الاثنين، 13 ديسمبر 2021

الاستثمار في الهلع.. كيف يعزز التقدم الخوف لدى البشر؟ **********

Apr 7, 2021

شهرة "الصرخة" قد ترجع لسهولة فهمها ووضوحها للجميع، خصوصا لأولئك الذين لا يتمتعون بثقافة فنية خاصة، فبمجرد رؤيتها سيكون من الصعب نسيانها، أو بالأحرى سيكون استدعاؤها من الذاكرة مع كل خاطرة عذاب أمرا يسيرا. حيث سجَّلت هذه اللوحة نقطة تحوُّل مهمة في القرن العشرين، بعدما قطع الإنسان الغربي كل صِلاته بالمُقدَّس، الذي كان يمنحه الارتياح في العصر السابق؛ وأصبح عاريا من الإيمان والتقاليد والعادات، والثوابت بشكل عام، لينقلب مسكينا في لحظة أزمة وجوديَّة مهولة.

ثم مع مجيء الحداثة بزعمها فك السحر عن العالم، جاءت نسختها الصُّلبة لتؤكد مركزية الإنسان وقدرته على بسط سلطان العقل على الطبيعة الجامحة وتسخيرها لخدمة البشرية وتقدُّمها، ومن ثم تحييد المخاوف البشرية من الموت بالمرض أو الكوارث أو العدوان البشري، لتقضي الحداثة، بوصفها تمرُّدا على الكنيسة الأوروبية ونقيضا لمنهجيتها التفسيرية، على مركزية الإيمان وتحارب فكرة الوحي والخلود الأُخروي بتقديسها العلم والعقلانية الوضعية، وتناهض المطلقات كافة بثالوثها الشهير: العمل، الإنتاج، التراكم.

وتحت دعاوى "الفردوس الأرضي"، ارتبطت تلك المرحلة بظهور أهل التخطيط والتنظيم والإنتاج، أو ما اصطَلَحَ عليهم "نيتشه" بالسوبرمان، فكان العمل الاقتصادي هو مصدر الملكية والثروة والماهية الخالصة للإنسانية، على قول "ماركس"، وكانت الرغبة حينها بالاتجاه نحو تحقيق الاقتصاد المستقر ومن ثم نهاية التاريخ بتلبية جميع الحاجات البشرية، وهو الأمر الذي يمكن بنظرة بسيطة على ما يحيط بك أن تعرف إن كان قد تحقَّق أم لا.

تتفكَّك الصلابة إذن، وتتحوَّل إلى سيولة "باومان" التي لم تحمل حُرَّاسا ولا أهل تخطيط، ولكنها قامت على أهل الصيد كما اصطلح زيغمونت باومان، وهم أهل الاستهلاك والسوق واللذة، الباحثين في كل يوم عن فريسة جديدة، والسابحين في حالة من اللا يقين والقلق المزمن من خسارة السباق. والنتيجة؟ ارتفاع رصيد المخاوف بسبب غياب التوقُّع وتآكل العُرف والعادة ومنظومة الأخلاق الاجتماعية، فالفرد لا يمكنه التعويل على دعم الأسرة الممتدة أو الأصدقاء نظرا إلى تفكُّك الروابط وتباعد المسافات وذوبان معنى الالتزام أمام المجموع

 إعادة تشكيل أوضاع أكثر صلابة وثباتا في المستقبل، فإذا بها لم تنجح في تحقيق هذا الهدف لتدخل في مرحلة من السيولة المزمنة، التي لم تقد إلى نهاية التاريخ ولم تُحقِّق النظام الصلب "الفردوس الأرضي" الذي وعدت به، فانعكست العلاقة وصار المجتمع يتعايش مع المرونة ويتخلَّص من الثبات

لقد تخلَّت الدولة في مرحلة السيولة عن دورها في كبح جماح الأفراد لصالح المجموع، مما فتح السوق أمام رأس المال الحر والاستهلاك والتحديث المستمر الذي لا غاية له ولا هدف إلا المزيد من الربح والإشباع الفوري والمؤقت للرغبات، والنتيجة هي أن يسكننا الخوف وأن نحيا بلا أمن وسعادة[9]؛ فنجد -للمفارقة- أن الإنسان الحديث، الذي ينعم بأفضل راحة وترف يفوقان سابقيه على مدار التاريخ البشري، هو مَن يشعر بأنه أكثر عُرضة للخطر وفقدان الأمان -خاصة في العالم الغربي أو في مجتمعات الرفاه في بلادنا-، فقد قطعت الحداثة عهدها بأن تمنع عنه التهديدات الكبرى عن طريق التقنية والعلم، ولكنها فشلت -حسب "باومان"- في تحريره من مخاوفها التي يُغذِّيها فقدان الأمان[10].

يُفسِّر ذلك قول "روبرت كاستل"، الذي يورده "باومان"، حين يقول إن شعورنا الشديد بفقدان الأمان لا يصدر عن ندرة الحماية، بل عن عدم وضوح نطاقها في عالم اجتماعي يتمركز حول طلب لا نهائي للحماية وبحث مسعور عن الأمن، فكل قُفْلٍ نضعه على الباب يجعل العالم أكثر إثارة للهلع، وصار هوسنا بالأمن وعدم احتمالنا لأي ثغرة بسيطة في التدابير الأمنية هو أخصب مصدر يتغذَّى عليه قلقنا وخوفنا، أي إن الألم صار أثرا جانبيا للتوقُّعات المتزايدة.

سرعة البرق التي تتحرَّك بها الموضة -في كل شيء-، مثالا على عجلة التحديث المتسارعة، هي أحد الأمثلة الصريحة التي يضربها "باومان" على نوعية هذا الخوف، فإذا ما أراد الفرد أن يبقى في مكانته، فإنه لا بد أن يجري، ويجري، ويجري، مدفوعا إلى الحركة الدائبة التي إن تخلَّف عنها فسيسبقه المتنافسون، فما هو موجود اليوم يختفي غدا، ولهذا يغرق الإنسان الحديث في القلق، وبهذا يتم استثمار الخوف.

عن التحوُّل الجديد في مسيرة الحداثة -والدولة-، حيث تخلَّت الدولة عن مسؤولياتها تجاه الجموع بعدما تفكَّكت شبكة الرعاية والأمان الاجتماعي من قِبَلِها لصالح السوق. فمع بدايات الحداثة كان الارتباط بين الدولة والمواطنين قائما على علاقة متبادلة طويلة الأجل بين رأس المال والعمالة، يسميها "باومان" -اصطلاحا- المصنع الفوردي، مما أعطى ملاذا آمنا يُخفِّف من حِدَّة المخاوف الحياتية ومخاطر سوق العمل، كما كان التكافل الاجتماعي حينها يُمثِّل حاجزا أمنيا آخر على الطريق.

لكن مع تفكُّك هذه الصلابة المؤقتة تحت وطأة السوق الحر والنيوليبرالية والاستهلاك المقدس، انتقلت وعود الدولة من توفير الأمان المجتمعي إلى دائرة أضيق من توفير الأمن الشخصي للفرد، الذي احترفت هي تخويفه من كل شيء، من المجرمين والإرهابيين والثورات وكل ما يزعجها، ومن ثم استثمار حالة الخوف تلك على الوجه الأمثل، فباعت له سُبل الحماية سياسيا بخطاباتها ووعودها الجديدة.

ذلك الاستغلال الذي ساعدت عليه -أيضا- شخصية الإنسان الحديث التي تميل إلى الحلول السريعة وعدم التفكير في العواقب، والحماس لظهور البطل المُخَلِّص على حساب الحلول الجذرية التي تتطلَّب كثيرا من التدقيق والمراجعة، فأحسن أصحاب الخطاب المتطرف في استثمار مخاوف الشعب، ليخرج علينا أمثال "ترامب"، مُمنيًّا الجماهير بتخليصهم من تلك المخاوف، وتخرج علينا أيضا حكومات تُسوِّق للتقشف وابتلاع ثروات البلاد تحت اسم الحرب على الإرهاب والخروج من عنق الزجاجة، تلك الزجاجة التي خلقتها الدولة من الأصل وأحسنت المتاجرة بها، وهكذا هي السيرة

أصبح الهلع والخوف هاجسين يرتبطان بالاختلاط، ومع احتمالية التعددية وزيادة عدم الألفة بين أفراد المجتمع تستمر الهواجس في تأجيج الرغبة في الانعزال والتمييز

 التقسيمات العُمْرانية المعروفة بالـ"كومباوندات" شيئا من هذا الاستثمار، حيث يرى البعض أن العالم الآن "يتحرَّك من تقسيم الحدود بين القارات والدول إلى تقسيم الحدود بين المواطنين بعضهم عن بعض"، كما أسهمت الحمى الاستهلاكيةُ والرغبة في اقتناص أعلى مكانة مُمكنة في تعريف مكانة المرء الجديدة حسب جودة المكان الذي يسكنه داخل هذه التقسيمات، "وتبقى وظيفة بناء الأسوار في تحديد الخارج من تلك الطبقة والمنتمين إليها".

 اسم "اليوتوبيا" أو المدينة الفاضلة، وروايتها الشهيرة للكاتب "أحمد خالد توفيق" الذي تنبَّأ بالعاصمة الإدارية الجديدة في مصر عن طريق تشريح حالة الخوف التي تُوظِّفها الدولة -لدى طبقة الأثرياء- لصنع الفاصل الطبقي المرغوب، ومن ثم استنزافهم ماديا في دائرة الاستثمار المعماري الجديد من أجل الهرب من الغوغاء إلى مجتمعاتهم الآمنة المعزولة.

يقول الكاتب: "يوتوبيا.. المستعمرة المنعزلة التي كوَّنها الأثرياء على الساحل الشمالي ليحموا أنفسهم من بحر الفقر الغاضب بالخارج، والتي صارت تحوي كل شيء يريدونه.. يمكنك أن ترى معي معالمها.. البوابات العملاقة.. السلك المكهرب.. دوريات الحراسة التي تقوم بها شركة "سيفكو" التي يتكوَّن أكثر العاملين فيها من "مارينز" متقاعدين.. أحيانا يحاول أحد الفقراء التسلُّل للداخل من دون تصريح، فتُلاحقه طائرة الهليكوبتر وتقتله كما حدث في ذلك المشهد الذي لا يفارق خيالي". وهكذا يُسوَّق الخوف.

تُعقِّب "هبة رؤوف" على كل ذلك قائلة إن ما تُوفِّره الأنظمة السياسية، ونظم التأمين، وشركات الحراسة، وكاميرات المراقبة، والأحياء المسوَّرة التي تفصل الأغنياء عن الفقراء -المتهمين بالإجرام- لا يُوفِّر الأمن في النهاية، إنه يُوفِّر الحماية فقط، ولا يعالج أسباب التوتر المستمرة في النزاعات المجتمعية، بل يزيدها. وليست خصخصة الأمن إلا مظهرا من مظاهر الزمن السائل الذي نعيشه.

  حين تسعى الرأسمالية خلف الثروة فإن الحرب والتهجير يصبحان أدوات مشروعة، والبشر مجرد نُفايات بشرية تُلقي بها الصراعات في أتون المعاناة، أو تُلقي بها السوق وأزماتها الاقتصادية في أتون الفقر، ومن هنا نرى استثمار الخوف -من وجهة أخرى- في قضايا المعاناة واللاجئين لتخويف مواطني دول اللجوء وتمرير المزيد من الحروب والنزاعات.

النفايات البشرية، ذلك هو المصطلح الذي أطلقه "باومان" على ضحايا العولمة التحديثية ممن لا حاجة للرأسمالية في وجودهم، فثمة فائض سكاني "لا يمكن إعادة دمجه في أنماط الحياة الطبيعية ولا يمكن إعادة تكييفه بحيث يصبح مرة أخرى من الأعضاء النافعين في المجتمع، وما إن تُسَّدُ قنوات تصريف الفائض البشري حتى تصبح الحروب والمذابح القبلية والميليشيات المسلحة ومهربو المخدرات الذين يدَّعون النضال من أجل الحرية هم أنابيب التصريف الجديدة، فهم يستوعبون ذلك الفائض السكاني ويُدمِّرونه أيضا في الوقت المناسب"

تلك الحروب والمذابح التي أنتجتها آلة الحداثة، وهذه الأسواق التسليحية التي تُتاجر بها الرأسمالية في الحروب، لا يصدر عنها إلا تشريدُ آلافِ البشر وقتلُهم، بل الملايينِ منهم، فيضطرون للهرب من البلاد، "وربما تكون الصناعة الرائجة الوحيدة في أراضي أعضاء الحداثة المتأخرين -أو ما يسمى كذبا وتضليلا بالدول النامية- هي إنتاج اللاجئين بالجملة"، وما سوريا عن الذِّكر ببعيدة.

*

Nov 6, 2021

 لم تعد الدول تُقاس بجيوشها الجرارة. ولا بقدرتها على العدوان وإقلاق جيرانها. هذا عالم الأرقام لا عالم المخاوف والأوهام. قلعتُك الحقيقية اقتصادٌ حي ينتمي إلى اللحظة الحاضرة من عمر العالم، ومفتوح على التقدم. قوتك في المرونة والتجديد لا في المحافظة. في المبادرة والابتكار لا في النوم على حرير حقبات انقضت. هويتك تتعمَّق بالاغتناء والاحتكاك وقبول التنوع والاختلاف. مناعتك تترسَّخ بانضمام الدماء الشابة إلى رؤية المستقبل.

عالم جديدٌ بمقاييس جديدة. أول الشروط تعليمٌ ينتمي إلى عصر الثورات العلمية والتكنولوجية المتلاحقة. انتهى عصر القلاع الموصدة التي تخشى التفاعل مع ما لا يشبهها. لا بدَّ من جامعة تصقل الإمكانات وتوفّر الفرص وليس فقط الوظائف. جامعة ترسّخ مهارات وتضيف مهارات. ولا بدَّ من خريج متمكّن قادر على التعلم المستمر والتجديد الدائم. لا مكان للطمأنينة المبكرة التي توحي بالتقاعد المبكر.

حقَّ الفرد أن يتعلم. وأن تسعفَه قدراته في الحصول على فرصة عمل. وأن يكون شريكاً منتجاً في صناعة اقتصاد ديناميكي يوفّر حياة لائقة مفتوحة على النجاح والأمل والفرح. اقتصاد قادر على الدخول في شراكات يقدم فيها ويأخذ منها.

تجلس الصين اليومَ في موقع الاقتصاد الثاني في العالم وتثير قلقَ واشنطن من اقتراب «العصر الصيني». وما كان لبلاد ماوتسي تونغ أن تنعمَ بهذا الموقع لولا رجل اسمه دينغ هسياو بينغ، ابن شرعي للثورة الصينية، لكنَّه عينٌ ساهرة على رصد الضعفات. أدرك دينغ أن عدم فتح النافذة يعني نهاية النظام وغرق أكبر بلد في العالم في الفقر واليأس. ولنا أن نتخيل ماذا يمكن أن يعني أن تغرق القارة الصينية في التمزق وتصدير اللاجئين إلى جيرانها والعالم.

الخوف يعتقل المخيلات قبل أن يعتقل أصحابها. والمخيلة المعتقلة تغرق في ماء المرارات والحقد. والأب الخائف ينقل إصابتَه إلى أولاده فيشل الخوف أصابعهم وأحلامهم. يكبر التلامذة في مهد الخوف. يخافون من زملائهم في الجامعة وفي العمل.

وكانت المدن تخاف من سائح أعزل. كأنَّها تخشى أن يكشف هشاشتها. أو أن يبيعَ أسرارها. وكانت أجهزة الأمن تجند السائقين لكي يُبقوا أعينهم مفتوحة على السياح إذا التقطوا صورة لهذا المكان أو ذاك. وكان رجالٌ بمسدسات مخفية يتابعون الغرباء بعيون تحاول الإحاطة بالزوار كما الرادارات بالطائرات المتسللة.

والخوف أنواع؛ خوف الخريطة من الخريطة المجاورة، وخوف الصغير من الكبير، وخوف الفقير من المقتدر، وخوف العاجز عن تحقيق إنجازات تسبغ الشرعية على إقامته. خوف المدنيين من العسكريين، وخوف العسكريين من العسكريين، وخوف الجهات من جهات أخرى، وخوف الأقليات وأبناء أحزمة الفقر، والخوف من تحول الدستور عجينة يطوِّعها القوي على مزاجه. التهم الخوفُ المؤسساتِ وبدَّد الميزانيات. التهم الخوف قدرات المواطن العادي وحقَّه في الابتسام والاستمتاع بالحياة. التهم الخوف قدراتِ الجامعات ومراكز الأبحاث والحق في طرح الأسئلة والابتكار. جوَّف الخوف الحياة العامة، وأبقى الانهيار خياراً وحيداً محدقاً بأي تغيير.

أخطر ما ارتكبه الخوف هو اغتيال الأمل. جريمته الإيحاء بأنَّ الآفاق مسدودة والطرقات مقفلة. إقفال الآفاق لا يَعِد بغير التطرف والصدام والانفجار. الميول الانتحارية تُولَد في عتمة الخرائط. الضوء يساعد على الأمل. فتح النوافذ يوقظ الطاقات. يحرّر الأصابع والعقول.

كم يشتهي العربي أن تقتلَ كلُّ عواصمِنا عدواً قديماً اسمه الخوف من العصر والتقدم والانفتاح والانخراط مع العالم. 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق