية، بينما كانت لدينا مناطق فارغة عن الاهتمام وجديرة بالعمل الثقافي والفكري ولكنها لا تحظَ بذات العناية من رموز تلك التيارات، مثل العناية بالتنمية الثقافية وفقه العمران وأدوات التحضر وغرس القيم في الحياة وتجويد الشأن العام ومعالجة بنية التخلف وغيرها، ورغم أنها من أهم مرتكزات النهوض للمجتمعات إلا أن الاطروحات السعودية حولها كان ضعيفا للغاية.

ثانيا: تبرز في مشهدنا الثقافي شخصنة الاطروحات والتمحور حول قائلها والردّ على أخطائه السلوكية والبحث عن زلاته الاجتماعية وتاريخه الخاص، بينما موضوع أطروحته الفكري غالبا لا يمسّ إلا بشكل ثانوي بعيداً عن نقد الأفكار وتطويرها. هذه الشخصنة لا تشجع المثقف أن يمارس طرح أفكاره لأجل الوصول إلى نسق معرفي يعالج ظاهرة أو إشكال مجتمعي؛ إما خوفا من المواجهة أو هروبا من التبعات الاجتماعية التي تنال شخصه، ومن ثمَّ؛ تمُلأ فراغات هذا المشهد بكل قنواته ومنابره المتزاحمة بمن هم أقل شأنا وأضعف قدرا في العلم والاختصاص، وتصبح الألقاب العلمية المزيفة مزادا في الأسواق السوداء تُشترى بأبخس الأثمان، ويمكن أن تسمع أو تشاهد خبيرا ومفكرا يظهر في كل قناة تلفزيونية وهو لم يكتب بحثا جادا أو يقدم مؤلفا رصينا واحدا حول التخصص الذي يدّعيه.

هذا النوع من الزحام الفارغ والتكاثر الهامشي في ساحتنا الثقافية لا يساعد الجادين المتمكنين من خوض القضايا الحيوية والبحث عن مجالات الخلل المعرفي بحرية، خصوصا إذا عُرف أن من سيقيّم اطروحته ويحكم عليها أمام الجمهور شخص لا يمتّ للثقافة بأي صلة سوى تلك الألقاب حول اسمه، وقد يزيد هذا المشهد قتامةً؛ انعدام قيم الإعذار وأدب الاختلاف واحترام التعدديات، فتصبح خشية المثقف الجاد ليس الاسفاف بعلمه فحسب؛ بل ربما تتجاوز إلى تخوينه أو تفسيقه لأنه اختلف مع صاحب الفضيلة أو الرمز.

ثالثا: الإنسان -حسب هايدجر- كائن لغوي، فاللغة ليست أداة للتعبير فحسب؛ بل هي أهم أدوات التفكير، والباحثون يثبتون أن الإنسان إذا أراد أن يفكر ويتأمل يعود للغته الأم، والناظر في الحالة الثقافية المحلية، يجد تباينا كبيرا بين أصالة اللغة و واقعها المحزن،
فالمثقف السعودي متمكّن من لغته العربية، لأنها مصدر ثقافته وهويته الدينية، لكنه يرى انزوائها المتكلّف في أروقة الجامعات التي بدأت تشترط التدريس باللغة الإنجليزية، وشرطا للحصول على البدل المالي عند نشره في المجلات الأجنبية مهما كانت قيمتها المعرفية، ثم يرى أو يسمع أن المنتديات والمؤتمرات الفانتازية باهظة التكاليف لا تتحدث إلا بالإنجليزية، وأصبحت بوابة العبور للثقافة المخملية تأتي من خلال الحديث والفذلكة بلغة أجنبية، وهنا نحتاج إلى وقفة نفسية أكثر منها منطقية وفلسفية، حول سرّ التخلي عن تمكين اللغة العربية وتهميش انتشارها في مؤسساتنا الثقافية خصوصا التعليمية، ولا يمكن لي أن أتصور ابداعا معرفيا يمكن حصوله في ظل بيئة تهمّش لغتها الراسخة والعتيدة لأجل لغة أجنبية مهما حاولنا اتقانها؛ فلن نكون سوى مقلِّدة وملفّقة لفكر ليس لنا منه إلا النقل والنشر، وهذا يضعف مشهدنا الثقافي ويخجلنا أمام العالم المتحضر.

رابعا: لدي توجس كبير من ادماج الثقافة في السوق، وربطها بمتطلبات الاقتصاد، خصوصا إذا كان هذا الدمج بيد التاجر المتلهف للمغنم المادي، أو الإداري المنفّذ بلا نقاش، والأدهى أن يتم تسليط الأضواء الإعلامية على هذا الدمج فيختزل الحقائق ويطمس زوايا المشهد الأخرى لإظهار صورة واحدة لا يرى المشاهد سواها، ولأذكر على ذلك شواهد واقعية في حالتنا الثقافية، أهمها ما يحصل من تهافت في النشر الأكاديمي الكمي للوصول إلى مراتب عليا في تصنيف الجامعات، مع تنافس كبير بين الباحثين في نشر أبحاثهم لغرض الترقية والصعود في درجات تلك التصنيفات، دون أي مخرجات حقيقية أو ذات قيمة معتبرة تُسهم في رقي المعرفة وإنتاج علماء راسخين يثرون مشهدنا الثقافي بالجيد الرصين.

ثم إن ترك الثقافة بيد التاجر ليحدّد اتجاهاتها ويرسم فعالياتها يعتبر أمرا بالغ الخطورة، فالعقل التجاري المتستر بالثقافة لا يهتم بأي إنتاج معرفي أو ورقي سوى إنتاج ورق النقود،

خامسا: من العلّل المزمنة التي أصابت مشهدنا الثقافي وجعلته يتمدد افقيا بشكل سطحي دون عمق عمودي يغوص في الأفكار والاشكالات المعرفية؛ غياب الفلسفة عن الحضور والتأثير، وقد تم تغييب الدرس الفلسفي لعقود طويلة باعتباره كتلة صلدة من الكفر والالحاد، ولم يجرؤ أحد أن يعيد النظر في صلاحية الفلسفة وجدواها وحاجتنا لتساؤلاتها في عدد من الموضوعات الفكرية، لأن السؤال الفلسفي حتى لو لم يكن غرضه البحث عن جواب؛ إلا أنه يُعين على عقلنة التفكير وتجويد البرهان وتقوية الجدل حول الكثير من إشكالاتنا المصيرية التي يتم الحسم فيها من خلال فتاوى متكلّفة، أو مقالات هشّة تزيد من تقزيم حالتنا الثقافية، فقضايا مثل: الموقف من التراث والتأويلات الدينية ومفاهيم الحداثة والديمقراطية والعلمانية والقيم الكونية وغيرها؛ مما يتم الحديث عنها بلا توطين وتكوين رأي محلي عنها، هو الذي أسهم في غياب المجال الثقافي التواصلي العام -حسب هابرماس-؛ ما أدى إلى اختناق المناخ التداولي والنقدي كأهم معيار لبيئة ثقافية صحية.
سادسا: يمكن –تجاوزا- تسمية السعودي بأنه (كائن شِلَلَي) أي يعيش في وسط (شلّة) من الأصدقاء قد يقضي معهم من الوقت أكثر مما يقضيه في عمله ومع أسرته، هذه الخصوصية الاجتماعية ذات الانتشار الواسع في مناطق المملكة؛ انعكست على الجو الثقافي بشكل ملفت للانتباه، فالصحيفة تستكتب (الشلّة)، والنوادي الثقافية لا يخرج المشاركون فيها عن دائرة (الشلّة)، كما نلحظ أن (الشلّة) تهيمن على برامج المؤسسات الدينية ونشاطاتها الجماهيرية.
فأصبح مشهدنا الثقافي على هيئة دوائر مغلقة قليلة التداخل،
سابعا: هناك كسل مجتمعي عام يؤرّق المثقفون ويدفعهم نحو الانعزال، فمحبي الكتب أصبحوا مدمني مواقع التواصل الاجتماعي، ورواد المنتديات أضحوا أسرى لشاشات (اليوتيوب) أو(النتفليكس)، وصار أصحاب الهمّ المعرفي يترددون في إقامة أي فعالية حتى يتأكد لديهم شهرة المحاضر الافتراضية، وكم عدد متابعيه في(تويتر) و(السناب شات) كمعايير لجناح الفاعلية، وأما إن كان فقيرا فيما سبق؛ فليسعه بيته ومكتبته، وهكذا نرى بحسرة كيف تذوي حالتنا الثقافية دون حراك، مستسلمين لشؤم الكسل ومقتنعين بعقلانية هذا الركود.
وفي ختام هذا المقال والذي قبله قد يشعر القارئ بسوداوية مشهدنا الثقافي وأن التغيير الرشيد يسير في نفق طويل ومعقّد، وهذا ما أحاول عدم الاستسلام له ولا أدعو له، ولعلي في المقال القادم والأخير أن أفتح الآفاق نحو فرص العودة لاعتلاء منصة الثقافة العالمية وليس المحلية فقط، كما سأؤكد أن مشهدنا الحالي لا يزال يحفل بالكثير من الكنوز المعرفية التي تحتاج إلى إعادة كشف من جديد، فوطننا الواعد دائما ما يجعل للأمل مكانا في كل وقت.

حتي انا قرأت كتاب من ماليزيا اسلامي تحليل عميق للعمانية وقوي 

*

النموذج المعرفي في خريطة التقدم العربي... السؤال الحاضر الغائب!


توماس كون في كتابه المشهور «بنية الثورات العلمية»، فقد حاول أن يسلط فيه الضوء على فكرة المنهج أو النظام المعرفي أو «البرادايم» الذي شكل أهم النظريات العلمية في الفيزياء والرياضيات والطبيعيات عموماً؛ وكانت محاولة تفسيرية لفهم طريقة التفكير لدى أصحاب أهم النظريات العلمية، حتى لو جاء تفسير لاحق أو «برادايم جديد» يعيد بناء تفسير أحدث للنظرية. هذا النظام المعرفي الذي أثبتت حقائق جديدة للعلم وفق طرق موثوقة للتأكد من صحة نتائجه هو ما يشكل الثورات المعرفية المتوالية، بل أحياناً تصبح هذه الطريقة العلمية من النظر سبباً في حل الكلمات المتقاطعة وأحجية الصور المقطعة لكثير من قضايا العلم والواقع، حسب تعبير باتريك هيلي (انظر كتابه «صور المعرفة: مقدمة لفلسفة العلم المعاصرة»، ترجمة نور الدين عبيد، المنظمة العربية للترجمة، الطبعة الأولى، 2008، ص 167).

يمكن الإشارة أيضاً إلى جهود الدكتور محمد عابد الجابري في كتبه حول العقل العربي، وفي محاولته اكتشاف بنية العقل المكون المنتج للمعرفة، فاشتغل على معرفة بنية هذا النظام كي يحلل جوانب الخلل التي أصابت الأمة، فقال في بيان مفهومه: «والنظام المعرفي في ثقافة ما هو: بنيتها اللاشعورية» (انظر كتابه «تكوين العقل العربي»، طبعة مركز دراسات الوحدة العربية، 1984، ص 78)، مستعيناً بميشال فوكو في صناعة هذا المعنى للنظام المعرفي الذي ركز فيه الجابري على الدرس التراثي أكثر من غيره، ولكن سياقنا هنا في تحديد مفهوم (النموذج المعرفي) سيقترب من محاولة الدكتور عبد الوهاب المسيري الذي اشتغل على صياغة هذا النموذج مستفيداً من توسع ماكس فيبر في مجال النموذج المعرفي، ليشمل التصورات كافة حول الإنسان والعالم والمادة والآخر والكون والعلم وغيرها، فالنموذج المعرفي حسب تعريف المسيري: «بنية تصورية يجردها عقل الإنسان من كم هائل من العلاقات والتفاصيل والحقائق والوقائع، يحللها ثم يربط بينها وينسقها بشكل برهاني، ليصل إلى الصيغ الكلية النهائية للوجود الإنساني» (انظر كتاب «العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة»، دار الشروق، الطبعة الخامسة، 2016، ص ص 444-445). وهذا التعريف الذي نقلته عن المسيري هو جمع وترتيب لمفهومه حول النموذج المعرفي. ومن وجهة نظري، أجده المفهوم الأقرب الجامع لبناء التصورات كافة حول الوجود الإنساني. ويمكن لهذا النظام التصوري أن يشكل نسقاً كلياً يعيد فهم الثغرات غير المفسرة حول الطبيعيات والغيبيات، ويعيد وضع قطع البازل في مكانها الصحيح في لعبة الصور المقطعة حول كثير من مشكلاتنا التنموية والحضارية.

فعندما حاول الإنسان أن يضع له نظاماً في التفكير يصل من خلاله للحقيقة والفهم لما يجري من حوله، كانت أمامه ثلاثة مسارات رئيسة يفكر من خلالها، وهي: اللاهوت أو الفلسفة أو العلم التجريبي. وقد هيمنت النظم المعرفية الدينية والفلسفية على العالم لقرون طويلة. ولكن بعد عصر النهضة في أوروبا، هيمن على العقل البشري؛ التفكير من خلال نظم معرفية تجريبية، وهي كما حدد هيغل: «كل شيء صادق يجب أن يكون في العالم الواقعي معطى للحس» (انظر «صور المعرفة»، باتريك هايلي، ص 116). هذه القفزة العلمية في التفكير المادي أجرت في يدي الأوروبيين مكامن القوة الصناعية، ومكاسب الثراء والسيطرة، وأضحى «العلم» -وفق هذه الطريقة- نسقاً معرفياً يحكم كل التصورات، بما فيها المعتقدات حول الخلق والموت والحياة. ولا يعني هذا أن الدين والفلسفة انتهى دورهما المعرفي، ولكن تراجعا خطوات، في مقابل تفرد النظم المادية للعلم.

نحن في عالمنا العربي، باتت غالب نظم الحداثة والتقدم التي تسوق وتعرض لنا، ليس لكونها سلعاً أو خدمات بل دواءً للنجاة، مرهونة بأنموذج الغرب المعرفي. ومع قوة هذا الوهج الحداثي، وكثرة السائرين فيه، فإنه لا يزال نظاماً ناقصاً في وضع حلوله للاحتياجات الروحية والأخلاقية والبيئية، مع تصدع مستمر يظهر في بُناه المعرفية، وهذا ما حدا بكثير من المفكرين العرب للدعوة لوضع أنموذج معرفي لا يصادم الثوابت الدينية، ولا يتعارض مع القيم الإنسانية، ويفي بشكل واضح للمستجدات الحداثية وغيرها، منهم على سبيل المثال: الجابري والعروي وطه عبد الرحمن وعلي حرب والتزيني وأبو سليمان والمسيري وغيرهم؛ قد يختلفون في بعض التصورات، ولكنهم يشعرون بوضوح بوجود أزمة خانقة يمر بها العقل المسلم الغائب الحاضر.

هذا الغياب للنموذج المعرفي لأي أمة يعني السير في طريق محفوف بالمخاطر بلا علامات أو خرائط، والدافعية التي تحصل في بدايات النهوض لا يمكن لها الاستمرار إذا خلت من نموذجها المعرفي الذي يصحح المسير ويعالج الطوارئ ويربط التصورات بنسق كلي صحيح، لذلك فشلت غالب مشاريع اليسار الاشتراكي في العالم، ووعود القوميات العربية بالوحدة والتقدم، وتفككت مشاريع الصحوة في بناء المجتمع الإسلامي المنشود، وهو المهدد الحالي للنهضة الصينية التي تحمل نموذجاً معقداً فيه كثير من الهوات المعرفية، وإن بدت للناظر قوته الشكلية.

في المقابل، نجد أن المجتمعات الغربية، حتى مع النقد المعاصر لبرادايم الحداثة، لا يزال نظامها المعرفي متسقاً مع مجالاتها الحياتية كافة، فالحرية الرأسمالية لا تجدها منعدمة في السياسة أو الحياة المدنية، والعلمانية لما جاءت بصفتها فكرة لإدارة الشأن العام لم تصطدم كثيراً مع بنية الفكر والدين. وفي اليابان مثال آخر أجده قريباً في تصوير النسق المتكامل الذي يظهر في أنموذجهم المعرفي، فقيمة العمل الجماعي أو روح الفريق تجدها مقدسة ضمن أخلاق الساموراي المحترمة جداً عند اليابانيين، كما يمكن أن تراها في العمل الوظيفي والبحثي والحزبي، بل إنك تشعر بها في الشارع والمرفق العام، بصفتها مشتركاً حقيقياً بينهم، وهذا ما أجده بعيداً في واقعنا العربي.

نموذج معرفي عربي

ثالثاً: لماذا نحتاج (المجتمعات العربية) إلى بناء نموذجنا المعرفي؟ هنا أقول بوضوح: لأن مجتمعاتنا لديها تطلعات وأحلام كبيرة، وشبابها متوثب لصناعة فرق نهضوي، وقيادتها قد وضعت خططاً استراتيجية تحقق هذه الطموحات، كما أن القَدَر قد وضعنا في قلب العالم ومركز الحضارات وانبثاق الديانات الكبرى. هذه وغيرها تستلزم أن يكون لدينا نموذجنا المعرفي المتماسك المتكامل في نَظْم كل هذه التطلعات والثوابت والتصورات في نسق واحد يحوط بالمجتمع ويحميه ويدفعه للتقدم.

 هناك مخوفات ومحاذير قد تصيب هذه الحركة النشطة بالتعثر أو الحيرة؛ أذكر هنا بعض الشواهد المتنوعة للبرهنة على هذا التعثر: ففي مشهدنا الديني، ما عدنا نعرف ما هو الثابت من ديننا الحنيف الذي يجب أن نبقى عليه ثابتين دون تململ، وما هو الظني النسبي الذي يمكننا إعادة الاجتهاد حوله حسب متغيرات الظروف. كذلك بدأ نموذج العقل القبلي أو الأمني يسيطر على تصورات كثيرين في التعاطي مع مؤسسات الدولة والعلاقة بأطياف الوطن، ويحدِث تشوهات في نسقنا المعرفي والأخلاقي؛ وهذا التصور الجزئي الصارم يتنامى بصمت قد يفكك طبيعة التكامل بين أجزاء المجتمع الواحد. كما أفرزت مشاريع التنمية الناقصة قبولاً ضمنياً لتنامي العشوائيات السكنية الفقيرة الخطيرة على الأمن والأخلاق، في مقابل تنامي المجمعات السكنية المغلقة الخاصة بمجموعات مترفة قد تكون سبباً لإشعال حرب طبقية في المستقبل. أيضاً أرى بحزن كبير إدماننا المتوحش لمواقع التواصل الاجتماعي، وآثاره المتتابعة في تشكيل أُسر هشة وفردانية أنانية تصنع للفرد أحلاماً من فقاعات كاذبة، دون حراك فعلي لمواجهة هذه التصدعات في المجتمع. والأخطر -من وجهة نظري- نموذج الوطنية النفعية التي لا ترى الولاء والانتماء للوطن إلا في مقابل نفع مشروط واستحواذات خاصة يغنمها الفرد ولو احترق الباقون؛ هذه النفعية قد أصبحت تنمو بيننا كأعشاب سامة، وتُبرر وفق براهين جوفاء أمام المجتمع. كما أن نموذج الفرد الاستهلاكي اللاهث وراء الإعلانات الساقط في فخاخ الديون البنكية أصبح مثيراً للشفقة. ولا أنسى حاجتنا الكبرى لبناء مؤسسات تعليمية رصينة، فالواقع التعليمي بات مزرياً في غالب الدول العربية، ومؤشراته هي الأدنى عالمياً، والأهم بعد ذلك أن العقل المعاصر مشوش بكثير من المقولات الضعيفة والأطروحات التقليدية الباردة. وقد راج عندنا سوق النقل الأعور للمعرفة، والاستيراد اللاهث للفلسفات الأجنبية، بلا وعي نقدي أو تصور علمي مستقل؛ هذه وغيرها من المخوفات هي ما أثار كتابتي لهذا المقال، وطرح هذا السؤال في العنوان.

رابعاً: أختم بهذا السؤال: ما العمل لإيجاد نموذجنا المعرفي؟ هذا السؤال العملي بحثه كثير من المفكرين الذين سبق ذكرهم، ورغم جودة كثير منها، فإن عصرنا الحاضر أطلت معه تحديات ومتغيرات لم تكن ظاهرة آنذاك في ساحتنا العربية، ولكني هنا سأبين خمسة أمور أراها ضرورة في أي نموذج معرفي لأمتنا العربية، وهي تمثل من وجهة نظري الأذرع التي تسير بها العجلة، والقوائم التي يقف عليها هذا النموذج: أولها: الموقف من الدين، فلا يزال التردد حول موقفنا من الدين في التشريع وإدارة الحياة قائماً، ولا تزال هناك ضبابية في التعامل مع حدوده وأحكامه، بين منكر ومؤول ومستغل ومسيس. ثانياً: الموقف من الهوية، فثبات الهوية الجمعية مهم لخلق توافق فكري بين مكونات المجتمع، ومحاولات نسف الهويات الراسخة للمجتمع مقابل هويات متخيلة يتم جلبها من أعماق التاريخ توحي بمشروع فاشل يسلخ الحي ولا يعيد الميت للحياة. ثالثاً: الموقف من اللغة، فاللغة العربية باتت في مجتمعاتنا لغة ثانية فقيرة في الحضور مهمشة عن ارتقاء المنصات بعيدة عن إلهام الأجيال القادمة. رابعاً: الموقف من الدولة، فالدولة بدستورها ومؤسساتها الكبرى (الاقتصاد والجيش) لا بد أن يكون ظهورها كاملاً، وحضور مؤسساتها عالياً، ولا تختزل بحزب أو يستبد بها عدو. خامساً وأخيراً: الموقف من حقوق الإنسان، فالعربي هو عماد هذا النموذج، وكرامته وحريته وأمنه ورفاه عيشه ضروراتٍ للبقاء على قيد التأثير، فلا فائدة من نموذج معرفي يهمش أفراده، ويُضعف حقوقهم الوجودية.

هذه الخماسية التي بها تكاملت نماذج معرفية لمجتمعات شتى عبر التاريخ ليست اختراعاً آت به، بل هو من ضرورات التفكير وإعادة الحضور للمسلمات البدهية التي غابت عن التفعيل والتمكين في بناء تصورنا المنشود لنظامنا المعرفي، إما عمدا وإما غفلة، والأمل كبير في قياداتنا العربية بإحياء هذا المشروع الناظم، وإعادة الاعتبار له، على غرار ما تقوم به المملكة العربية السعودية في مشروعها الواعد نحو رؤية 2030. ولعله بداية الخير والقطرات الأولى لغيثٍ متتابعٍ منهمرٍ.

 أستاذ بقسم الدراسات الإسلامية والعربية بجامعة الملك فهد للبترول والمعادن - الظهران

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق