Jul 19, 2021 Oct 21, 2021
فالأئمة كتبوا في الملل والنحل (الشهرستاني، ابن حزم) وآخرون، وثمة فرع معرفي واسع أدهش حتى المستشرقين وعملوا عليه، وهو علم «الجرح والتعديل»
التصنيف للأشخاص بناءً على أفكارهم أبعد ما يكون عن النبز الشخصي أو الهجوم الفكري، بل قصارى ما يقوم به الباحث عزو كل شخصٍ إلى فكره، يصح ذلك حتى على التيارات الأخرى خارج نطاق السجال الإسلامي فيمكن وصف المتبني للأفكار الليبرالية بالليبرالي، والمنسجم مع النظرية العلمانية بالعلماني، ولا أرى بهذا أي جنوحٍ بشرط ألا يعتبر المصنف أن هذه التسميات يترتب عليها نفي أو تكفير كما يفعل أنصار «الإخوان» و«داعش» و«القاعدة» و«الحوثي» و«حزب الله» و«بوكوحرام».
والتصنيف جزء من الحديث المعرفي، عرفنا أن شلنج وهيغل وكانط مثاليون من أفكارهم، وعرفنا أن هوسرل وهيدغر ظاهراتيان من أطروحاتهما، هذه التصنيفات مهمة للباحث والمطالع، العلم أساسه التصنيف، ولذلك ليس صحيحاً أن عدم التصنيف هو المدخل لشرعة التعايش بين المختلفين، بل الأصوب أن نقوم بالنقد المستمر بين بعضنا وأن يختلف المختلفون على الحقيقة فهذه هي سمة المجتمعات الحية.
التصنيف هو الوسيلة الأولى لضبط مستوى الاختلاف والاتفاق، والجهل بالتصنيف هو جهل بالذات، بدليل أن الذين استفزهم نقد الإسلام السياسي وبخاصةٍ تنظيم وتيار «السرورية» هم سروريون من دون أن يعلموا. بعض هؤلاء من النكرات و«المعاتيه» يغرد بأنه معتدل بين طرفين ويدثر بتغريدات ضعيفة يدعي أنه يدافع بها عن الوطن ويعتبر التصنيف جزءاً من الضلال النفسي وأنه لم ينتقل من تيارٍ لآخر، وهذا علاوة على جهله الفاضح وفقدانه لأدنى درجات الخبرة والتجربة، ولا يفهم أن الوسطية مسألة ذهنية بالأساس، مردها إلى تصوره هو عن الطرفين، فابن لادن والظواهري والزرقاوي يطرحون أنفسهم كدعاة وسطية بناء على تصورهم الذهني للطرفين، فالوسط منطقة يقررها ذهنك بناء على تصورك لموقعك من الطرفين المتصارعين.
في عام 1993 ومع احتدام المعارك داخل الحركة الإسلامية فيما بينها، وبخاصةٍ بين «السرورية» و«الجامية»، أصدر الراحل الشيخ بكر أبو زيد عضو هيئة كبار العلماء كتابه «تصنيف الناس بين الظن واليقين»، وفي المقدمة بعد أن يقرر وجوب الرد على «أهل الأهواء» يحذر من التصنيف ويضرب أمثلة فلا يقال فلان «خارجي، معتزلي، أشعري، طُرقي، إخواني، تبليغي، مقلد متعصب، متطرف، متزمت، رجعي، أصولي، وفي السلوك مداهن، مراءٍ، من علماء السلطان، من علماء الوضوء والغسل، ومن طرفٍ لاديني، ماسوني، علماني، شيوعي، اشتراكي، بعثي، عميل» (ص 8). ولا يختلف أحد مع رأي الشيخ بضرورة عدم نسبة شخصٍ إلى فكرةٍ لم يقلها، وهذا خصص له فصلاً من الكتاب، وكان ظرف الكتاب يتعلق بموجةٍ هوجم بها بعض المشايخ من الطرفين «السروري» و«الجامي» بأوصافٍ مقذعة.
مع احتكاك المسلمين بالدراسات والعلوم الإنسانية يمكننا تجاوز هذه الحساسيات من التصنيفات، والضابط في ذلك القانون، ليس من حق الفرد وضع أحكام لا دنيوية ولا أخروية ضد مخالفه الفكري، هنا تتدخل الدولة لضبط ذلك الخلاف، ولكن ما دام التصنيف في ظلّ دائرة البحث ومحاولة الفهم للمقولات والأفكار، فهذا أمر سهل، بل مفيد أيضاً.
*
Jul 15, 2021
الفكر السياسي والأنسنة
مسألة التصنيف واحدة من المشكلات التي واجهت النظريات السياسية عموماً، والعمل السياسي المباشر بشكل خاص؛ حيث تحتاج السياسة إلى مرجعية أيديولوجية مشتقة من فكرها السياسي، ما يجعل من الضرورة بمكان إيجاد عناوين كبرى، من مثل القومية، والاشتراكية، الإسلامية، والليبرالية، واليسار واليمين، والتيار المحافظ، والراديكالي، وغيرها، وتلعب هذه العناوين، أدواراً في الصراع السياسي بين النخب والقوى السياسية، كما تهدف إلى استقطاب الجماهير أو الناخبين. وتتحول هذه التصنيفات في لحظات تاريخية ما، خصوصاً في لحظات الأزمات الوطنية والسياسية إلى عصبيات وهويات؛ حيث تنضوي كتل كبيرة من البشر تحت لواء عنوان سياسي ما، من دون أي تمييز بين العنوان وبين مضامينه التي يحملها في كل حالة على حدة.
من طبيعة الأيديولوجيا ودورها أن تكون العصب الذي يشد فئات اجتماعية ما إلى بعضها البعض، وأن تجعل لتلك الفئات هوية سياسية، تجد من خلالها معنى لوجودها الاجتماعي، لكن الأيديولوجيا نفسها، وفق التعبير النقدي الماركسي هي وعي زائف بالواقع، وقد مارس عدد من المفكرين الماركسيين في الشرق والغرب نقداً مهماً على الأيديولوجيا الشيوعية في تجربة الاتحاد السوفييتي السابق، أوضحوا حالة الافتراق بين الأيديولوجيا السوفييتية المزعومة وبين المرجعية الماركسية الأم، ولم تكن الأيديولوجيا الشيوعية وحدها من حظيت بمثل تلك المراجعات النقدية الواسعة؛ بل أيضاً القومية، والليبرالية، والاشتراكية، والإسلام السياسي، وأيضاً العولمة، على الرغم من قصر عمرها النسبي.
الفيلسوف الياس مرقص (1927-1991)، قد حذّر العاملين في مجال الفكر ورجال السياسة من أن «تأكل الصفة الموصوف»، فبحسب مرقص إننا عندما نقول فكر اشتراكي، أو قومي، أو ليبرالي، علينا ألا ننسى أن الأساس هو الموصوف أي الفكر، قبل أية لاحقة أخرى، والفكر يعني المنطق والتحليل والاستنتاج والاستدلال، والاشتغال بالمفاهيم، وهذا التحذير في حقيقته نابع من خوف عميق أن تحتل الصفة مكان الموصوف، وأن تتحول بحد ذاتها إلى لفظ أيديولوجي فارغ من أي معنى، وأحياناً إلى نقيضها الأيديولوجي، كما تحوّلت التجربة الاشتراكية في الكثير من الدول إلى رأسمالية المحاسيب الحزبية والنفعية، منقضّة على معناها الفكري والأيديولوجي والنضالي.
الحد من هيمنة الأيديولوجيا على الفكر السياسي له عدد من المداخل الفكرية، في مقدمتها العقل النقدي الذي يعمل على تفكيك العناوين الكبرى، والبحث عن مدى مطابقة تلك العناوين للواقع، إضافة إلى مسألة المطابقة بين ما تدعيه العناوين الكبرى في سياق محدد وبين ممكنات حواملها السياسية، فعلى سبيل المثال لا يمكن لنخب طائفية أن تبني دولة وطنية جامعة، حتى لو ادعت ذلك، أو رفعته شعاراً؛ حيث يصبح شعار الوطنية في مثل هكذا حالة مجرد شعار للاستهلاك فارغاً من أي مضمون، كما لا يمكن لرجال دولة فاسدين أن يحملوا لواء محاربة الفساد.
ما حاولنا الهروب من العناوين الكبرى بوصفها معياراً للتمييز بين رؤيتين ونظريتين سياسيتين، أو بين دستورين، أو بين نظامي حكم، فنحن بحاجة إلى معايير قابلة للقياس، يمكن الاحتكام إليها عند قراءة تجربة سياسية ما، أو عند التأسيس لعمل اجتماعي سياسي لتطوير وتنمية المجتمع في جوانبه كافة، وفي هذه الحالة لا يمكن الركون إلى معايير خاصة؛ بل ثمة ضرورة لمعايير عامة، يمكن أن تكون قابلة للتطبيق والقياس في مختلف المجتمعات،
يبرز مفهوم الأنسنة بوصفه مفهوماً عاماً؛ إذ ينبغي، على سبيل المثال لا الحصر، أن يحترم أي نظام سياسي أو حكومة، بغض النظر عن مرجعيتهما الفكرية والأيديولوجية، مجموعة من الحقوق الفردية؛ بحيث لا يكون بالإمكان تجاوزها، أو شطبها، من مثل حق الملكية الخاصة، وحرية التعبير، والمساواة القانونية أمام القضاء، والحصول على التعليم، والعلاج، والخدمات الأساسية، وتجريم الانتهاكات، وغيرها من الحقوق التي لا تحتمل أي ادعاءات أيديولوجية، أو لا ينبغي أن تكون قابلة للمساومة عليها.
مفهوم الأنسنة إعادة النظر بمفاهيم سياسية عديدة، من بينها، أو في مقدمتها مفاهيم الدولة، والحكم، والعقد الاجتماعي، وهي مفاهيم ينبغي أيضاً أن يعاد تعريفها وفق مفهوم الأنسنة ذاته؛ إذ لا يمكن، مثلاً، لدولة الغلبة أن تدعي احترامها الكامل لحقوق الأفراد، وبالتالي فإن الأنسنة تفترض هنا الانتقال من دولة الغلبة إلى الدولة الديمقراطية التعددية، كما من شأن الأنسنة أن تحوّل الحكم إلى مؤسسة خدمة عامة للمواطنين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق