الأحد، 12 ديسمبر 2021

الإسلام هو الحل . الاستبداد هو الحل

Mar 20, 2021

 أبرز شعارات التيار الإسلامي خصوصاً في ثمانينيات القرن العشرين، وطرح التيار هذا الشعار بقوة وثقة بعد أن أصبح التيار الشعبي الأول في الكثير من بلدان العالم العربي والإسلامي، وأخذ يتقدم ليمارس دوره السياسي في بيئات سلطوية مستبدة، معظمها مغلق في وجهه، ومعظمها معادٍ أو مخاصم.

تعرض هذا الشعار في العشرين سنة الماضية لهجوم شرس من الاتجاهات العلمانية واليسارية والليبرالية المختلفة، ومن الإعلام الغربي، ومن الإعلام العربي التابع للأنظمة الفاسدة والمستبدة.

"الإسلاميين" أنفسهم لم يعودوا يرفعونه، ولجأ بعضهم إلى تعريف اتجاهه أو حزبه أو حركته بصفات مرتبطة بشعارات عامة كالحرية والعدالة والبناء والتنمية والدستور، أو تعريف نفسه بصفات ذات طبيعة علمانية مغلّفة بغطاء إسلامي، كأن يقول إن جماعته وطنية، ديمقراطية، قومية، عربية.. "ذات مرجعية إسلامية". وكأنه يقدم بين يدي التزامه الإسلامي بما يطمئن الآخرين تجاهه، وأنه يلتقي مع الآخرين في معاييرهم ومنطلقاتهم، وأن "ديكوره" الإسلامي ليس ثورياً ولا تغييرياً، وإنما مستعد للتموضع والتعايش تحت سقفهم.

 إيماناً راسخاً أن الإسلام هو دين هداية ورحمة للعالمين، وأنه منهج شامل للحياة، وأنه المخرج لما تعانيه البشرية من شقاء وأسقام، وأن به سعادتي الدنيا والآخرة. غير أن المقال يناقش جانباً محدداً مرتبطاً باستخدام الشعار نفسه، وما حدث عليه من هجوم، وما تبعه من تراجع أو تكييف.

الذين هاجموا شعار "الإسلام هو الحل" قالوا إنه شعار فضفاض، وحمَّال أوجه، ولا يقدم برنامجاً واضحاً، وأن الإسلاميين، وخصوصاً جماعة الإخوان، يستخدمونه غطاءً لتطلعاتهم السياسية، ولدغدغة عواطف الجماهير.

السؤال هنا ابتداء هل الشعار هو كلمات قليلة جداً ذات دلالات عامة، أم هو برنامج من صفحات أو كتب أو مجلدات؟! إن أبرز ما في الشعارات قلة الكلمات وسهولة الفهم وقوة الإلهام والتحفيز الذي توفره لأكبر قاعدة عريضة من الجماهير. فإن كان الشعار كلمات محدودة فلا ينبغي أن نتوقع أكثر من كلمات عامة تُعبِّر عن الهوية والمسار، وعن القاعدة التي يستند إليها البرنامج. وشعار "الإسلام هو الحل" يفي بهذا الغرض تماماً؛ وهو ينسجم مع عقول وقلوب وتراث أبناء المنطقة وشعوبها. وهو ذو قدرة هائلة على الإلهام وتحفيز الجماهير. وبالتالي، تنطبق على هذا الشعار أفضل ما في الشعارات من خصائص، ولعل هذا كان سرّ الهجوم الشرس عليه.

شعار "الإسلام هو الحل" يفي بهذا الغرض تماماً؛ وهو ينسجم مع عقول وقلوب وتراث أبناء المنطقة وشعوبها. وهو ذو قدرة هائلة على الإلهام وتحفيز الجماهير

والسؤال الثاني ألا تقدم الأحزاب والمتنافسون في الانتخابات في دول العالم المختلفة شعارات فضفاضة، حمَّالة أوجه، في محاولة لتقديم رؤيتها وتجميع الناس حولها وتحفيز جماهيرها. ألم يستخدم باراك أوباما في حملته الانتخابية كلمة واحدة هي "تغيير Change" التي ألهمت عشرات الملايين من الأمريكيين، مع أنها في ذاتها أقل قدرة عن التعبير عن برنامج محدد أو مسار أيديولوجي معين؟ كما رفع ترامب "اجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى"، وهو أفقر من أن يعبّر عن مضمون حضاري أو برنامج ذي دلالات إنسانية، ولكنه يدغدغ عواطف الملايين بطريقة "شعبوية".

في إحدى البلدان العربية التي هاجمت الإسلاميين بشراسة وهاجمت شعاراتهم، كان شعار الحملة الداعمة للرئيس "خلينا نبنيها"، حيث جاء خاوياً من الأساس الفكري للبناء، متجاوباً فقط مع فكرة البناء التي يتحدث عنها الجميع، ولا يعنيه إن كان ذلك البناء مستجيباً لعقائد الأمة وتراثها، ولا إن كان سيتم تحت "بساطير العسكر" وأعين المخابرات.

ليس ثمة شعار مطروح لحزب أو تيار أو زعيم إلا ويعتريه النقص والقصور، لأننا لا يمكن أن نطلب من الشعار أكثر مما يحتمل. فإن كان ذلك منطبقاً على كل الشعارات، فلمَ يتم استهداف شعار "الإسلام هو الحل" ومطالبته بما لا يحتمل؟

بعض الذين اعترضوا على شعار "الإسلام هو الحل" قالوا إنه يتجاهل الأديان الأخرى.

الإسلام جاء للبشرية كافة و"رحمة للعالمين"، وهو في تعاليمه يستوعب كافة أتباع الأديان تحت مظلته الإنسانية الحضارية، ويحفظ لهم حريتهم الدينية الكاملة، وشراكتهم في بناء الدولة والمؤسسات وإسهامهم الحضاري. من ناحية ثانية، فمن الطبيعي أن يكون الشعار معبراً عن هوية الأغلبية الساحقة في منطقتنا العربية (والكثير من البلدان الإسلامية) التي تزيد نسبة مسلميها عن 95 في المئة، فهو أكبر هوية يجتمع عليها الناس.

لعل دعاة القومية العربية أنفسهم يدركون أن نسبة العرب في المنطقة العربية أقل من نسبة المسلمين، وأنه باستخدام المنطق نفسه، يتم استثناء الأكراد والأمازيغ والسود وغيرهم. غير أنه إذا ما أُخذت النظرة الإيجابية للتعامل مع العربية باعتبارها اللسان، وباعتبارها دوراً حضارياً استيعابياً، وليس سلوكا تمييزياً ولا فوقياً، لربما كان أفضل وأجدى. أما دعاة الليبرالية أو الاشتراكية أو العلمانية (وكذلك دعاة القومية)، فلعلهم يرون أن الجماهير التي تجتمع على الإسلام هي أوسع بكثير مقارنة بمن يجتمع على دعاواهم.

والإسلام الذي كان الهوية الجامعة للأمة مئات السنين، قاد نهضة حضارية سادت العالم، وحَكَمت شعوباً وأدياناً وأقليات مختلفة من جنوب فرنسا وحتى الصين، تمتعت بالحرية والعدالة تحت ظله. ولو أن الإسلام وحكامه عاملوا تلك الأقليات والأديان كما كان أتباع المسيحية في أوروبا مثلاً يعاملون غيرهم في تلك العصور؛ لاختفت الأقليات من مناطقنا. وما محاكم التفتيش في إسبانيا، واضطهادات البروتستانت (الهوغونوت) في فرنسا، بالإضافة إلى اضطهاد اليهود.. عنكم ببعيد.

بعض المعترضين الذين يقولون إن للإسلام تفسيرات ومذاهب مختلفة، وإن الناس سيتوهون بينها! ونحن نقول نعم، ولكن أليس لكل الاتجاهات تفسيرات ومذاهب مختلفة؟! أليست هناك عشرات المدارس الليبرالية والعلمانية وعشرات المدارس اليسارية والاشتراكية والشيوعية، وعشرات المدارس القومية والوطنية؟ فلماذا نستغرب على دين عظيم كالإسلام له أكثر من مليار و800 مليون من الأتباع، ولديه رصيد أكثر من 1400 عاماً من التفاعل الحضاري مع الواقع والحياة والظروف والبيئات والشعوب المختلفة، أن يكون فيه مجتهدون ومدارس واتجاهات.. دون إخلال بالجوهر والأصول؟ وكما أن هناك ممارسات سلبية لدى كل الاتجاهات ولدى اتباع كل الديانات، فهناك في وسط المسلمين أيضاً ممارسات خاطئة وأدعياء ومنافقون وفاسدون.. لا يحطُّ وجودهم من قدر الدين نفسه. مشروع عبد المجيد الشرفي اسلام واحد ومتعدد 

هل علمانيات وديمقراطيات أمريكا وأوروبا كعلمانيات وديمقراطيات عالمنا العربي؟! وهل شيوعية الاتحاد السوفييتي "الستالينية" كانت كشيوعية الصين "الماوية"؟! أم كان بينهما ما صنع الحدَّاد؟! حتى شيوعية لينين نفسها خالفت وتجاوزت شيوعية أبي الشيوعية نفسها، كارل ماركس!!

وهل قومية عبد الناصر كانت كقومية حزب البعث؟! وهل "بعثية" العراق في عهد صدام حسين كـ"بعثية" سورية في عهد حافظ الأسد مثلاً؟! أم أن شعارات التخوين والخصام هي التي كانت سائدة بين الطرفين؟ ألم يختلف مفكرو القومية العربية الكبار، حتى في مجرد تحديد معالم الهوية القومية وتطبيقاتها الرئيسية؟

الاختلاف في الرؤى والتفاسير أمر طبيعي، لكن التعبير في منطقتنا عن الحالة الجمعية للأمة وتراثها وحضارتها، بالاستناد إلى هويتها ودينها، هو الأقدر على لم شملها وعلاج مشاكلها واستنهاض طاقاتها

يجدر التنبّه إلى أنّ الإسلام هو الإسلام، لا يحتاج أدوات تجميل، أو إضافات أيديولوجية بظن أن هذا يسهم في تسويقه، بينما هو في الحقيقة يضعف من قيمته ويحط من قدره. فلا حاجة لتعريفه كدين ديمقراطي أو اشتراكي أو ليبرالي. وعلى الدعاة لهذا الدين أن يقدموه كما هو، متميزاً عن غيره، بما فيه من شمول وجمال وانفتاح ورحمة واعتدال واستيعاب للآخر، وعدل وحرية وانسجام مع الخالق ومع النفس ومع الكون.

من ناحية أخرى، فليس كل من رفع شعار "الإسلام هو الحل" أصبح معصوماً من الخطأ، لأن مجرد اختيار طريقه الصحيح لا يعني أن من اختاره صار مؤهلاً للنجاح، فثمة منافقون، وثمة جهلة، وثمة متطلعون لدنيا يصيبونها.. ممن يرفعون هكذا شعارات، تماماً كما فعل أصحاب "مسجد الضرار" وغيرهم. إذ لا بدّ أن يتم الحكم على أدائه من خلال تحقيقه شروط "الاستخلاف"، ومن خلال قدرته على تنزيل تعاليم الإسلام على فقه الواقع، وفقه الأولويات والنوازل، وتقديم برامج فعالة للارتقاء النهضوي والحضاري. ومن هنا تكون مراقبة أدائه ومحاسبته، وربما تغييره واستبداله بناء على منجزاته، وليس لمجرد ادّعاءاته أو تدينه الشخصي أو التزامه السلوكي.

ويخطئ البعض (ومنهم إسلاميون) في فهم أن شعار "الإسلام هو الحل" يعني أن مشاكل الناس ستُحل بين ليلة وضحاها، وسينعمون بالرفاهية في اليوم التالي للحكم. والذين يقدمون هذا الشعار باعتباره برنامجاً "اقتصادياً" مخطئون، إذ إن المشروع الإسلامي في جوهره هو إعادة صياغة لـ"الإنسان" ليكون مؤهلاً للاستخلاف في الأرض، وهو يفجّر فيه معاني العزة والكرامة والحرية، كما يفجر فيه عناصر الإبداع، ويحرره من دواعي الخوف والقلق على الرزق أو من الموت. ولا تتحقق سنن النصر والتمكين إلا مسبوقة ومقرونة بسنن الابتلاء، لأن صناعة الإنسان الذي تصهره التحديات والابتلاءات عادة ما تكون سابقة لجني الثمار.

 "أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ"، وقوله: "وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ". وقد يقتضي ذلك سنوات من إعادة تشكيل واستنهاض البنى الاجتماعية والاقتصادية والعلمية والإمكانات البشرية؛ كما قد يقتضي مواجهة أعداء خارجيين يسعون لقطع الطريق على نهضة الأمة، فيحاولون إغراقها في الفتن والحروب، أو يخنقونها بالحصار أو يشوهون منهجها وقيادتها؛ كما يقتضي مواجهة المنافقين و"الطابور الخامس".

الإسلاميون" بشر يخطئون ويصيبون، ويتعثرون، وتجب محاسبتهم على أدائهم. غير أن التعثر في طريق صحيح أفضل ألف مرة من تحقيق بعض النجاحات في طريق خاطئ نتيجته الكلية كارثية، مهما حفته من مغريات. وفشلُ المسلمين يُصحَّح من خلال عودتهم لدينهم، وحسن استخلاصهم لتراثهم وتجاربهم، ومن خلال فقه الواقع، وإجادة التفاعل الحضاري، وليس بالتخلي عن الجوهر "الإسلام" منهجاً للحياة.

محسن محمد صالح

*
Apr 8, 2021 Apr 8, 2021

 4 أشكال للأيديولوجيا الإسلامية في المنطقة.

  • أطروحة الإخوان المسلمين بمظاهرها المتعددة.
  • المؤسسات الدينية السنية.
  • السلفية الجهادية.
  • وأخيرا يأتي الإسلام الشيعي ليكمل المشهد.

مؤسسات الإسلام الرسمي

منذ بداية عام 2011 -ولا سيما في ضوء صعود (وسقوط) الإخوان المسلمين في مصر وداعش- كان الإسلام السني الرسمي أو المؤسسي (أي المؤسسات الإسلامية التابعة لهيئات الدولة) تسعى إلى تعزيز شرعيتها في أعين الجمهور، كجزء من إستراتيجيات البقاء الأوسع للأنظمة.

 معارضة واضحة للإخوان المسلمين، والتأكيد (وتفضيل) الهوية الوطنية على الهوية الدينية عبر الوطنية، وتعزيز حقوق الأقليات الدينية، وكذلك المبادرات بين الأديان حين سعت بعض الدول إلى تصدير خطاب ديني أكثر "اعتدالا" خارج حدودها، وأخيرا مناهضة التطرف العنيف المتمثل في جماعات السلفية الجهادية.

 هذه المؤسسات رغم أدوارها المطلوبة لم تستطع أن تتجاوز مأزقها التاريخي المتمثل في تبعية متبادلة بينها وبين الأنظمة الرسمية، والتي تُظهر حاجة النظام إلى اكتساب الشرعية من الإسلام المؤسسي، ورغبة المؤسسات الإسلامية في الحصول على دعم النظام. هذه التبعية وإن كانت دليلا على العلاقات المعقدة بين الحكام وتأسيس الإسلام؛ إلا أنه يبدو أن هذا الاعتبار يقوض مصداقية هذه المؤسسات؛ ففي بعض الحالات، فُسرت الجهود المبذولة للترويج لخطاب ديني "معتدل" على أنها خضوع للضغوط الغربية، وإلى حد ما، تستخدم الدول العربية بالفعل مصطلحات مثل "الإسلام المتسامح" للاقتراب من الدول الغربية، وفي حالات أخرى، لا شك في أن الحكام يطبقون إصلاحات دينية لإضعاف مراكز القوة والسلطة المتنافسة.

هل يمكن أن تمتلك الخطابات الإسلامية نظرية للدولة وتحديدا لموقع السلطة في هيكل المشروع الإسلامي اللذين يعدان شرطا أساسيا للحد من إعادة إنتاج الاستبداد والتفاوتات الاجتماعية والقمع والعنف والهيمنة على المجتمع، الذي حكم مسار دولة ما بعد الاستقلال.

*

اخر كلام السيسي بمناسبة حقوق الانسان 

لاستبداد هو الحل

 يصدّق الكلام "الكبير" عن المشاريع العملاقة وخطط التنمية التي تمتد عبر الزمن لأجيال قادمة على طريقة خطط 2030 و2050 و2070، التي نسمع عنها في أكثر من بلد عربي، وتبيع أحلاماً خاوية وأوهاماً لامعة.

أما اللافت فهو ترديد نفر من الكتاب والمثقفين والإعلاميين العرب هذه المسألة، واعتبار أنّ "التنمية"، وليس الديمقراطية والحرية، هي الحلّ، باعتبار أنّ الاستبداد قد تمكّن بالفعل في بلادنا، خصوصاً في مصر وسورية. وبالتالي، لا طائل من وراء الاستمرار في معارضته من أجل الحرية والديمقراطية.

 بحاجة لإعادة النظر في موضوع "الديمقراطية أولاً"، وأنّنا في حاجة، ربما، لتصديق وعود مستبدّينا في ما يتعلق بخطط النهوض والتنمية الاقتصادية والمعيشية التي تهطل علينا يومياً. وق

قدّم المحسوبون على التيارات الناصرية والاشتراكية واليسارية العربية مسألة التنمية على الحرية، ودافعوا بحرارة عن سياسات الأنظمة السلطوية

جرّبنا هذا الأمر طوال نصف القرن الماضي، إذ رفع المستبدّون العرب، مثل جمال عبد الناصر وأنور السادات وصدّام حسين والقذافي وحافظ الأسد وغيرهم، شعار "الخبز مقابل الحرية"، والذي تبنّاه وروّجه ودافع عنه مثقفون وصحافيون وإعلاميون عرب، خصوصاً من المحسوبين على التيارات الناصرية والاشتراكية واليسارية العربية الذين قدّموا مسألة التنمية على الحرية، ودافعوا بحرارة عن سياسات الأنظمة السلطوية، سيما ما يتعلق بغلق المجال العام وانتهاك الحريات وحقوق الإنسان تحت شعارات مقاومة الإمبريالية العالمية. وكانت النتيجة، في نهاية المطاف، أنّنا خسرنا الأمرين معاً: الخبز والحرية. فدولة مثل مصر خرجت من العهد الناصري فقيرةً ومعدَمة، بسبب حروب عبد الناصر ومغامراته الخارجية التي أفقرت البلاد وأنهكت العباد. وفي حين كان ضباطه ورجاله يرفلون في النعيم والفساد، كان الشعب لا يجد ما يسدّ رمقه. وعندما تولّى السادات السلطة أوائل السبعينيات، وبدأ في تطبيق إجراءات التقشّف الاقتصادي، لم يتحمّل الشعب وخرج في تظاهرات الخبز في يناير/ كانون الثاني من عام 1977. وقد استمرّت الحال في عهد حسني مبارك الذي ترعرع فيه الفساد وتضخّمت فيه بطون الفاسدين من رجالات الحزب الوطني وأعوانهم، حتى قامت ثورة يناير 2011. في حين تقبع مصر حالياً عند أدنى مؤشّرات التنمية الاقتصادية، ويئن كاهلها بمليارات الديون الخارجية التي وصلت خلال عهد عبد الفتاح السيسي إلى 140 مليار دولار، في حين يعيش أكثر من نصف الشعب المصري تحت خط الفقر، وبمعدّل أقل من دولارين في اليوم، وذلك على الرغم من سيطرة السيسي على كلّ شيء، وفي ظل انعدامٍ كاملٍ للحريات. فلماذا إذاً نريد استعادة التجربة المريرة نفسها؟

مستبدّونا يختلفون عن بقية المستبدين، سواء في الصين أو روسيا، الذين يتبنّون مشاريع تنموية قد تعوّض أحياناً غياب الحريات عندهم

 الحالة المصرية التي يتصرّف فيها الجنرال عبد الفتاح السيسي، ويفعل في البلاد ما يشاء من دون حسيب أو رقيب، هل سيجرؤ أحدٌ على محاسبته على فشل خططه ووعوده التي يُمطر الناس بها يومياً؟ وهل تستحق هذه الخطط الثمن الذي دفعته البلاد، ولا تزال، طوال السنوات الماضية من أجل تحقيق أحلام "طبيب الفلاسفة"؟ ينطبق الوضع نفسه على خطط ولي العهد السعودي محمد بن سلمان الذي لا يتحمّل أن يعارضه فيها أحد، وإنْ بتغريدة، كما حدث مع الاقتصادي عصام الزامل، الذي شكّك في جدوى رؤية 2030 التي أطلقها بن سلمان قبل عدة سنوات، فكان مصيره الاعتقال والسجن والتنكيل، على الرغم من أنّ تقارير دولية عديدة أشارت إلى عدم واقعية تلك الرؤية، بما يتفق مع كلام الزامل. وحقيقة الأمر أنّ مستبدّينا يختلفون عن بقية المستبدين، سواء في الصين أو روسيا، الذين يتبنّون مشاريع تنموية قد تعوّض أحياناً غياب الحريات عندهم، فمستبدّونا من نوع وجنس آخريْن، إذ لا توجد لديهم أيّة رؤية أو مشروع حقيقي للتنمية، وإنّما مجرد وعود برّاقة من أجل بيع الوهم للشعوب.

خلاصة القول إنّ الحرية والخبز والتنمية حقوق طبيعية للشعوب ليست مضطرّة للاختيار بينها. ولعلّ النتيجة التي توصلنا إليها من خبرة العقود الماضية أنّ من يضحّي بحريته اليوم لن يجد خبزه غداً.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق