إذا كانت الأديان الوضعية (الأيديولوجيات) استمدّت قدسيتها من ارتباطها المزعوم بالعلوم، واستمدّت شرعيتها من إنجازات بشرية في نهاية الأمر، فإنها استعانت بآليات التقديس الديني من أجل ترسيخ مقولاتها وتحويلها إلى قوانين ملزمة للجموع البشرية. أما الأديان السماوية لم تكن في حاجة إلى أي استعارة من أجل شرعنة ذاتها، فهي استمدّت قدسيّتها من انبثاق هذه الأديان عن إرادة الله مباشرة، وتستمد شرعيتها من تعالي الله وقدرته الكلية على معرفة كل شيء، وآليات التقديس توجد عبر الأوامر والنواهي التي يفرضها الله على عبده التي جاءت بها الكتب السماوية. فهذه الشرعية، في جميع الحالات، تأتي من خارج المجتمع البشري، لتضبط سلوكه عبر هذه الأوامر والنواهي، وليس على الإنسان سوى طاعتها من دون نقاش والالتزام بها، وهو لا يحتاج إلى أن ينتج قوانينه في ظل وجود قوانين إلهية، وإلا فإنه يقع في المحرم ويخالف الأوامر الإلهية.
مع الشافعي تحديداً، جرى ترسيخ النص الديني بوصفه المرجع النهائي لكلّ ما تفرزه الحياة الإنسانية، فمع ترسيخه مقولة "ما من نازلةٍ إلّا ولها في كتاب الله حكم" وانتقالها إلى كلّ المذاهب الإسلامية الأخرى، أصبح النص القرآني المرجع النهائي وكتاب الحلول لكل المشكلات أو النوازل التي وقعت في الماضي، والتي تقع في الحاضر، أو التي ستقع في المستقبل.
ا المبدأ الكلي على تحويل العقل العربي إلى عقل يقتصر دوره ومهمته على تأويل النصّ الديني، وإجلاء غموضه لإيجاد حلول للمشكلات المطروحة على الواقع اليوم، وهو ما عمل عليه اتجاهان متناقضان، إلى إغراق الدين في الإجابة عن القضايا التفصيلية من جانب، وعلى تعقيد حياة البشر من خلال البحث عن مبرّر شرعي للممارسات اليومية التي يقومون بها. وهذا ما سوّغ تدخل مشايخ الدين في الشؤون الدنيوية. ويستند التدخل إلى قاعدتين رئيسيتين: الأولى، أنّ الأوامر الإلهية التي جاءت في كتاب الله هو ما ينبغي التقيد به وتطبيقه في إيجاد الحلول للشؤون الدنيوية، وليس القانون الإنساني. الثانية، ليس القانون الإلهي واضحاً في جميع الحالات بما يكفي لأن يفهمه الإنسان العادي، لذلك هو بحاجة إلى تأويل لاستكشاف خباياه. وليس هذا الاستكشاف متاحاً لكلّ البشر، ولا يملك هذه القدرة سوى حفنة خاصة من البشر.
توحيد ادّعاء الحركات الأصولية مع إرادة الله يجعل أيديولوجيتها مطلقة، ويسمح لها بالادّعاء بأنها تمتلك حقائق مطلقة صالحة لكل زمان ومكان
"الحاكمية لله" هي القاعدة التي تحكم طبيعة الأحكام الدينية، وإنّ دور الإنسان فيها مجرّد دور تنفيذي. وهو المبدأ الذي حكم ويحكم سلوك الحركات الأصولية، ويحكم تصوّراتها عن المجتمع الذي يسعون إلى بنائه، وهو ما عبّر عنه الأب الروحي للحركات الأصولية، سيد قطب، بالقول: "إنّ الجاهلية هي بالضرورة الخضوع لحكم البشر، لأنّ الحاكمية هي، مفهومياً، حكم الله".
يتضامن مفهوم الحاكمية مع مفهوم "الفرقة الناجية" عند الحركات الإسلامية الأصولية، ما يعني أنّ مبدأ "الحاكمية لله" يتحوّل إلى أن جماعة أيديولوجية معينة تدّعي لنفسها الحقّ في تمثّل إرادة الله،
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق