Apr 15, 2020 Oct 9, 2021
درس الرأسمالية المتوحشة للهواة الجدد
ضرورة العودة واللجوء للتأميم، في مواجهة الأزمة الكارثة الاقتصادية العالمية، لهاجت الدنيا ووصفه الجميع بالجنون عند الحد الأقصى، أو اتهموه بالشيوعية والاشتراكية عند الحد الأدنى.. ليس التأميم من ممارسات هذه وتلك.
تاريخ النشر: 15/10/2008
الكارثة المالية الاقتصادية الراهنة، التي ضربت أسس الاقتصاد في أكبر الدول الرأسمالية، من الولايات المتحدة الأمريكية إلى الاتحاد الأوروبي أصحاب نصف الاقتصاد العالمي، لجأت هذه الدول الرأسمالية العريقة إلى التأميم.. تأميم العديد من البنوك والمصارف والمؤسسات المالية الكبرى، ولم يكن ذلك التأميم جنوحا رأسماليا نحو الشيوعية كما يتصور البعض، لكنه جاء علاجا لأزمة، كان هو الاختيار الأنسب لمواجهتها من وجهة نظر المسؤولين.
المغزى أن التأميم بقدر ما هو إجراء مكروه في الغرب الرأسمالي، وفي بلادنا أيضاً، بقدر ما هو أصبح علاجا فوريا لأزمة عالمية، أصابت قلب الاقتصاد العالمي، بجلطة شبه قاتلة، خصوصا إذا ما دخل هذا الاقتصاد في ركود شديد وطويل بحيث يشبه حالة الغيبوبة العميقة.
مسؤولين كبار يدّعون أن الأزمة التي هزت العالم كله لن تؤثر فينا، فاقتصادنا قوي وبعيد عن الآثار السلبية لهذه الأزمة وهو كلام مضحك، إن لم نصفه بأوصاف أخرى يعاقب عليها القانون، لأن بلادنا سواء كانت فقيرة ضعيفة الموارد والمصادر، أو كانت نفطية، ستكون من أكثر بلاد العالم تأثرا، لأن اقتصادنا على صغره وهامشيته، هو جزء من ذلك الاقتصاد الرأسمالي الغربي والدولي، الذي هزته الكارثة، بل وهو الأضعف.
كتاب ومثقفون، يطلقون الأفراح، ابتهاجا بهزيمة الرأسمالية الغربية في عقر دارها، وعجزها عن مواجهة انهياراتها المدوية، ومن ثم لجوئها لاستعادة النموذج الاشتراكي بتأميم البنوك والمصارف والهيئات المالية ووضعها تحت سيطرة الدولة مباشرة، وإطلاق يد الدولة في التدخل في حركة الاقتصاد والسوق والتجارة تناقضا مع المبادئ الليبرالية والرأسمالية المستقرة.
بين التهوين والتهويل يجدر بنا أن نفكر بعقلانية ونعمل بواقعية بحثا عن أساليب جديدة وأفكار مختلفة، للتخفيف من تأثيرات الأزمة العالمية هذه على أوضاعنا بشكل عام، وعلى اقتصادنا بشكل خاص، فليس صحيحا أننا بعيدون عنها وعن إعصارها المدمر، ولكن الصحيح والواضح أننا جميعا في قلب الأزمة، سواء كنا فقراء أو أغنياء، لأن كل اقتصادنا وحركتنا المالية والتجارية مرتبطة باقتصاد الأزمة في الغرب الرأسمالي.
نموذج الدول العربية النفطية، التي يعتمد اقتصادها على استخراج وبيع النفط، وكلها مرتبط بالضرورة بالاقتصاد الغربي صاحب خبرة استخراج النفط ونقله وتسويقه وبيعه في الأسواق المفتوحة من اليابان شرقا إلى أوروبا وأمريكا غربا.
راكمت هذه الدول أموالا هائلة من مداخيل النفط، لم تستهلكها كلها في التنمية والتحديث وإصلاح الأوضاع الاجتماعية لشعوبها، ولكنها عمدت إلى استثمار جزء كبير من مداخيل النفط في الأسواق الأوروبية والأمريكية، وأنشأت صناديق سيادية خاصة أودعت فيها مئات المليارات من الدولارت، ودخلت في مشروعات عملاقة واشترت أذون الخزانة الأمريكية وأودعت أرصدتها (الحكومية والشخصية والأهلية) في بنوك الغرب، ويقدر خبراء اقتصاديون مجمل هذه الأموال النفطية المستثمرة في الغرب بثلاثة تريليونات دولار على الأقل، أصبح الآن رهينة بل ربما ضحية
للأزمة المالية الجارية، إن لم تستنزف
كلها فجزء كبير منها حتما يضيع هباء مما يشكل ضربة موجعة لاقتصاديات هذه الدول.
النموذج الثاني، بعد الدول النفطية، هو نموذج مصر ذات الإمكانات المحدودة، والقدرات الاقتصادية القليلة المستنزفة بزيادة عدد السكان، وبالفساد والتهريب وبإساءة توزيع الثروة، ثم وهبها الله فوق ذلك بعض أصحاب القرار الهواة ممن فهموا الرأسمالية بطريقة قاصرة، ولم ينتبهوا إلى أن الرأسمالية تجدد نفسها باستمرار.
على مدى السنوات الثلاث الماضية أخذت الحكومة المصرية على نفسها عهداً بأن تنتهي سريعا من برنامج ما يسمى بالإصلاح الاقتصادي، وأن تبيع كل شيء بما في ذلك البنوك وأصول الدولة وأراضيها ومصانعها ومؤسساتها، وهي في طريقها لخصخصة السكك الحديدية والطرق والمرافق العامة وربما التمهيد لخصخصة قناة السويس والنيل والمجاري المائية، إيمانا منها بضرورة تفكيك سلطة الدولة وهيمنتها على مصادر الإنتاج وعلى مجمل الاقتصاد، وترك كل شيء للقطاع الخاص تحت نظرية حرية السوق والاقتصاد الحر، وكأنها لا تزال متوقفة متجمدة عند مبدأ آدم سميث فيلسوف الاقتصاد الرأسمالي قبل ثلاثة قرون، الذي قال دعه يعمل دعه يمر، أي كل واحد يفعل ما يريد بحرية، بعيداً عن أي سلطة للدولة.
لقد سيطرت فكرة تخلي الدولة عن مسؤوليتها، على عقول وأفكار هؤلاء الهواة، الذين رأوا في المجتمعات الأوروبية والأمريكية نموذجا فذا للنجاح والتقدم، مؤمنين بطريقة عشوائية بما قال المفكر الأمريكي الياباني الأصل فرانسيس فوكاياما، بنهاية التاريخ انتصار الرأسمالية إلى الأبد.
وأشك أن الهواة بحكم استسهال خطف الأفكار السابحة في الفضاء، لم يعرفوا أن فوكاياما قد راجع أفكاره، وتراجع كثيرا على مدى السنوات الخمس الأخيرة عن بعض مواقفه، اتساقا مع حركة التطور والتاريخ وأحداثه، وبالتالي لم يدركوا أن الاندفاع المفاجئ والخطوات المتسرعة، في نقل مجتمع قديم مثل المجتمع المصري من أوضاعه شبه المستقرة على مدى عقود، إلى مجتمع يأكل فيه القوي والغني الفقير والصغير، بلا تدخل من دولة أو حكومة تحمي وترعى وتضبط ميزان توزيع الثروة وحركة التنافس الصراع بين الطبقات الاجتماعية المختلفة، إنما هو انتحار، بل هو نحر غير شرعي للمجتمع كله، ولنا أن نتأمل الآثار السلبية الهائلة على الطبقات الاجتماعية المختلفة جراء هذه السياسات، التي جاءت في وقت وقعت فيه الرأسمالية المتوحشة في واحدة من أخطر أزمات التاريخ.
وأظن أن الهواة الجدد يعرفون أن مصر تعتمد على خمسة مصادر رئيسية في اقتصادها، هي قناة السويس والبترول وتحويلات المصريين العاملين في الخارج والتصدير الذي يتضاءل أمام شهوة الاستيراد المفتوح، والسياحة المتذبذبة بحكم متغيرات السياسة والأمن.. وكلها مصادر عرضة للتأثر السريع بحركة الاقتصاد العالمي، وبالتالي فإن الأزمة المالية العالمية تصيبها مباشرة وربما بآثار قاسية ستكشف عنها الأيام القادمة.
فإذا أضفنا إلى ذلك أن الأزمة العالمية ستؤدي بالضرورة إلى كساد وجمود، يؤثران على حركة الاستثمار العالمي، لعرفنا أن الاستثمارات الأجنبية في مصر، وكم هي محدودة، ستتناقص، وكذلك فإن المساعدات والمعونات التي تتلقاها مصر من أمريكا ودول الاتحاد الأوروبي ستنكمش وربما تتوقف نهائيا، وهو أمر خطير يستدعي اهتماما أعمق من جانب الدولة والحكومة، والبحث عن سبل تخفيف وطأة الأزمة المالية على البلد عموما وعلى الفقراء خصوصا، بدلا من استسهال اللجوء إلى التهوين والتعمية وإنكار الحقائق ثم إطلاق التصريحات الوردية التي لا تقنع أحدا على الإطلاق إلا السذج.
نختتم بالتذكير بأن الأزمة الاقتصادية العالمية الكبرى عام ،1929 ظلت تراكم آثارها المدمرة على الاقتصاد العالمي، حتى وصلت بالعالم إلى إشعال الحرب العالمية الثانية بكل عنفوانها التدميري وضحاياها الستين مليونا، لكي تضخ ماء الحياة وحركة الازدهار في الصناعات العسكرية التي كانت تعاني آنذاك من الكساد، وخصوصا في الولايات المتحدة الأمريكية صاحبة
أكبر وأقوى صناعات عسكرية في تاريخ البشرية.
فهل ستؤدي الأزمة المالية الراهنة وكساد الاقتصاد العالمي المتوقع، إلى إشعال الحرب العالمية الثالثة، التي نرى مقدمتها جارية في أفغانستان والعراق والصومال، حتى تزدهر الصناعات العسكرية مرة جديدة؟
+++++++++++++
صراع النظم
يتعارض نموذج الرأسمالية الصيني "الرأسمالية السياسية" مع النموذج الغربي للرأسمالية "رأسمالية الجدارة الليبرالية"، وذلك في الوقت الذي يشهد فيه العالم اتساع نطاق الدور الصيني على مختلف الأصعدة، لذلك من المرجح أن تحل "الرأسمالية السياسية" محل "رأسمالية الجدارة الليبرالية" في العديد من البلدان حول العالم، وقد أوضح "ميلانوفيتش" أن ميزة الرأسمالية الليبرالية تكمن في نظامها السياسي القائم على الديمقراطية، حيث توفر الديمقراطية أدوات تصحيحية للسياسات الاقتصادية والاجتماعية التي قد تضر بالصالح العام.
من ناحية أخرى، فإن الرأسمالية السياسية تمتاز بإدارة أكثر كفاءة للاقتصاد، ومعدلات أعلى للنمو، ويضيف الكاتب أن حقيقة أن الصين كانت الدولة الأكثر نجاحًا على الصعيد الاقتصادي خلال نصف القرن الماضي تضعها في موقع يمكِّنها من تصدير نموذجها الاقتصادي والسياسي إلى دول العالم، وقد تجلى ذلك من خلال "مبادرة الحزام والطريق"، وهو مشروع طموح لربط عدة قارات من خلال بنية تحتية مطوَّرة بتمويل صيني.
وتمثل المبادرة تحديًا أيديولوجيًّا لطريقة تعامل الغرب مع التنمية الاقتصادية في مختلف أنحاء العالم. فبينما يركز على بناء المؤسسات، فإن الصين تضخ الأموال لبناء المشروعات، وبالتالي ستعمل "مبادرة الحزام والطريق" على ربط الدول الشريكة للصين بمجال نفوذها الحيوي.
مستقبل الرأسمالية
استشهد "ميلانوفيتش" بمقولة فيلسوف الليبرالية الحديثة "جون رولز": "إن المجتمع الصالح يجب أن يعطي أولوية مطلقة للحريات الأساسية على الثروة والدخل"، ومع ذلك، يؤكد أن التجربة تُظهر أن الكثير من الناس مستعدون لمقايضة الحقوق الديمقراطية مقابل الحصول على دخل أكبر، ففي عالم اليوم المليء بالنشاط التجاري المحموم، نادرًا ما يتمتع المواطنون بالوقت أو المعرفة أو الرغبة في المشاركة في القضايا المدنية العامة ما لم تكن تهمهم مباشرة.
وتكمن المشكلة في أنه من أجل إثبات تفوقها ومواجهة التحدي الليبرالي، تحتاج الرأسمالية السياسية إلى تحقيق معدلات نمو مرتفعة باستمرار. لذا، ففي حين أن مزايا الرأسمالية الليبرالية طبيعية وتلقائية، فإن مزايا الرأسمالية السياسية تحتاج لإثباتها باستمرار، كما أن لدى الرأسمالية السياسية ميلًا أكبر لصنع سياسات تُسفر عن تداعيات اجتماعية سلبية، يصعب تصحيحها لأن النخبة السياسية تفتقد الحافز لتغيير المسار، مما يترتب عليه استياء شعبي بسبب انتشار الفساد في ظل غياب حكم القانون.
وتحتاج الرأسمالية السياسية إلى إثبات إيجابياتها بشكل مستمر، وقد يُنظر إلى هذا على أنه ميزة من وجهة نظر الداروينية الاجتماعية، حيث يدفع الضغط المستمر إلى شحذ قدرتها على إدارة المجال الاقتصادي ومواصلة الإنجاز. وهنا يثور التساؤل: هل سيوافق الرأسماليون الجدد في الصين مستقبلًا على استمرار تقييد حقوقهم وخضوعهم لوصاية الدولة المستمرة، أم سيحاولون تنظيم أنفسهم والتأثير في السياسات الحكومية كما حدث في الولايات المتحدة وأوروبا؟
ويشير "ميلانوفيتش" إلى أن مرور ما يقرب من 2000 عام من الشراكة غير المتكافئة بين الحكومة الصينية والشركات ورجال الأعمال يمثل عقبة رئيسية أمام تحول الصين واتّباعها المسار الغربي.
الاقتراب من البلوتوقراطية
ماذا يحمل المستقبل للمجتمعات الرأسمالية الغربية؟ يوضح "ميلانوفيتش" أن الإجابة على هذا التساؤل تتوقف على ما إذا كانت "رأسمالية الجدارة الليبرالية" ستتمكن من تطوير نفسها نحو مرحلة أكثر تقدمًا تجاه ما يمكن تسميته "رأسمالية الناس" “people’s capitalism”، حيث يتم توزيع الدخل بشكل أكثر عدالة، الأمر الذي يتطلب توسيع نطاق ملكية رأس المال في المجتمع، بما يتجاوز القيمة الحالية التي تبلغ 10% في يد الأثرياء.
ولتحقيق قدر أكبر من المساواة، يجب على الدول تطوير حوافز ضريبية لدعم الطبقة الوسطى، وفرض ضرائب أعلى على الأثرياء، وتطوير التعليم العام المجاني، ومع الوقت سيسفر التأثير التراكمي لهذه التدابير عن زيادة ملكية رأس المال في المجتمع، ودعم المهارات، بهدف تحقيق قدر أكبر من المساواة في ملكية الأصول، سواء المالية أو المهارية.
ختامًا، يؤكد الكاتب أن الأمر لن يتطلب سوى وضع بعض السياسات المتواضعة لإعادة توزيع الموارد، وإذا فشل الغرب في معالجة مشكلة عدم المساواة المتنامية، فإن "رأسمالية الجدارة الليبرالية" تخاطر بالسير باتجاه "الرأسمالية السياسية"، فكلما اندمجت القوة الاقتصادية والسياسية مع بعضهما في الأنظمة الرأسمالية الليبرالية، تتحول الرأسمالية الليبرالية إلى بلوتوقراطية (التي تعبر عن أحد أشكال الحكم التي تتميز فيها الطبقة الحاكمة بالثراء)، مع اكتسابها بعض ملامح الرأسمالية السياسية، خاصةً ما يتعلق بإعادة إنتاج نفس النخبة إلى أجل غير مسمى في المستقبل.
المصدر:
Branko Milanovic, “The Clash of Capitalisms: The Real Fight for the Global Economy’s Future”, Foreign Affairs, January/February 2020, pp. 10-21.
الرأسمالية المتوحشة تقتلنا بقلب بارد !!
2017
النظام الرأسمالي قائم بالأساس على الاستغلال، وهو نظام اقتصادي ينقسم فيه المجتمع إلى طبقتين أساسيتين، الأولى تسمى طبقة البرجوازية، وهم أصحاب رؤوس الأموال الذين يسيطرون على الثروة والسلطة داخل المجتمع، والثانية تسمى طبقة البروليتارية وهم العمال الذين لا يمتلكون غير قوة عملهم، ويضطرون إلى بيعها من أجل البقاء على قيد الحياة، والأولى تسعى دائمًا إلى تعظيم أرباحها ومكتسباتها وثرواتها على حساب الثانية، وعبر استغلال فائض قيمة عملها ومص دمائها، وهذا النظام الذي ظهر في أوروبا في أعقاب الثورتين الصناعية في بريطانيا والفكرية في فرنسا في نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر، أثار كثيرًا من الجدل حيث جاءت النظرية الماركسية كنتاج طبيعي لهذا النظام الرأسمالي المستبد والمتوحش، وحاولت النظرية أن تطرح النظام الاشتراكي كنظام بديل للنظام الرأسمالي الذي يفتقد أي بعد للعدالة الاجتماعية.
ومع مرور الوقت أصبحت الاقتصاديات العالمية تدور في فلك هذين النظامين، فاتجهت الكتلة الغربية لتطبيق الرأسمالية، في حين اتجهت الكتلة الشرقية لتطبيق الاشتراكية، وفى أعقاب الحرب العالمية الثانية بدأت الحرب الباردة بين القطبين الجديدين في العالم الولايات المتحدة الأمريكية التي تتزعم النظام الرأسمالي والاتحاد السوفيتي الذي يتزعم النظام الاشتراكي، وسعت مجتمعات العالم الثالث التي تحاول اللحاق بركب التقدم والتنمية إلى محاولة تطبيق واستنساخ هذه التجارب التنموية، وحاول القطبين العالميين استقطاب الدول النامية إلى محورهما، وكان من نصيب مصر التي شهدت حركة تحرر وطني في مطلع الخمسينيات من القرن العشرين، أن تختار طريق التنمية على الطريقة الاشتراكية التي تحقق أكبر قدر من العدالة الاجتماعية، والتي تسعى لتذويب الفوارق بين الطبقات، وقد كان حيث نمت الطبقة الوسطى بشكل غير مسبوق في التاريخ المصري على حساب الطبقات الفقيرة، وتمكنت مصر من بناء مجتمع منتج قائم على فكرة الكفاية والعدل، وشهدت المنظمات الدولية وعلى رأسها البنك الدولي أن التجربة المصرية حققت نجاحًا مبهرًا لدرجة سبقت فيها مصر كوريا الجنوبية، التي بدأت تجربتها التنموية في نفس التوقيت.
ومع مطلع السبعينيات و رحيل الزعيم "جمال عبد الناصر" وتولي الرئيس أنور السادات حكم مصر قرر أن يتخلى عن السير على طريق التنمية المستقلة، والتي تستلهم النموذج التنموي الاشتراكي، وكان البديل الجاهز بالنسبة له هو طريق التبعية للنظام الرأسمالي العالمي، الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية حيث أطلق مقولته الشهيرة إن 99 % من أوراق اللعبة في يد الأمريكان ومن يومها بدأ الدوران في فلك الرأسمالية المتوحشة، حيث أعلن عن تطبيق سياسة الانفتاح الاقتصادي التي خلقت وخلال سنوات معدودة، ما أطلق عليهم القطط السمان وهم مجموعة من السماسرة الذين يعملون وكلاء لدى الشركات الرأسمالية العملاقة متعددة الجنسيات والعابرة للقارات، وأطلقوا على أنفسهم مسمى رجال الأعمال بغض النظر عن نوعية هذه الأعمال سواء كانت مشروعة أو غير مشروعة.
وأصبحت هذه القطط السمان هى من يتحكم في الاقتصاد الوطني وبدأت عمليات الفرز الاجتماعي تتم على قدم وساق حيث يزداد الأغنياء غنى ويزداد الفقراء فقرا وتختفي الطبقة الوسطى التي تآكلت مكتسباتها في ظل تطبيق آليات السوق.
ورحل السادات وخلفه مبارك الذي قرر الاستمرار على نفس نهج التبعية للنظام الرأسمالي المتوحش، وفي عصره الذي استمر ثلاثة عقود كاملة تحولت القطط السمان إلى ديناصورات مفترسة، ابتلعت ثروات الوطن وضاعفت من ديونه الداخلية والخارجية مرات ومرات وقامت ببيع ممتلكات الشعب بدون سند من دستور، وأصبح الملايين من الفقراء يعيشون دون خط الفقر، وانقسم المجتمع إلى طبقتين الأولى هى مجموعة سارقي وناهبي قوت الشعب الذين يطلقون على أنفسهم زورًا وبهتانًا رجال الأعمال، الذين تمكنوا من عقد زواج غير شرعي بين رأس المال المسروق والمنهوب والسلطة التي أصبح المال أحد أهم وسائل الوصول إليها، والثانية هى الغالبية العظمى من الشعب المصرى الذي يعاني من استغلال واستبداد وظلم وقهر الطبقة الحاكمة.
وعلى الرغم من ثورة الشعب على النظام الرأسمالي التابع مرتين متتاليتين الأولى في 25 يناير 2011 والثانية في 30 يونيو 2013 إلا أنه لم يتمكن من إسقاط هذا النظام الرأسمالي المتوحش، والذي ما زال يتلقى التعليمات من سيده الأمريكي بقتل الشعب بقلب بارد، عبر تنفيذ أجندة صندوق النقد الدولي، والتي لا يدفع فاتورتها غير الفقراء والكادحين، حيث تسيل دمائهم يوميًا تحت عجلات قطار الأسعار الذي لا يرحم استغاثاتهم، لذلك يجب أن يعي من يحكم مصر أن المصريون حين رفعوا شعار الشعب يريد إسقاط النظام لم يكن الهدف الإطاحة بأشخاص بقدر ما كانوا يستهدفون الإطاحة بالسياسات الرأسمالية المتوحشة التي تقتلنا بقلب بارد، ولن يتوقف نزيف دم الفقراء إلا بإسقاط هذا النظام الرأسمالي المتوحش، اللهم بلغت اللهم فاشهد.
+++++++++
مستقبل الرأسمالية العالمية بين النموذجين الأمريكي والصيني
2020
لا يُعتبر النظام الرأسمالي مجرد نظام اقتصادي يتم تطبيق آلياته في منطقة معينة خلال سياق زمني محدد، بقدر ما يعد ثمرة نتاج تطور تاريخي ممتد، يعكس قيم العمل واحترام القانون وحقوق الإنسان. وعلى الرغم من ذلك، لم يتمكن هذا النظام من إنقاذ العديد من دول العالم من التعرض لأزمات اقتصادية طاحنة، دفعت المجتمعات للوقوف والاحتجاج والمطالبة بتغيير أو تعديل هذا النظام الرأسمالي الذي انحرف عن مساره الرئيسي، وتحول إلى ما يطلق عليه "الرأسمالية المتوحشة" أو على أقل تقدير "البلوتوقراطية"، مما دعا البعض للقول بأفول الرأسمالية
وفي هذا الإطار، نشرت مجلة "فورين أفيرز" مقالًا بعنوان: "صراع الرأسمالية: المعركة الحقيقية من أجل مستقبل الاقتصاد العالمي"، أعده الخبير الاقتصادي "برانكو ميلانوفيتش"، الذي حاول فيه التمييز بين نموذج الرأسمالية الليبرالية القائم على الجدارة والذي تمثله الولايات المتحدة الأمريكية، ونموذج الرأسمالية السياسية الذي تمثله الصين، مع بيان مميزات وعيوب كل منهما، ورؤيته الاستشرافية لمستقبل الرأسمالية.
الرأسمالية تحكم العالم
أكد "ميلانوفيتش" أنه رغم كل التغيرات المتسارعة فإن الرأسمالية ما زالت النظام المهيمن عالميًّا مع استثناءات طفيفة، فالرأسمالية هي الوسيلة الوحيدة المستمرة للإنتاج. وفي حين يشير البعض إلى أنها تواجه تهديدًا متجددًا من الاشتراكية، فإن الحقيقة هي أن الرأسمالية موجودة لتبقى وليس لها منافس. أما المعركة الحقيقية فهي تدور داخل الرأسمالية نفسها، حيث أصبح هناك نموذجان يتصارعان ضد بعضهما بعضًا.
في التاريخ البشري، غالبًا ما يعقب انتشار نظام أو دين معين، انقسام بين أشكال مختلفة من هذا النظام أو العقيدة، فبعد انتشار المسيحية -على سبيل المثال- في جميع أنحاء البحر المتوسط والشرق الأوسط، مزقتها النزاعات الأيديولوجية، والتي أنتجت في نهاية المطاف الكنائس الشرقية والغربية. كذلك الأمر مع الإسلام، الذي أعقب توسُّعَه انقسامٌ بين السنة والشيعة. والشيوعية التي تعد المنافس الأول للرأسمالية في القرن العشرين انقسمت إلى السوفيتية والماوية. وفي هذا الصدد، لا تختلف الرأسمالية عن هذا السياق التاريخي، فقد أصبح هناك نموذجان لها يختلفان في الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
الرأسمالية السياسية والجدارة الليبرالية
في دول أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية وعدد من الدول الأخرى (مثل: الهند وإندونيسيا، واليابان)، يهيمن شكل من أشكال الرأسمالية على النظام الاقتصادي للدولة وهو "رأسمالية الجدارة الليبرالية" Liberal meritocratic capitalism، والذي يُشير إلى نظام يركز على نمو القطاع الخاص، ويحاول أن يضمن تكافؤ الفرص للجميع. وإلى جانب هذا النظام، نجد نموذج "الرأسمالية السياسية" الذي تمثّله الصين ودول أخرى (مثل: ميانمار، وسنغافورة، وفيتنام، وأذربيجان، وروسيا، والجزائر، وإثيوبيا، ورواندا)، وهذا النموذج يتميز بنمو اقتصادي مرتفع، لكنه يقيد الحقوق السياسية والمدنية الفردية. هذان النموذجان من الرأسمالية اللذان تمثلهما الولايات المتحدة والصين، يتنافسان دائمًا مع بعضهما، وهذه المنافسة هي التي ستشكل مستقبل الاقتصاد العالمي.
تمنح الرأسمالية السياسية استقلالية أكبر للنخب السياسية، وتتميز بارتفاع معدلات النمو، ويؤكد "ميلانوفيتش" أن النجاح الاقتصادي للصين يقوِّض ادعاء الغرب بوجود رابط ضروري بين الرأسمالية والديمقراطية الليبرالية. فرغم أن الرأسمالية الليبرالية تتمتع بالعديد من المميزات، أهمها الديمقراطية وسيادة القانون؛ إلا أنها تواجه تحديات هائلة تمثلت في عدم المساواة، واتساع الفجوة بين الطبقات، مما يمثل أخطر تهديد لاستمرار الرأسمالية الليبرالية على المدى البعيد. الحلم او الوهم الامريكي
ومن ناحية أخرى، يحتاج النموذج الرأسمالي السياسي الذي تمثله الصين إلى استمرار النمو الاقتصادي بشكل مطرد لإضفاء الشرعية على الحكم، وهو إلزام قد يصبح تحقيقه أكثر صعوبة على المدى البعيد، ويتطلب منها محاولة الحد من الفساد المتأصل في النظام. ويضيف "ميلانوفيتش" أن الاختبار الحقيقي لهذا النموذج، سيتمثل في مدى قدرته على كبح جماح الطبقة الرأسمالية المتنامية، التي غالبًا ما تدخل في علاقات صراعية مع الدولة.
مساوئ الرأسمالية الليبرالية
تُعتبر الهيمنة العالمية للنموذج الرأسمالي أحد التغيرات العصرية البارزة التي شهدها العالم، أما التغير الآخر فيتمثل في إعادة توازن القوة الاقتصادية العالمية بين الغرب وآسيا. فلأول مرة منذ الثورة الصناعية، تقترب معدلات الدخول في آسيا من مثيلتها في غرب أوروبا وأمريكا الشمالية، ففي عام 1970 أنتج الغرب 56% من الناتج الاقتصادي العالمي، بينما أنتجت آسيا 19% فقط، أما اليوم فقد تحولت هذه النسب إلى 37% و43% على التوالي، ويعود الفضل في ذلك في جزء كبير منه إلى النمو الاقتصادي المتسارع لدول مثل الصين والهند.
وأثمر نظام "رأسمالية الجدارة الليبرالية" عن نخبة تتمتع بالتنوع من حيث الجنس والعرق، ولكنه تسبب -في الوقت نفسه- في تعميق اللا مساواة تحت ذريعة الجدارة، حيث يمكن للأثرياء أن يزعموا أن مكانتهم وثراءهم مستمد من عملهم وجدارتهم، مما يعرقل الحراك الاجتماعي المنشود. وأوضح "ميلانوفيتش" أن هذه النخب الثرية تركز على الاستثمار في مجالين، الأول: الاستثمار في تعليم أبنائها، بما يضمن استمرار هذه النخبة من خلال احتفاظ الأجيال القادمة بدخول مرتفعة، ومكانة اجتماعية مرموقة.
أما المجال الثاني، فيتمثل في إرساء السيطرة السياسية، من خلال الاستثمار في توسيع نطاق النفوذ السياسي، سواءً في الانتخابات، أو من خلال مراكز البحوث، والجامعات، وما إلى ذلك، بحيث تضمن هذه النخبة أنها من تُحدد قواعد اللعبة، ويتم بسهولة تحويل رأس المال الاقتصادي إلى الجيل التالي، وبالتالي فإن التعليم المكتسب ورأس المال المتوارث يؤديان إلى استنساخ النخبة الحاكمة.
الصين والرأسمالية السياسية
يرى "ميلانوفيتش" أنه من المفارقات أن الشيوعية في دول مثل الصين وفيتنام هي التي أرست الأساس لتحول هذه الدول تجاه النظام الرأسمالي، حيث لعبت الثورات الشيوعية في الصين وفيتنام نفس الدور الذي لعبه صعود البرجوازية في أوروبا في القرن التاسع عشر، وكانت هاتان الثورتان المتزامنتان بمثابة المحفز لتأسيس طبقة رأسمالية من شأنها دفع الاقتصاد إلى الأمام.
وفي الصين، حدث التحول من شبه الإقطاع إلى الرأسمالية بسرعة، بفضل قوة سيطرة الدولة، مقارنة بأوروبا، حيث تم القضاء على الهياكل الإقطاعية ببطء على مر القرون، ولعبت الدولة دورًا أقل أهمية في التحول نحو الرأسمالية، وبالتالي فليس من المستغرب أن تكون للرأسمالية في الصين وفيتنام وأماكن أخرى في المنطقة ميزة استبدادية.
يتسم نظام الرأسمالية السياسية بثلاث خصائص، الأولى: تدار الدولة عبر بيروقراطية تكنوقراطية تدين بشرعيتها للنمو الاقتصادي. الثانية: على الرغم من وجود قوانين لدى الدولة، إلا أنها تطبق بشكل تعسفي لصالح النخبة، حيث يمكنها رفض تطبيق القانون عندما يكون في غير صالحها، أو تطبيقه بكل قوة لمعاقبة المعارضين، ويقود ذلك إلى السمة الثالثة، وهي: تمتع الدولة بالسيادة والحسم. ويتسبب الشد والجذب بين السمتين الأولى والثانية (البيروقراطية التكنوقراطية، والتطبيق المتحيز للقانون) في انتشار الفساد في النظام الرأسمالي السياسي.
منذ آلاف السنين، كانت الصين دولة مركزية قوية سعت دائمًا إلى منع طبقة التجار من أن تشكل مركزًا للقوة، ووفقًا للباحث الفرنسي "جاك جيرنيت" فإن التجار الأثرياء في عهد أسرة "سونج" في القرن الثالث عشر لم ينجحوا أبدًا في تكوين جماعة ضغط، لأن الدولة كانت دائمًا على استعداد لمواجهتهم وتقييدهم، وإلى الآن لم تتمكن طبقة رجال الأعمال من تشكيل جبهة متماسكة تتمتع بأجندة سياسية واقتصادية خاصة للدفاع عن مصالحها بقوة، ومن المرجح أن يستمر هذا النمط من الرأسماليين الذين يسعون إلى الثراء دون ممارسة السلطة السياسية في الصين وفي الدول الرأسمالية السياسية الأخرى.
++++++++++
2018 الماركسية والرأسمالية فى صين القرن الواحد والعشرين!
بينما تغزو الصين العالم بصادراتها، وتحتل مقدمة دول العشرين الأكثر إنتاجًا والأكبر دخلًا، تظل الجمهورية الصينية متمسكة بأفكار كارل ماركس وماو تسى تونج عن الشيوعية والاشتراكية المنفتحة، وفى مدينة شنشن الصينية عقدت يوم 28 مايو الماضى ندوة حضرها زعماء وممثلون عن 70 حزبًا شيوعيًا واشتراكيًا من 50 دولة، بينهم 20 من ممثلى الأحزاب العربية.. المناسبة كانت الاحتفال بالذكرى الـ200 لميلاد كارل ماركس، مؤسس المادية الجدلية، و140 عامًا على صدور البيان الشيوعى 1848، و40 عامًا على تجربة الإصلاح والانفتاح فى الصين عام 1978، والتى كانت بداية ما سمى بالمعجزة الصينية.
جمعت الصين ممثلى الأحزاب الاشتراكية للجدل حول «الماركسية فى القرن الـ21.. ومستقبل الاشتراكية»، والتقى هيوانج من مينج، عضو المكتب السياسى، سكرتير اللجنة المركزية بالحزب الشيوعى الصينى، وفدًا من رؤساء الأحزاب الشيوعية الاشتراكية، وأكد لهم «أهمية النظرية الماركسية، والتمسك الحازم بها من الحزب الشيوعى الصينى».
الصين تتمسك بماركس، وتحاول الإجابة عن أسئلة مطروحة حول علاقة الصين المنافسة، التى تخوض منافسة مع الدول الرأسمالية بتعاليم وأفكار كارل ماركس، والتى توقعت صعود الشيوعية وزوال الرأسمالية بقيام دولة البروليتاريا.
قامت التجارب الشيوعية الكبرى فى العالم، وأهمها كانت التجربة السوفيتية التى بدأت مع ثورة أكتوبر 1917، بناء على الماركسية اللينينية، مقابل التجربة الصينية التى طور فيها ماو تسى تونج أفكار ماركس واختلف عن السوفيت بالدفع نحو تحالف العمال والفلاحين، وقاد ماو الثورة الصينية، التى انتصرت 1949-1950 ليبدأ بناء التجربة الشيوعية الصينية التى اختلفت مع التجربة الستالينية.
بعد 70 عامًا انهارت التجربة الشيوعية السوفيتية، وصمدت التجربة الصينية التى سارعت منذ السبعينيات للانفتاح اقتصاديًا لتصبح منافسًا اقتصاديًا للولايات المتحدة والدول الرأسمالية، متمسكة بالنظرية الماركسية وأفكار ماو تسى تونج.
واجهت تجربة ماو تعثرات فى الصناعة والزراعة، والثورة الثقافية التى ماتزال تثير جدلًا فى الصين وخارجها حول تأثيراتها السياسية والاقتصادية، لكن الحزب الشيوعى الصينى بعد ماو انفتح على العالم، ودعم الإنتاج الواسع بشكل رأسمالى، وتحركت الشركات الصينية إلى خارج سور الصين لتغزو المنتجات والخبرات الصينية العالم بأركانه الأربعة.
وبينما خرجت الدول الشيوعية والاشتراكية التى دارت فى الفلك السوفيتى من السباق إلى المعسكر الرأسمالى، بقيت الصين التى تضم ما يقرب من %18.5 من سكان العالم ضمن مجموعة العشرين التى تستحوذ على ثلثى التجارة العالمية، أكبر دولة مصدّرة فى العالم، بناتج إجمالى 19.39 تريليون دولار عام 2015.
هنا تظهر المفارقة أن تتصدر الصين الاقتصاد العالمى الرأسمالى، وتتفوق فى صراع العولمة، وتبقى وسط أنواء اقتلعت الاقتصادات والدول الشيوعية، نهاية الأيديولوجيات، وتتمسك الصين بأيديولوجيات القرن العشرين الماركسية التى أسسها كارل ماركس وماو.
ويبقى السؤال الذى طرحه المشاركون فى احتفالات ماركس عن علاقة التفوق الصينى بأفكار ماركس، وما إذا كانت أفكاره ونظرياته عن فائض القيمة والإمبريالية تتماشى مع الصين المنفتحة والمنافسة مع الولايات المتحدة الأمريكية، زعيمة المعسكر الرأسمالى، التى تبدى قلقًا متزايدًا من المنافسة الصينية غير المتكافئة تجاريًا، وما إذا كان المؤتمر الأخير فى الصين يؤكد تفرد التجربة الصينية، بينما تفككت وتحللت التجارب الأخرى فى الدول التى سافر ممثلو أحزابها الاشتراكية بحثًا عن إجابة فى الصين عن العلاقة بين ماركس وماو الشيوعيين بالصين التى تنافس الرأسماليات العالمية.
وهل تحتاج الدول والتجارب إلى أيديولوجيات تحافظ على الاقتصاد والمجتمع فى عالم تحكمه المصالح، ويحركه الاقتصاد؟
*
الأنظمة الرأسمالية زمن الجائحة: تحدّي الانسجام الاجتماعي للمجموعة الدولية
التكنولوجيا وثورة الاتصالات الحديثة تجعلنا من ناحية أكثر استقلالية عن الطبيعة، ومن ناحية أخرى أكثر تبعيّة لتقلّباتها. ومبادئ الحرية الاقتصادية، والتجارة الحرّة، والاستراتيجيات الاندماجية وفتح الأسواق، لم يكن من شأنها أن تحقّق السلام، تماما مثلما أثبتت الحرب العالمية الأولى والثانية، ومخاض الحرب الباردة استحالة تحقيق تعاون سلمي بين دول متنافسة.
الليبرالية الجديدة السائدة على نطاق العالم لا يمكن أن تنتج سوى ما نراه حاليا، وهو استقطاب الثروة، والتدهور في أحوال شعوب بأكملها، وتنامي النزعة العسكرية والاحتلال، واضطهاد أمم بأسرها، وتدهور أحوال العمال والفئات الوسطى والسكان الأصليين، وتفكيك الخصائص الثقافية للجماعات المختلفة، وتدمير البيئة، وتسليع الحاجات الإنسانية، وتنميط الثقافة وتهديد بقاء البشر زمن الأوبئة.
الجائحة العالمية كشفت من جديد عجز الدولة الوطنية عن التجاوب مع معطى العولمة ورهاناتها، وتحدّيات السوق والتقنية وتشجيع رأس المال، بما يؤكد ما وصلت إليه المجتمعات الإقليمية بفعل تأثير العولمة الثقافية والسياسية والاقتصادية، التي أصبحت معرّضة لموجات مُتقلّبة، ولقوى لا تستطيع التحكّم فيها، ولا سلطة لها عليها. فالتنافس الاقتصادي والمصالح النفطية والمناورات الجيوسياسية ألغت الإقليمية، بصفتها مبدأ تنظيم المجتمع ونوازعه الثقافية.
خلْف مقولة العولمة والقرية الكونية، أفرز عصر ما بعد التحرر الوطني علاقات تبعية أخرى غابت فيها السيطرة العسكرية المباشرة، مقابل سيطرة ثقافية واقتصادية، فأوقعت دولا في تبعية دول، وصارت دول في موقع المركز وأخرى في موقع المحيط. وهي صورة للرأسمالية الشاملة وأيديولوجيا الليبرالية الجديدة، يُعاد من خلالها إخراج مشهد الاستعمار التقليدي بين المرشدين الدّوليين والزبائن. وضمن هذه الدينامية المتسارعة، ظلت الدول العربية وغيرها من دول العالم الثالث في تبعية للدول الاستعمارية، تتحرّك في محيطها سياسة واقتصادا وثقافة ومعرفة. ولم يكن ممكنا في ظل انعدام التوازن بين الدول القوية والأخرى الضعيفة، إقامة علاقات تكامل وحوار في ما بينها، لأنّ الحوار الثقافي والسياسي لا يتمّ في ظل غياب التوازن والتكافل ومنطق الندية. تطورات الاقتصاد الرأسمالي هي التي خلقت المشاكل الكبرى التي يواجهها الكوكب الآن، مثل تدمير البيئة والأزمة العامة في الأنظمة الديمقراطية، وتزايد التفاوت الطبقي وغياب العدالة بين الناس، والتسابق نحو التسلح وصعود الأحزاب والشخصيات الاستبدادية والديماغوجية. وقد أظهرت الحرب العالمية الثانية أنه مع المؤسسات القائمة، كان من الممكن حشد الموارد على نطاق يتجاوز بكثير ما هو مطلوب اليوم، وبشكل فعال للغاية. وبتعبير تشومسكي، إذا كنت تريد أن تسأل عما يحدث الآن، «أعتقد أننا تعرضنا لهجوم الاعتداء النيوليبرالي الذي كان مدمرا»، ويؤدي تصميمه الأساسي إلى تركيزات عالية للثروة والقوة في أيد غير خاضعة للمساءلة، ونمو هائل للمؤسسات المفترسة أساسا، ومعظمها مالية. وقد أدى ذلك إلى مشاعر الغضب والاستياء، وعدم الثقة في المؤسسات في كثير من أنحاء العالم. وهو أمر له بعض المبررات، وهذه مساحة خصبة للغوغائيين. فطفرة الاقتصاد والمال والبضائع كان يُعتقد أنها وحّدت العالم، ولكنها في الواقع خلقت فقط سوقا ضخمة، من دون روح أو وعي أو معرفة. ونحن أصبحنا مجرد زبائن، ولسنا أفرادا في العائلة الإنسانية. والأمر لم يقتصر على ذلك، بل إن هذه الرأسمالية المتوحشة دمرت البيئة والديمقراطية والمساواة الاجتماعية. فإشارات السوق كانت واضحة على الدوام، ليس هناك ربح في منع وقوع كارثة مستقبلية. كان يمكن أن تتدخل الحكومات بشكل أكثر فعالية منذ بداية الجائحة العالمية، ولكن هذا ممنوع في ما يبدو، بسبب العقيدة الرأسمالية الحاكمة التي تقول إن «تدخل الحكومة هو المشكلة»، ما يعني أنه يجب تسليم عملية صنع القرار بشكل كامل إلى عالم الأعمال، وهو مكرس للقطاع الخاص والربح الخاص بطبيعة الحال، وليس فيه أولئك الذين قد يهتمون بالصالح العام.
العولمة حوّلت العالم إلى سوق كبيرة، من خلال التكنولوجيا المتطورة التي قربت المسافات بين القارات، ولكن في الوقت نفسه، فإن تجاوز عائق المسافات لم يؤد لإرساء الحوار بين الشعوب. وفي الواقع أدى هذا الوضع إلى تعزيز فكرة الانغلاق على الهوية، وصعود السياسات القومية الخطيرة، وبتأكيد ادغار موران، فإن هذه السوق العالمية التي نعيش فيها، لم تتمكن من خلق مشاعر الأخوة بين الشعوب، بل على العكس من ذلك خلقت حالة من الخوف من المستقبل. واليوم جاء فيروس كورونا ليسلّط الضوء على هذه المفارقة، ويجعلها أكثر وضوحا للجميع. هذا الوضع يذكرنا بالأزمة الاقتصادية في ثلاثينيات القرن الماضي، عندما اتجهت دول أوروبية، وبشكل خاص ألمانيا، نحو القومية المتطرفة. وخلافاً لتدفق رأس المال، يسعى هذا الفيروس للانتشار، وليس الربح. وبالتالي فإنه «عكَس إلى حد ما اتّجاه التدفق»، مثلما عبّرت الكاتبة الهندية أرونداتي روي عن هذا الوضع الاستثنائي الذي يعيشه العالم. الذي سخِر فيه هذا الفيروس من ضوابط الهجرة، والقياسات الحيوية، والمراقبة الرقمية، وجميع أنواع تحليلات البيانات. وضرب بشدة حتى الآن في أغنى وأقوى دول العالم. ومازال يتحوّر ويقاوم التطعيمات، الأمر الذي أدى إلى توقّف محرك الرأسمالية، ربما مؤقتاً، لكن على الأقل لفترة طويلة بما يكفي لفحص أجزائه، وإجراء تقييم وتحديد ما إذا كنّا نريد المساعدة في إصلاحه، أو البحث عن محرك أفضل.
كشفت هشاشة النظم الاجتماعية في معظم الدول عن الحاجة إلى تعميم الرعاية الصحية للجميع، إذ أن بلدا يقتصر فيه الدخول للمستشفيات والحصول على الأدوية على الأثرياء، لا يمكنه الوقوف في وجه الوباء. وترك غالبية الشعب ليواجهوا مصيرهم لوحدهم، يعني زيادة انتشار الفيروس من دون أي قدرة على احتوائه. ولا يمكن، حسب موران القبول بمواصلة إدارة المستشفيات والمدارس والجامعات على أساس الربح المالي، بل يجب التفكير في إنشاء مواطنين أصحاب عقول، وذلك من خلال العودة للاعتماد على الخدمات الحكوميةن التي تراجعت كثيرا في العقود الأخيرة، في الدول الرأسمالية الغنية كما في الدول النامية. ومن الضروري اليوم العمل على خلق نوع من الوعي المشترك بين سكان العالم، بناء على أسس إنسانية، وذلك من أجل تشجيع التعاون بشكل ثابت ومبدئي، وخاصة زمن الأزمات والجوائح.
*
Jul 23, 2021
الرأسمالية أو عندما يبيع الإنسان حياته من أجل الخبز
"إننا في نهاية المطاف نعملُ من أجل أن يدفعوا لنا أجوراً نعيش بها حتى نظلّ قادرين على الاستمرار في العمل فقط"، تقول سحَر، مهندسة معلوميات، مضيفة: "أحياناً يراودني شعورٌ أنني لم أستمتع بحياتي كما يجب، إنني أركض منذ زمنٍ طويل وراء ذلك الراتب الذي يختفي قبلَ نهاية الشهر، ولم أفعل بسبب هذا أيّ شيءٍ يسعدني بالفعل".
وقد يصل الضغط الذي يعاني منه الموظفون في العمل أو خوفهم من فقدان الوظيفة إلى مستوياتٍ كبيرة. ففي اليابان مثلاً ظهر ما يُسمّى بالـ"كاروشي" Karoshi وتعني "الموت من العمل" وهي ظاهرة الموت المفاجئ أو الانتحار بسبب العمل لفترات طويلة تحت ضغوطٍ كبيرة.
معظم الناس تشبثوا بوظائفهم أو مهنهم، وتعاملوا مع العمل على أنه ديانة أو غاية مطلقة في حد ذاتها،
في كتابه الشهير "الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية"، تطرّق عالم الاجتماع ماكس فيبر إلى ظاهرة العمل في المجتمع الحديث معتبراً تشبّث الناس بعملهم ووظائفهم نتيجةً لتفكّك المعنى القديم للأخلاق التقليدية.
الكاتب والفيلسوف البريطاني مارك فيشر الذي ربط بين الاكتئاب والرأسمالية في مقاله المعنون بـ"لا نصلح لأي شيء".
إميل دوركايم في حديثه عن المجتمعات المعاصرة دور الرأسمالية في تعاسة الأفراد. ففي كتابه "الانتحار" الذي صدر عام 1897، لاحظ عالم الاجتماع الفرنسي أن المجتمعات المعاصرة كلما انتعش اقتصادُها، ازداد أفرادها تعاسةً، وعزا هذا التناقض إلى النظام الرأسمالي الذي تبنّته دول الغرب، "فهذا النظام بتشجيعه اللامشروط للمبادرة الحرة وفتحه المجال أمام الجميع للارتقاء الطبقي يُحَمِّل المواطنين كامل المسؤولية إن هم فشلوا في حيواتهم ومشاريعهم".
تعرّضت الطبقة البروليتارية لأبشع استغلال من طرف البورجوازية المالكة لوسائل الإنتاج. كان الهدفُ من ذلك الإبقاء على كُلفةِ الإنتاج منخفضة، وبالتالي ضمان هامش رِبح أكبر.
وإذا كانت الطبقة الكادحة قد تعرّضت لأبشع استغلال مع صعود النظام الرأسمالي (ضعف الأجور، كثرة ساعات العمل...)، فإنّ هذه الطبقة نفسَها كانت تخضع لتقسيماتٍ طبقية، فالنساء والأطفال داخل هذه الطبقة أقلّ شأناً من الرجال، بل لم يكُن من حقّ النساء الحصول على أجورهنّ لقاء عملهنّ، وكانت تُعطى أجورهنّ لأزواجهنّ بدلاً عنهنّ.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق