الثلاثاء، 26 أبريل 2022

القانون الطبيعي عند الفلاسفة المسلمين . لماذا نطيع القانون؟

Feb 1, 2020

بعض المستشرقين روّج لصورة شيطانيّة عن الفلسفة الإسلاميّة، باعتبارها مجرد فلسفة يونانية مُشوّهة كُتِبت بحروفٍ عربية، بمعنى أن القامات الفكرية التي أنجبها العالم الإسلامي (الفارابي، ابن رشد، الإمام الغزالي…) اقتصرت على ترجمة كتب أفلاطون وأرسطو في فترةٍ عرف فيها العالَم الإسلامي انفتاحاً كبيراً على الثقافة اليونانية، نال على هذا الانفتاح وافر الإشادة والثّناء. بيد أنّ الفلسفة الإسلامية شكلت حقلاً معرفياً زاخراً بالأفكار والمعارف التي لا تنقضي عدّا، وبذلت جهداً جهيداً في نقل التراث اليوناني إلى اللغة العربية، ودرس روادها أعمال أفلاطون وأرسطو دراسة متأنِّية، واستشكلوا القضايا التي طرحتها الفلسفة اليونانية.

لا أنكر أنّ العقل الإسلامي ظلَّ متقوقعاً حول الفقه ودراسة الدين، ولم يتجاوز ذاته، ليفتح أفقاً جديداً للتفكير يساهم بشكلٍ كبير في إغناء محتوى الفلسفة الإسلامية، التي ظلّ طموحها صغيرا، وهو تحقيق الحكمة والشريعة وأن يصبحا معاً في انسجام وتناسق. هذه أبرز المؤاخذات التي تطال الفلسفة الإسلامية في كلّ حين.

الفلاسفة المسلمين في العصر الوسيط تكبدوا عناء البحث والتقصي، واشتغلوا في عدّة أمور كانت تخصُّ حياتهم اليومية، لعل أبرزها هو الشق السياسي، فالسياسة هي قضية لا يحملها أحد على عاتقه إلّا إذا كان واقعه السياسي متشرذما ويقفُ على شفير الهاوية. السياسة هي فنّ تدبير شأن المجتمع، لكن إذا كان صاحب السلطة السياسية متغطرساً، يحكم بدون عدل، فلا بد أنْ تُكسر أنفة الدب الداشر حتى تهتزّ غطرستهُ اهتزازا. في الشق السياسي، سأشتغل على موضوع شائك ومُستعص غير متداول بشكلٍ كبير، وهو القانون الطبيعي عند المسلمين، أي كيف نظّروا له؟ وسأطرحُ نموذجين لم أخترهم اعتباطيا بل لمكانتهم المرموقة، ولاهتمامهم الكبير بالشأن السياسي بكل تشعباته.

المدينة في تصور فلاسفة اليونان، أفلاطون وأرسطو، عبارة عن مجموعة من القوانين التي تُنظِّم المُجتمع، وكان يُنظر للفرد فيها باعتباره حيواناً اجتماعياً وسياسياً، وبالتالي يجبُ عليه العيش في المدينة بالضرورة وأخذِ سِماتها والانصهار فيها، بهذه الوسيلة فقط يُمكنهُ أن يُحقِّق الخير والكمال والانسجام. الفرد في الأصل، يسعى للكمال والخير وهذا السعي لا يتحقّقُ إلّا بالانسجام مع روح المَدينة.

عرّف ابن رشد الشرائع قائلاً “إنّ الشّرائع هي الصناعة الضرورية المدنية التي تُؤخذُ مبادئها من العقل والشّرع، ولا سيما ما كان منها عامّاً لجميع الشرائع وإنْ اختلف بذلك بالأقل والأكثر” [ابن رشد، تهافت التهافت، الطبعة الأولى، المطبعة الإعلامية، مصر، 1302 هـ، ص 139].
نستشفُّ من قول ابن رشد هذا، أنّ القانون هو صناعةٌ حتميّة مدنية، وأنّ المجتمع، في أيّ كيانٍ جغرافي، لا يمكنُ أن يصِل إلى مُبتغاه (وجوده) الذي يُفضي مباشرةً إلى تحقيق السعادة، التي تعدُّ حلم كل إنسانٍ يمشي على الأرض، إلّا عن طريق إبداع صيغ قانونية وظيفتها الأساسية السهر على شؤون المجتمع حتى ينعم بالاستقرار ولا يجتاحهُ دبيبُ الفوضى. وعلى ذِكر مفهوم السعادة، فإنها لا تتحقّقُ بشكلٍ كلّيّ، حسب ابن رشد، إلّا بشريعة تأخذُ بمبادئ العقل وتسترشدُ بالوحي السماوي، أي بقانون يصدرُ من العقل والشّرع.
ابن رشد هو قامة فلسفية تميّزت بالإبداع في الجانب السياسي، عبر تعقُّب أساس القانون ومرتكزاته التي يقومُ عليها، لأنّه يعرفُ مدى أهميّة القانون في تنظيم المُجتمع، وتسيير أمور الشعب بشكل عادل. وله أيضاً فضل كبير في الجمع بين الشريعة الحقّة وبين الفلسفة. ما توصّل إليه ابن رشد، أي الجمع بين الشريعة والفلسفة لا يمكنُ التغاضي عليه، وإلّا سنُمارس إقصاءً مُجحفاً في حقِّه.
*
 تقليد القانون الطبيعي لتوماس اكيوناس لوجدنا أن القانون يمتزج مع الدين، وهكذا فإن القانون يستقي سلطته من المصدر نفسه للإملاءات الدينية، ولكن السؤال يصبح أكثر صعوبة ضمن السياق العلماني، فطبقا للوضعيين القانونيين (الطرح الأكثر قبولًا على نطاق واسع)، فإن التاريخ- أو الأصل المؤسسي- للقانون هو ما يمنحه القوة ويضعه فوق أي قاعدة أو معيار، لكن هذا الطرح يخلق مشكلة تشبه مشكلة أيهما أول الدجاجة أم البيضة، لأن السؤال لا يزال كيف تصبح مؤسسة ما ذات سلطة قانونية إن لم يكن من خلال قوة القانون.
الوضعيون القانونيون أن تفسيرهم يتطلب القبول، وهذا يعني أنه بغض النظر عن النظرية القانونية التي يؤمن بها المرء، فإن هناك عنصرا نفسيا يعتبر ضرورياً من أجل عمل أي نظام قانوني، وبدون قبول عدد كاف من الأفراد، فإن المؤسسة لن تستطيع البقاء، وهكذا فإن ثقة العامة- أو الشعبية- تعتبر الجوهر الأساسي لحكم القانون.
نظر الوضعيين من خلال الأخلاق (أي الاعتقاد بأن هناك التزاماً أخلاقياً بإطاعة القانون) أو الإكراه (إطاعة القانون بسبب الخوف من عواقب عدم عمل ذلك) أو بحكم العادة (التقيد بالقانون بشكل تلقائي حسب الأعراف السائدة)، لكن وكما جادل توم تايلر من كلية الحقوق في جامعة يال فإن احترام القانون ومؤسساته هو دافع أقوى بكثير من الخوف من العقاب، ويُظهر عمل تايلر كيف يمكننا الانتقال من توازن مجرد الامتثال (حيث يلتزم الناس على مضض بالحد الأدنى مما يتطلبه القانون منهم) إلى ثقافة التعاون (حيث يتم تحفيز الناس بشكل تلقائي للمشاركة بحماس في المجتمع ومؤسساته القانونية).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق