دور النخب
يعوّل خبراء على الدور الذي من الممكن أن تؤديه النخب المثقفة، التي عجز عن سحقها نظام التفاهة، فنأت بنفسها عن مؤسساته، وانسحبت من أكاديمياته. هذه النخب، على الرغم من قلّتها وندرتها وتشرذمها، لا تزال قادرة على أن تفعل شيئا في وجه التدمير والتخريب الممنهجين، إنسانيا واجتماعيا واقتصاديا وبيئيا وأكاديميا وفنيا.
ويرى كثيرون أن النقابات والاتحادات كانت ستكون منصات تثقيفية فاعلة لولا غرقها في مشاكل السياسة. وأصبحت النقابات هي القلعة التي تحتمي بها الطبقة السياسية وتناضل من داخلها ضد النظام السياسي وقد أحدث هذا تقليدا شاذا منذ البداية لم يكن أحد يريد أن يسمّيه هو أن النقابة قد شكلت بديلا عن تطور المجتمع السياسي وأجّلت النضال السياسي الحزبي فتشوهت الساحة السياسية وتشوّه النضال النقابي، لذلك كان على النظام السياسي أن يفاوض النقابة بصفتها حزبا سياسيا فتلبي له مطالب سياسية تحت مسمّى نقابي (مطلبي).
*
نظام التفاهة العالمي يسود الكوكب*آلان دونو يعلن زوال المفاهيم ورواج السطحية*********
Jan 18, 2020
May 20, 2021
في العصر الاستهلاكي يُنحّى الطموحون ذوو المعايير العالية لصالح الباحثين عن النجاح السهل.
حالة من التناقص العجيب تَصِفُ هذا العصر الذي نعيش فيه، فعلى الرغم من هيمنة التكنولوجيا، على كافة مجرياته، حتى فاقت الثورة التكنولوجية أو ما عرفت بالثورة الرابعة، ثورة كوبرنيك، فإن ثمة تفاهة وسذاجة في مَن يخوّل لهم حكم هذا العالم. فالسِّمة الرئيسيّة لهذا العصر إن كان يوصف بعصر التكنولوجيا، أنه على المقابل يمكن وصف نظامه بالتفاهة،
“نظام التفاهة” وقد قامت بترجمة الكتاب إلى العربيّة مشاعل عبدالعزيز الهاجري. والكتاب صادر عن دار سؤال 2020.
العالم لعبة
فيقول لقارئه عليك أن تتخفّف أو تتخلَّص من الكُتب المُعقدة، ولا تُغالي في إظهار الفخر أو الارتياح لأن هذا قد يُظهرك بمظهر المغرور. بل عندما تتحدّث عن نفسك خَفِّف إحساسك بذاتيتك، ويجب أن تكون للمرء أفكار رخوة، فلقد تغيَّرَ الزمن وتبوّأ التافِهون موقِع السّلطة.
أما جوهر كفاءة الشخص التافه فيتمثل في قدرته على التعرُّف على شخص تافه آخر، كما يَدْعُمُ التافهون بعضهم بعضًا. ويربط بين تقسيم العمل وتصنيعه، (أي يدوي وفكري) في ظهور السلطة التافهة. كما أن التافهين حسب رأيه، لا يجلسون خاملين؛ إنهم يؤمنون بأنهم يعرفون كيف يعملون بجهد.
نظام التفاهة الآن فقد معناه الذي كان يُلصق به في الماضي، على اعتبار أنه يشير إلى قوة الطبقة المتوسطة، إذ صار الآن يعني سيطرة الأشخاص التافهين. وينتهي إلى القول بأن التفاهة تُشجِّعُنَا على الإغفاء بدلاً من التفكير. باختصار هي تحيلنا إلى أغبياء.
تسليع المعرفة
في نظام التفاهة يُنَحَّى الأشخاص الطموحون ذوو المعايير العالية لحساب أشخاصٍ أقلّ منهم مرتبةً، يبحثون عن النجاح السهل، ومع الأسف عناصر الفئة الثانية هم مَن يديرون اللعبة، لأنّ أفرادها أقرب إلى ما تتطلّبه الطبيعة اليومية للحياة من التبسيط، ونبذ المجهود والقبول بكل ما هو كافٍ للحدود الدنيا. فعجز هؤلاء عن الارتفاع إلى المرتبة الأولى يجعلهم لا يَأْلُونَ جهدًا في أن ينحدر أصحاب الفئة الأولى إليهم، فكما يقول جمال الدين الأفغاني فـ”التسفّل أيسر من الترفّع”. وثمة سبب آخر لانخراط الناس في اللُّعبة، يكمُنُ في التبسيط، فالسّلوك السياسي مثلاً يسعى باستمرار إلى تبسيط الأوضاع الفرديّة المُعقدة إلى أقصى حدود التبسيط.
يرى ألان دونو أن نظام الخبير (أو الخبراء) يُمثّل النموذج المركزي للتفاهة وقد سبق أن وصفهم إدوارد سعيد في كتابه “صور المثقف” بأنهم “السلطة في داخل المجتمع الجماهيري” وهم العلة التي يواجهها المثقف الحقيقي حسب تعريف سعيد. فوظيفة الخبير تكون بمثابة تحويل الاعتبارات الأيديولوجية والأفكار الصوفية إلى عناصر معرفية ذات مظهر نقي. ولهذا لا يمكننا أن نتوقع منه أن يُقدِّم لنا مقترحًا قويًّا أو أصيلاً. كما يشير المؤلف إلى التأثير السَّلْبي لهؤلاء الخبراء على الاقتصاد والأزمات الدورية، وقد وصفهم بأنهم أشخاص مُسرنَمون، وهو ما ينتج عنه وقوع انهيارات مفاجئة لأسواق المال. وهناك الخبراء المزيفون الذين يتقاضون رواتبهم مقابل ممارسة عاداتهم السيئة (الفساد والتدليس والتفاهة) من أجل إنقاذ الإوليغارشية (طبقة رجال المال التي تقوم بتسيير مقدرات الدولة من موارد).
يعيب آلان دونو على النظام الجامعي، وما أحدثه من أزمات مجتمعيّة كثيرة، فالأكاديميون وفقًا للصحافي الأميركي كريس هيدجيز هم المسؤولون عن عِللنا الاجتماعية. حيث أنّهم متخصصون
في مجالات معرفيّة فرعية متناهية الصغر، ومن ثمّ فهم فاقدون للقدرة على التفكير النقدي، بل ومهووسون بالتطوُّر الوظيفي، والحصول على درجات علميّة لأغراض الظهور الاجتماعي لا أكثر، كما أنّهم موالون إلى طبقات اجتماعيّة أقرب إلى القبائل. فمشكلة النظام الأكاديمي تتمثّل في الحرص على الترقيات الشخصيّة ونظم المعلومات، وبمعنى آخر فجامعات النُّخب كما يسميها هيدجيز قامت بنبذ كل نقد ذاتي، كما أن أساتذة الجامعات بسبب تدنِّي رواتبهم قاموا باستخدام طلبة الدراسات العليا كأدوات لخدمتهم.
كما أن ثمّة إشكالية أخرى لهذا النِّظام الأكاديميّ، تتمثّل في تسليع المعرفة، فالجامعات صارت أحد مكونات جهاز اليومي الصّناعيّ المالي والأيديولوجيّ. حيث ثمّة نظام خضوع يربطُ الجامعة بعملائها الذين يشترون عقولها المنتِجة بشكل دوري، وهو الأمر الذي كان يرفضه من قبل ماكس فيبر، مع أن الجامعة كانت تُغرق نفسها من خلال تسليم نفسها لإغراء العلاقات التجارية ذات الطبيعة الاختراقية، الفارق أن طلاب اليوم لم يعودوا مُستهلكين كما كانوا، بل صاروا هم أنفسهم سِلعًا، فالجامعة تبيع ما تصنعه منهم إلى زبائنها الجدُّد، وتحديدًا إلى الشركات وغيرها من المؤسسات المموّلة لهذه الجامعة. ومن ثمّ تأتي أهمية تصريح رئيس جامعة مونتريال عام 2011، بمكان حيث قال إن “العقول ينبغي أن تفصّل وفق احتياجات سوق العمل”.
وقد أتاح فرض منح من قبل هذه الشّركات للجامعات، أن تُمْلي من خلالها إرادتها على الجامعة، فالأساتذة والطلاب يعملون على المشروعات (أو الموضوعات) التي فرضتها هذه الشركات، ومن جانب آخر جعل الجامعة قابلة للتلاعب من قبل أي طرف على استعداد لتمويلها. وقد حذّر المفكّر الألماني جورج سميل بمصير الباحثين الذي يُوظَّفون لخدمة الاقتصاد. فكما يقول على الفكر أن ينتج المعرفة، بغض النظر عن التكلِّفَة وعن أثر هذه المعرفة في العالم. فالحقيقة أنّنا ابتعدنا عن عملية المعرفة، أي العملية التي نكتشف بمقتضاها وعينا وما هو قادر عليه. فلم تَعُد الجامعات تبيع نتائج أبحاثها، وإنما تبيع علاماتها التجارية تحديدًا. ومع الأسف الجامعات صارت شريكًا في عملية التلاعب بالزبائن، حيث أضحت أداة أساسية لشركات الضغط السياسي وهو ما ينتهي بهذه المؤسسات الأكاديمية إلى إنتاج الخبراء ذوي التخصص الضيق الذين يخدمون السوق، لا خلق العلماء ذوي الأفق الواسع القادر على مواجهة المشاكل الحياتية. فشعار المرحلة صار “الإنتاج من أجل الاستخدام”، ومن توابعها أن المواطنين والمفكرين والعلماء لم يروا في أنفسهم سوى تروس في آلةٍ كبرى.
المآزق التي وقعت فيها الأكاديميات جعلت من البعض يوجه سهام النقد لها، على نحو ما فعل ألكسندر أفونسو، الذي لم يتردد في مقارنة الأنماط المؤسسية للجامعة بتلك الخاصة بالجريمة المنظمة، وهو ما حدا به لأن يعنون بحثه هكذا “كيف تشبه الأكاديميا عصابة المُخدرات” حيث يقارن بين الدخول المتفاوتة بشكل كبير في شبكات التهريب، ونظام التعويض المالي السّائد في الجامعة.
الأميّون الجدد
يكتسبُ خطاب التفاهة لغة خاصّة به، خاصة أولئك الذين يجدون أنفسهم وسطًا في معركة إبداء الرأي، وهنا تصبح السّلبيّة قيمةً، ومع الأسف نظام التفاهة يحتاجُ إلى مناصرين له، ولهذا يحتاج إلى خطاب إغواء أو حشد، ولهذا الخطاب مواصفات معينة، كأنْ يعمد إلى القص أسلوبًا، إلى جانب العقلانية والعاطفة، وكنوع من الإغواء والحشد يلجأ رجال الدين إلى أسلوب القصّ. أما الأداة الثانية المعتمدة في خطاب التفاهة فهي اللغة الخشبية، وتتمثّل في النطق بتحصيل الحاصل الذي يقوم على الحشو أو مجرد التكرار بألفاظ مختلفة.
الأداة الثالثة تتمثّل في التبسيط الخطر، ففي مقابل الكتابات الأكاديمية المتهمّة بالتعقيد هناك عروض قائمة على التسطيح وغياب أصالة الفكر. ومع الأسف خطرها كبير، فإن تجاوز التبسيط حَدّه أدّى إلى خفض درجة الجودة. وفي المجال العلمي تعتبر جريمة، حيث ينزل بالمعرفة إلى مستوى قدرات غير العارف. لذا يدعو إلى اختيار الكلمات ويفضّل أن تكون لغة علمية، وأيضًا تجنُّب الكلمات المشحونة بالعاطفة، وألا تستخدم لغة خشنة للسخرية من لاعبين سياسيين، وذلك لأن الإعلان العلني للرفض وفق تصور ماكس فيبر، يُضعِف من ادّعائك بالحياد الأخلاقي.
ومن الموضوعات التي يناقشها المؤلف، تأثير الممارسات التجارية على أوجه الانحطاط المجتمعي والأخلاقي. فانتقال الحوكمة من النظام الاقتصادي على اعتبار أنها كانت تهتم بالإجراءات الخاصة بتنظيم أعمال الشركة وانتقالها إلى المجال السياسي، فرّغَت السياسة من الأفكار الكُبرى، كالحق والعمل والالتزام والقيمة والصالح العام، وبذلك شيئًا فشيئًا تحوّل الاهتمام بالصالح العام من شأن سياسي قيمي إلى مجرد إدارة عمليّة، فخلا العمل العام من منظومات الأخلاق والمفاهيم والمُثل العُليا والمواطنة والالتزام. وصار الهمُّ العام هو الخصخصة وتحويل المشروعات إلى القطاع العام بهاجس تحقيق الربح فقط، وبذلك تقلَّصَ مفهوم الدولة إلى مجرد “شركة تجارية”، وحلَّتْ مفاهيم جديدة تتوافق مع قواعد التجارة كالعميل كبديل عن مفاهيم مثل: المريض أو الطالب وغيرها. ويشير المؤلف إلى أن سوق الأوراق المالية صار منطقة حرب حقيقية. وهو ما يدفع بأن تنظم الدول برامج لتثقيف الناس حول الاقتصاد.
لا شكَّ أنَّ التفاهةَ هي مرحلة من مراحل تطوُّر النظام الرأسماليّ الاحتكاري، إذْ تحولت فيه المهنة إلى وظيفة لتضمن لصاحبها البقاء فقط على وجه الأرض. فلا أدل على التفاهة من أن يعمل العامل عشر ساعات عمل في مصنع السيارات دون أن يستطيع إصلاح عُطل بسيط في سيارته، وينتج العامل الزراعي غداء لا يستطيع شراءه، وتبيع كتبًا ومجلاتٍ ولا تستطيع قراءة سطر واحد، إذ أصبح العمل تغريبيًّا وتشييئيًّا كما صورة الفكاهي الشهير شارلي شابلن في مجلة الأزمنة الحديثة.
ويولي أدنو الثقافة أهمية كبرى، ويشير إلى أنها صارت أداة هامة في توطيد أركان نظام التفاهة. فأضحت الثقافة ثقافة شركات، فالأثرياء هدفهم استعراض القوة المالية، وبذلك تعكس حياة الترف التي يعيشون فيه الثقافة الصناعية الجمعية، فحسب قوله إنهم “لم ينتجوا ثقافة خاصة بهم منذ زمن طويل”.
ويرى المؤلف أن ثمّة علاقة وطيدة بين المال والصّمت، فكثير من المهن التي يتطلب من أصحابها قدر من الصمت تدفع لهم مبالغ إضافية مقابل ذلك. فثمة قانون يُعلي من قيمة الكبْت مفاده: “اصمتْ، أنا أدفعُ لكَ” وإن كان تبدّل في ظلّ هيمنة الحقب الشمولية وسيادة ثقافة الشركات إلى “ابتسمْ: أنا أدفعُ لك….”، ويشدّد على أنَّ الصحافة بما تُمارسه من دورٍ تسطيحي خاصّة بانشغالها بالأمور الشخصيّة والفضائح، تتجه كما قال الشاعر الإسباني بيدرو ساليناس إلى إنتاج “الأميّون الجدد” وهؤلاء لا يقرأون الكتب، وإنما يحرثون المجلات لساعات. وعن هيمنة الفنون السَّاقِطة والرديئة يُرجعه إلى أننا أسقطنا معايير الجمال
اغاني شعبي افراح
وينتهي في النهاية إلى أن الهدف النهائي من كل ما يحدث هو إسباغ التفاهة على كل شيء. ويتساءل في النهاية: هل نقفُ مكتوفي الأيدي والعالم يُدار بلُعْبة؟ بمعنى آخر: ما الذي يجب أن نفعله؟ يقرُّ آلان دونو، كإجابة على سؤاله، بأن هذه الصيغة المختزلة لوضعنا، هي المُحصلة التي أوصلنا إليها هذا النظام. ومع هذا فيعتبره (أي السؤال) نقطة الصّفر التي ننطلقُ منها، وترفع من وعينا السياسي والاجتماعي. فالأجدر أوّلاً أن نقوم بقطيعة مع هذه الأشكال الرهيبة وتوليد أشكال جديدة أخرى. وثانيًا التوقُّفُ عن السُّخْط ثمّ العمل بلا هوادة. وأن نعيد التلازم بين أن نفكّر وأن نعمل. فلا فصل بينهما. فالأساس أن نقاومَ ونقاوم ما سعوا إلى تشييئه وتسليعه.
*
جميل أن تقرأ ما يصدمك كما يقول «كافكا».. رائع أن يتغلغل كاتب لا تعرفه داخل نفسك، يستمع إلى أسئلتك المتقاذفة ويجيب عنها دون أن يعرفك أو يسمع بك.
يفعلها «آلان دونو» المفكر الكندى فى كتابه الحديث «نظام التفاهة» والذى يحلل فيه ظاهرة صعود التافهين وتقدمهم الصفوف وتسيدهم ولمعانهم وجنيهم الأموال والنفوذ.
لا تندهشوا إن عرفتم لصا يحترمه الناس، فينادونه بلقب «دكتور» أو«أستاذ». لا تستغربوا تسيد الأسافل وصعود التافهين وتلألؤ منعدمى الأخلاق، فالكون يسمح بذلك، والعصر يحرض عليه، ووقائع الحياة تدفعنا دفعا أن نشارك فى صناعة أبطال من ورق، وعظماء من لاشىء عبر وسائل الميديا الجديدة.
الربح السهل، الثراء السريع، النجومية المفاجئة كلها مصطلحات تتسق بالعصر وتجعل من التافهين مشاهير، أثرياء، ومحترمين.
يقول «آلان دونو» إن نظام الرداءة والتفاهة يسمح لإنسان تافه وجاهل بأن يتاجر فى المخدرات، ويعمد إلى تبييض أمواله، فيبنى مستشفى يُشغل فيه الأطباء، أو يُشيد مدرسة أو جامعة تُشغل مدرسين وأساتذة، أو يُنشئ شركة مقاولات يُوظف فيها مهندسين، فيغدو هذا التافه النكرة رمزا وقدوة فى المجتمع، بل صاحب الرأى والمشورة والسلطة والقول؛ أمرا ونهيا.
والمشكل أن صعود الأسافل يقطع سبل الأمل لدى المجتهدين الجادين من الشباب، يبدد أحلامهم، ويسرق طموحاتهم ويدفعهم دفعا إلى القنوط واليأس، فنرى منهم منتحرين، ونرى إرهابيين يبثون الكراهية لكل شىء وأى شىء.
إن كثيرا مما نعتبره نتاج حداثة وتطور وتقدم ليس كذلك، وهناك مصطلحات أساءت للقيمة وقوضت معانى الأشياء على رأسها مصطلح التريند، فسرنا مُسيرين خلف التافهين نحاكيهم ونكرر تفاهاتهم بحثا عن اللمعان، ما أفرغ القيم من معانيها.
ومن الضرورى أن نقاوم كما يقول دونو، أن نرفض، نخاصم التفاهة وننكرها، نعيد للفضائل معانيها، ونجدد الثقة بذواتنا وبمعانى الجهد،الكد، والموهبة لنعيد للأشياء جمالها.
قبل شهور كنت أجلس فى أحد فنادق القاهرة، ووجدت شبابا وفتيات يصطفون حول شاب تبدو عليه علامات الاستعلاء يتحدثون إليه فى وله غريب. وسألت أحد الشباب عمن يكون النجم القدوة، فقال لى إنه فلان «اليوتيوبير» الذى قلب «بفيديوهاته» الساخرة هو وزوجته الدنيا وحقق ثروات بالملايين بسبب اقبال المشاهدين على حسابه، وتذكرت أننى رأيت إحدى حلقات النجم وهو يسخر من المصريين الذين يقضون إجازة الصيف فى بلطيم أو جمصة أو الإسكندرية، بينما يلف هو وشريكته العالم تمتعا بالجمال والمال.
وقال لى «دونو» إنها طبيعة المرحلة، سمة العصر، وموضة الزمن الآنى. أن يتمدد اللا شىء إلى شىء كبير، لافت، مُضىء، لمّاع، شديد التوهج. يلتفت الناس لسفاسف الأمور، ينشغلون بتسريحة شعر ممثلة، أو «نيولوك» مطرب. يقفون احتراما لقواد ولص وجاهل، ويصفقون لما لا يستحق نظرة قبول.
قال لى «آلان دونو» قاوم ثم قاوم ثم قاوم، فالزبد يذهب جفاء، وما ينفع الناس يمكث فى الأرض.
*
آلان دونو يعلن زوال المفاهيم ورواج السطحية
مدى صواب أنظمتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي بدت كلها مهتزة في مواجهة وباء فرض نفسه بقوة على العالم بأسره، ووضع الحكومات أمام مرايا شفافة وكاشفة، لمأساة تفضيل المادة عن الإنسان.
آلان دونو، وهو أستاذ فلسفة بجامعة كيبك الكندية، أكاديمي وناشط معروف بتصديه إلى النظام الرأسمالي، يعتبر أننا نعيش "مرحلة غير مسبوقة"، أدت إلى "زوال المفاهيم العميقة، وحلول السطحية مكانها"، وهذا لا يحدث على مستوى الأفراد، بل على مستوى الدولة الحديثة ككل، إذ تدهورت المستويات الرفيعة للمفاهيم والقيم، وحل مكانها نظام سطحي هش يُعلي من شأن الرداءة، ولا يستنكر التفاهة، لأن كل هذا يخدم في النتيجة أغراض السوق.
بهذه الفكرة الرئيسة يواجه هذا المفكر قراءه، مُعتبراً أن ثمة لعبة تهيمن على كل نشاط إنساني، سواء في السياسة أو الإعلام أو التجارة، أو غير ذلك، إذ لا تُجرى المجاهرة بقوانين هذه اللعبة أو الأطر العامة لها، بل تُمارس فعلياً حين تُستبعد القيم من الاعتبار، ويهيمن مقياس الربح والخسارة، ويُدير اللعبة أولئك الأشخاص الطامحون إلى النجاح السهل والسريع، وتكون لغتهم "اللغة الخشبية"، أي المحملة بالحقائق وتأكيدات المؤكد، إنه ذاك الخطاب الأجوف الصالح لكل زمان ومكان. وبالنسبة إلى السلطة، فإن الشخص التافه هو الفرد المعتاد الذي يستطيعون نقل تعليماتهم من خلاله، بما يسمح بترسيخ نظامهم. بالتالي يؤدي قانون المصالح هذا إلى تشوه الجسد الاجتماعي العام، وإلى انكفاء الفرد الجاد والحقيقي على نفسه، وانسحابه بالتدريج من المجتمع، لأنه محاط بأشخاص ينطبق عليهم قول نيتشه "يُكدّرون مياههم كي تبدو عميقة".
*
Jun 10, 2021
الليبرالية الجديدة وعبء «نظام التفاهة»
لم تبدُ التفاهة يوماً مشكلة بحد ذاتها، فهي جزء من المجال العام، ولها وجوهها المتعددة، ومن التفاهة ما هو ضروري، وبخاصةٍ ما يرتبط بالجماليات الفاقعة، أو التهريج الحي، أو العروض البهلوانية. إنها تضفي على الواقع لوناً آخر. وإذا كان هيغل يقول في قاعدته الشهيرة: «وجود (الغير) = ضروري»، فإن وجود التفاهة ضروري أيضاً، لا يمكن تصور شكل المجال العام من دون الترحيب بنسبةٍ معقولةٍ من التفاهة، فالبشر ليسوا على مستوى واحد من التفوق المهني والعقلي والنفسي والعلمي، ولذلك فإن التافه جزء من المجتمع، وله حرية ممارسة تفاهاته ما دام لم يخرق القانون، وعلينا الاقتناع بأن نسبةً من التفاهات والتافهين لا بد أن نحتملهم في هذا العالم.
تبدو المشكلة أكثر تعقيداً حين تشيد التفاهة لحالتها نظامها، ويتحول ذلك النظام إلى شبكة مسيطرة ومهيمنة على كل شيء، تصبح تياراً جارفاً لا يُبقي ولا يذر. إن الاعتراض ليس على التفاهة بحد ذاتها، وإنما على «نظام التفاهة» كما هو عنوان كتاب آلان دونو، وقد استعرضت بعضه من قبل في مقالةٍ عنونتها بـ«مع آلان دونو حول (نظام التفاهة)» نشرت في 30 يناير (كانون الثاني) 2020، واختصرت مضمون الكتاب بقول المؤلف: «إن (وظيفة التفاهة) تشجعنا بكل طريقة ممكنة على الإغفاء بدلاً من التفكير... النظر إلى ما هو غير مقبولٍ وكأنه حتمي، وإلى ما هو مقيت وكأنه ضروري. إنها تحيلنا إلى أغبياء. فحقيقة أننا نفكر في هذا العالم باعتباره مجموعة من المتغيرات المتوسطة أمر مفهوم، وأن بعض الناس الذين يشابهون هذه المتوسطات إلى درجة كبيرة هو أمر طبيعي، ومع ذلك؛ فإن البعض منا لن يقبل أبداً بالأمر الصامت الذي يطلب من الجميع أن يصبحوا مماثلين لهذه الشخصية المتوسطة» (ص 85).
أعود لنقاش الموضوع بعد الاطلاع على دراسةٍ مهمة بعنوان «عصر التفاهة، والمجتمع الإنساني البديل» للمصطفى رياني، نشرها موقع «حكمة»، يعتبر الباحث أن «البدائل الحتمية لنظام التفاهة تقتضي عودة المثقف إلى الفضاء العمومي لجعله مجالاً للحوار والتواصل ومقارعة الأفكار والبرامج التي تساهم في بناء المواطن والرأي العام وقضاياه المصيرية كالحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية وحقوق الأفراد والجماعات والمساواة والسلطة وتوزيع الثروة. فالمواطنة لم تأتِ من فراغ، بل هي سيرورة متوالية الحلقات، أفضت إلى ما هو عليه الآن المجتمع الأوربي والمجتمعات المتقدمة بشكل عام من حقوق ومكتسبات وواجبات للمواطن داخل المجتمع، بالرغم من التراجع والجزر الذي تعاني منه حالياً».
اليوم، يحفز نظام التفاهة جموع الناس لاحتقار الجدّي من الأنشطة، أو العميق من العلوم والأعمال. على مستوى العلم ثمة احتقار عام للمعرفة وسبلها من مقالاتٍ رصينة، وأبحاثٍ جادة، وكتب قيمة، جانحين نحو التغريد الهش، والمحتوى الهزيل، والساذج من الاهتمامات والنقاشات. أما على مستوى العمل، فإن الثراء الفاحش والسهل والسريع الذي يحققه نجوم السوشيال ميديا خفّض من مستوى الشغف لدى الجيل الحالي نحو عوالم العمل والكفاح، إذا كان النجم يحقق بإعلاناته الملايين بثوانٍ معدودات، فإن شوَهاً عملياً سيحدث لدى عموم المتابعين.. هنا يبدو توحش نظام التفاهة حيث التشويه العام لمستويات أساسية لخلق مجتمعٍ صالح، وعلى رأسها العلم والعمل.
علاقة جائرة بين «فلسفات ما بعد الحداثة» و«الليبرالية الجديدة»، وقد التقيتُ مرةً الفيلسوف مطاع صفدي وكان مرتاعاً من هذا الربط باعتباره المترجم الرئيسي لفلسفات ما بعد الحداثة. ومؤسس «مشروع مطاع صفدي» لترجمة الينابيع، وصديقاً شخصياً لجيل دلوز، ومترجم كتابه «ما هي الفلسفة؟»، كان يعتبر هذا الربط بين المجالين، ما بعد الحداثي، والليبرالية الجديدة (وبخاصةٍ في مستواها السياسي) ليس ربطاً فلسفياً، بل مجرد عمل صحافي، كما رُبطت ممارسات قبيحة لدى بعض المراهقين الفرنسيين بالوجودية في منتصف القرن العشرين، وقد كتب أنيس منصور كتيباً لطيفاً عن هذا بعنوان «الوجودية».
إن التفاهة حدث متوسط بين الانهيار المجتمعي العام، وبين الثورة المعلوماتية الضارية، والتفاهة ترتبط بالفوضى البدائية الهمجية، أكثر من ارتباطها بانفلات الحرية، أو تشكل ذروات قصوى لليبرالية الجديدة، هذه نقطة الاختلاف مع الباحث. أما التحدي اليوم فيقع على عاتق الجميع للإجابة عن هذا السؤال؛ كيف يمكن للفرد النجاة بنفسه من قبضة نظام التفاهة؟!
*Jul 8, 2021
مواقع التواصل هناك معارك ضارية ليست بالسياسية ولا الاجتماعية ولا الاقتصادية لكنها في الاسفاف
*
Aug 5, 2021
مقارنة ــ لا أحبذها !
مع تطور الحياة أصبح العلماء والمفكرون والعباقرة في كل المجالات هم مرايا الأمم
الموهوبين في العلوم عندنا، فهذه مشكلة عالمية اختصت بها العصور الحديثة في تاريخ الجنس البشري، لأن كل الحضارات السابقة، وحتى هذه الحضارة الغربية إلى عهد قريب كانت تمنح المجد لعظمائها في السياسة والعلوم والفكر وترفعهم إلى أعلى مقاماتها وتفاخر بهم، وكان طلاب العلم يشدون الرحال في الحضارة الإسلامية ويتكبدون مشاق السفر ومخاطره لسنين سعيا وراء عالم سمعوا به في أقاصي أمصار الإمبراطورية الإسلامية.
والآن صار نجوم الغناء وعارضات الأزياء ولاعبو الكرة هم الأبطال والنماذج العليا التي يقتدي بها الرجال والنساء صغيرهم وكبيرهم، وصارت أجهزة الإعلام بمختلف أنواعها تتابع مراحل حمل نجمة سينمائية
نعم ماعلينا مما يحدث من جنون في العالم، وإن كانت كل المؤشرات تؤكد أننا لن نتوقف في محطة الجنون الكروي الذي يغطي على كل ما عداه، إذ إننا نسير وبخطى حثيثة في طريق «العولمة» وإن كان ذلك «بالشقلوب» لأن من ساروا فيه قبلنا ركزوا على التقدم في مجالات الصناعة والاقتصاد والعلم والتمدن والتحديث، وبعدما شبعوا حضارة اتجهوا إلى اللعب والترفيه، بينما بدأنا نحن بالعكس، ولا أدري هل سيقودنا هذا الطريق من اللعب إلى التقدم؟. أم أن المسار سيظل وفيا لقانونه الذي يقود من اللعب إلى الانحلال ؟.
*
«مفهوم القدوة وأشكالها وتمثيلاتها».
ثقافة التفاهة التي شكلتها سلطة مواقع التواصل الاجتماعي التي خلقت كل فرد مواطناً عالمياً بحيث أصبح التمسك بالهوية الخاصة كالقابض على الجمر، والعوالم الافتراضية التي مزجت بين الواقع والوهم لا تحمّل داخلها نسقية ثقافية؟.
فالنجم وما يعادله اليوم الذي يتحكم في ثقافة التفاهة تنطلق سلطته من رضا الجمهور عنه وتُلغى تلك السلطة بمجرد سحب الجمهور منه ثقة الرضا؛ لذا قلت سابقاً سلطة الجمهور تبتعد عن دائرة صناعة سلطة النجم لكن لا تغادر تلك الدائرة.
أما المثقف في سلطة النسقية الثقافية التقليدية كان هو المسيطر على حركة وعي الجمهور؛ بسبب ندرة وسائل الاطلاع والثقافة التي كانت قاصرة على الكتاب والصحف والذي كان يلعب المثقف دور البطولة في إنتاج موادهما، دور منحه فرصة قيادة وعي ذلك الجمهور.
حرب دلالات لا تكتمل إلا بإسقاط المنافس من العلماء والمفكرين والمثقفين الذين يتحولون في عالم التفاهة إلى رسوم كاريكاتيرية لسحب قيمة التأثير من بين أيديهم ليظل الجمهور مقيدا بمفاصل عالم التفاهة عابدا لأوثانه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق