Apr 14, 2021
لا يختلف رجال الدين عن بقية البشر في التركيبة الفسيولوجية والبيولوجية، فهم أيضا لديهم عواطف ومشاعر إنسانية تجعلهم يقعون في الحب، وثمة حكايات وشهادات عن الحياة العاطفية لعلماء وأساتذة في الشريعة الإسلامية، تتبعها وجمعها الكاتب المسرحي المصري أيمن الحكيم في كتاب جديد للرد على الأفكار السلفية المنغلقة المعادية للحب.
الحبّ في المجتمعات الإسلامية يأخذ طابعا خاصا، مع ارتباطه الصارم بمفاهيم الحلال والحرام الناشئة عن فتاوى وخطابات وتأويلات مختلفة للنصّ القرآني.
ثمة حكايات تتبّعها وجمعها الكاتب المصري أيمن الحكيم الذي ارتبط بعلاقات مودة بعائلات مشايخ وعلماء دين مُعتدلين عرفهم المصريون على مدى عقود، بعيدا عن خطاب الإسلام السياسي الإقصائي، أو خطاب السلفية الغليظ المُناهض لفكر الحب والمتبرأ من الغرام، القائم على النظر إلى المرأة على كونها شرا مستطيرا.
أصدر الحكيم كتابا يحمل عنوان “غرام المشايخ.. قصص حب رجال الله”، عن دار ابن رشد في القاهرة، يحتوي على شهادات جديدة لأبناء مشايخ معروفين أحبهم الناس، تروي قصص الحب التي عاشوها، وحياتهم العاطفية، وما حملته من آثار على نظراتهم للحياة.
الحكايات التي جمعها وانفرد بنشرها في كتابه تتعارض بوضوح مع طرح الخطاب الديني الحالي الذي يهيمن عليه الفكر السلفي، وتقدم صورة للإنسان الطبيعي المتدين.
تلك الحكايات تؤكد أن رجال الدين السابقين، والذين أحبهم الناس وفق منظور التدين الشعبي كانوا أكثر تحضرا، وتفهما لمشاعر الإنسان النبيلة، وأحرص على النظر للمرأة نظرة اهتمام واحترام وشراكة.
تنطوي تلك الشهادات على إِشارة واضحة لتأكيد فكرة بشرية رجال الدين وعدم وجود قداسة لهم، فهؤلاء المشايخ من علماء وأساتذة الشريعة، من مُرتلي القرآن وخطباء المساجد، ولكنهم لا يختلفون عن غيرهم، ولا يجوز تقديسهم، كما لا يجوز منح عصمة من أي نوع لهم.
وهم مثل غيرهم من البشر يُحبون ويعشقون، ويهيمون بنساء ملكت عليهم مشاعرهم، ويسهرون في سبيل ذلك الليل كله، ويُكابدون ويتمنون ويبذلون كل جهد في سبيل نجاح علاقاتهم الغرامية.
لم يكن الحديث عن علاقات الحبّ مثيرا للجدل في ما مضى، غير أن العقدين الأخيرين شهدا بالتزامن مع صعود التيار السلفي شيوعا لتوجهات معادية لمصطلحات “الحب”، “الغرام”، “العشق” و”الهيام”، ووصما للمحبين بالمجون واستعلاء على مشاعر الإنسان الطبيعية.
كان لاتساع وهيمنة الخطاب الانغلاقي أثر واضح في ازدراء حكايات الحب والغرام، وحجب جانب كبير من التراث العربي المتضمن لكثير منها تحت لافتة إشاعة الانحلال في المجتمع، ما أدى إلى قيام أصوات عديدة في المجتمعات العربية برفض طباعة ونشر حكايات ألف ليلة وليلة، وكتاب الأغاني، وأشعار عمر بن أبي ربيعة، أو غيرها من الكتب التراثية المعبرة عن الإنسان العربي بفطرته وطبيعته الإنسانية.
عودة الرومانسية
العودة إلى الرومانسية وتقديم حكايات الحب هو الرد العملي القوي على فكر العنف والإرهاب، المتداول عبر وسائل التكنولوجيا الحديثة، فالحب والعشق يُساهمان في كسر أعمدة الفكر الديني المنغلق وما يحتويه من رفض للآخر وقسوة إنسانية وشيوع للتكفير
يمكن أن يسهم الحب وتراثه في عالمنا العربي في إضفاء صفات التسامح والتحضر والرضا على الناس، وتهذيب الأنفس وحضها على القيم النبيلة والأخلاق الكريمة، بل إنه يُغذي شرايين الإبداع لدى رجال الدين ويمحو الصورة القاتمة السائدة بتجهمها ورجعيتها، فالهيام يدفع المشايخ إلى كتابة الشعر والنثر الجميل، وخطابات المحبة ولا يأبه أيهم بنشر ما كتبه أو كُتب إليه تحت لافتة الحب، الذي يعتبرونه من حقوق الإنسان وأمرا يتوافق مع طبيعة البشر.
يعرف بعض المشايخ الحب من أول نظرة، فينسجون حبال الوصل مع حبيباتهم اللاتي يتحولن إلى شريكات حياة لهؤلاء المشايخ، فنجد مثلا مُقرئ القرآن الشهير الشيخ مصطفى إسماعيل (1905 ـ 1978)، واعتبره الموسيقار الراحل محمد عبدالوهاب أجمل أصوات عصره، يرمي نظره تجاه إحدى الشرفات في احتفال أحد الأعيان بدمياط، شمال القاهرة، فيلمح فتاة صغيرة بوجه بريء صاف، فتسكن صورتها قلبه وتسيطر عليه تماما.
عائشة عبدالرحمن المعروفة ببنت الشاطئ نقلت أشعارها الغرامية للقراء دون حرج
احترام متبادل
يفتح الحب بابا للاحترام المتبادل بين الطرفين يصل بكل طرف إلى تقديم كل ما يقدر عليه لإرضاء الطرف الآخر، وحسبنا أن نقرأ في قصة حب وزواج الفنانة المصرية مديحة يسري من الشيخ إبراهيم الراضي شيخ الطريقة الشاذلية الصوفية (1922 ـ 1976) عن ذلك العطاء غير المتوقع بينهما، والذي وصل إلى قيام الفنانة الشهيرة بإعلان اعتزالها الفن، وارتداء الحجاب تحت تصور إرضاء الشيخ الصوفي، لكنه يُجابه كل ذلك برفض اعتزالها، مؤكدا أن الدين أعمق من التصورات الشكلية، والله ينظر إلى قلب العبد لا مظهره، وموضوع الحجاب هو قرار خاص بها.
يقيم الحب نوعا من الثقة الخاصة بين الحبيبين، وتلك الثقة جعلت الشيخ محمد سيد طنطاوي (1928 ـ 2010) شيخ الأزهر السابق مُمتنا لزوجته التي أحبها منذ كان طالبا وهي ابنة عمه، وتزوجها صغيرا واعتز بذلك وجاهر به، حتى أنه حكى يوما للفنانة صفية العمري أنه اعتاد منذ اليوم الأول لزواجه أن يضع في يد زوجته كل ما يحصل عليه من راتب شهري، لتتولى الإنفاق على البيت وعلى كل شيء آخر وحتى عليه هو، واثقا في حسن تدبيرها.
*
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق