Jan 6, 2019
تلك القوى تحمل أسماء كثيرة، وتتجلى بصور متفاوتة عند كل منهم، كالوجود الاجتماعي والصراع الطبقي عند ماركس، أو إرادة القوة عند نيتشة، أو ميكانيزمات اللاشعور عند فرويد.
هؤلاء الهادمون الثلاث الكبار، أسهموا بطرق مختلفة تتقاطع في ما بينها، في كشف الزيف، لكنهم ليسوا هادمين فحسب، وليسوا مشككين في طبيعة الوعي وقدرته على بلوغ الحقيقة بشكل جذري مطلق، بل رمى كلٌّ منهم إلى تحرير الوعي عن طريق معالجته ما يراه زيفًا في ذاك الوعي.
كان هدف ماركس تحرير الإنسان والطبقة العاملة بواسطة فهم العلاقات الجدلية التي تُسيِّر علاقات العمل والإنتاج، ومن خلال فهم الحتميتين: الاقتصادية والتاريخية. وقصد نيتشه هدم دوغمائية الإنسان ونرجسيته المرتكزتين على الوهم والخرافة، خرافة الأخلاق تارة، وخرافة الحقيقة التي فتنت عقول الفلاسفة سنين طوال تارة أخرى، ومن ثمَّ يستعيد الإنسان كيانه ونفوذه وسيطرته. كان فرويد ينوي تأسيس أسلوب جديد يستطيع الإنسان من خلاله معرفة نفسه ومواجهتها، واكتشاف المعنى المخبأ في باطن الوعي، كي يحيا حياة أفضل ويصبح أكثر سعادة.
ماركس
ذهب ماركس في ثورته على فلسفة هيغل إلى أن العامل الاقتصادي المادي هو الذي يحدد سيرورة التاريخ وأحداثه، لأن المادة هي المقوِّم لكل شيء، وكل ظواهر المجتمع وأحواله، كالدين والسياسة والفن والأخلاق، حتى عملية التفكير نفسها.
الدين عند ماركس لا يعني المقدس، بل هو غطاء للرأسمالية، ومهمته جعل بؤس الحياة أكثر احتمالًا.
فقًا لماركس، ما يحدد ظهور فلسفات ونظريات علمية معينة في زمان ومكان معينين هو ذلك العامل المادي والظروف المواتية له، من قبيل نظام تقسيم العمل وأشكال الإنتاج في المجتمع وأنماطه، ومن ثمَّ تصبح الحياة المادية أساس الوعي والشعور الإنسانيين، فالوعي مشروط بالوجود المادي والاجتماعي.
فالدين عند ماركس في واقع الأمر لا يعني المقدس والمطلق والأمور الروحية وكل ما يزعمه الدين حول نفسه، وما يقوله عن غايات ممارساته، بل الدين في حقيقة الأمر غطاء للأحوال غير الإنسانية التي تشوب منظومة العمل والإنتاج داخل المجتمعات. في حالتنا تلك، هو غطاء للرأسمالية، ومهمته جعل بؤس الحياة أكثر احتمالًا، لذا تذيع مقولته الشهيرة عن الدين بوصفه
«أفيون الشعوب».
تحمل السلعة أو الشيء المصنوع عند ماركس، قيمة ميتافيزيقية بجانب قيمتها المادية. فهي عبارة عن طاقات العمل الذي بذله الإنسان مجسدة أو متموضعة في شيء مادي. إنها «تموضع» للعمل، أو تموضع لجزء من الإنسان خارج الإنسان. هذا الجزء يتحول إلى شيء غريب عنه، ويعاديه. إذ أصبحت السلعة هي التي تستعبد الإنسان بدل أن يصبح العكس. يقول ماركس عن العامل: «يشعر بأن العمل ليس له، وإنما لشخص آخر. إنه لا ينتمي إليه، لأنه في العمل لا ينتمي إلى نفسه، ولكن لشخص آخر».
العمل في النظام الرأسمالي نزع لإنسانية الإنسان وهبوط به إلى مستوى الشيء. ويتمثل قهر الاغتراب عند ماركس في قهر ما ليس إنسانيًّا في الإنسان، محققًا الوعي اللازم، ليثور على تلك الآلية الرأسمالية، كخطوة صوب المجتمع اليوتوبي الشيوعي، خطوة نحو حرية الإنسان واسترجاع ماهيته الحقة.
وعي الإنسان الحالي إذًا، وعي مغترب وزائف، وكذا كل مكونات هذا الوعي. يصبح العلم والحقيقة والدين والأخلاق، وكل الجدالات النظرية القائمة بشأنهم، أمورًا مثيرة للارتياب، بما أن الوعي مشتق من شروط الإنتاج المادية وتابع لها، ومن ثمَّ يجب فضح زيفه، ويتحد مشروع الفلسفة باعتباره محاولة لمعرفة الحقيقة، مع مشروع سياسي يرمي إلى تحرير الإنسانية من الرأسمالية. هذه العلاقة بين المعرفة والحرية تجد تعبيرًا واضحًا عند ضلعي الثالوث الآخرين، أي نيتشة وفرويد.
نتشيه
كان نيتشه، مثل ماركس، مهووسًا بتتبع أصول الأشياء ونشأتها بغرض كشف شروط وجود الأفكار وتطورها. وهو في هذا يمارس منهجه «الجينيالوجي» الشهير، الذي يعتمد على النقد التاريخي والبحث في الأصول التاريخية والنفسية التي تأسست عليها مفاهيم الفلسفة. إن الماضي عند نيتشه حاضر في الحاضر، والاعتقاد في الأوهام يحدث نتيجة التغافل عن تلك المسألة البسيطة.
فلا توجد حقائق موضوعية عند نيتشه، بل كل الأفكار تنطلق بالضرورة من منظور شخصي ما. هذا المنظور يُفرض على الأفراد من خلال الفئات المهيمنة اجتماعيًّا، لتصبح المصلحة العامة تخص هؤلاء الأسياد، أي مصلحة السلطة، تبعًا لإرادة القوة التي تَسُد وتتجلى في كل شيء، وخصوصًا في الحياة.
في كل هذه الأفكار يقترب نيتشه كثيرًا من ماركس، الذي رأى في الحقيقة سلاحًا طبقيًّا، لكن نيتشه يُغيِّب العامل الاقتصادي لصالح البحث في دقائق السيكولوجية الإنسانية، التي تسعى باستمرار نحو التفوق وتحركها «إرادة القوة».
إن المجتمع الإنساني البدائي المولود حديثًا جراء تاريخ طويل من التطور البيولوجي، كان لا بد له من أن يضمن مصالحه، مصالح المجتمع وسلامة بقاءه واستمرار النوع، لذلك تعمَّد في البداية اتباع إجراءات لها طابع الإجبار والإلزام، وبمرور الوقت اكتسبت تلك القوى الإجبارية شكل التقاليد والأعراف، وتحولت إلى ما نسميه «الضمير الشخصي»، الذي لا يراه نيتشه أكثر من سلطة مستبطَنة، وهكذا نشأت مفاهيم «الفضيلة» و«الإنسان الفاضل».
الأخلاق التي كان مصدرها السادة والنبلاء وصفوة الناس، والأخلاق التي كان مصدرها الرعاع والطبقات الدنيا والمنحطة. تقوم أخلاق السادة على قيم القوة والفخر والاعتزاز بكل ما هو جليل وقوي، مثل البسالة والشجاعة والصدق الذي قد يصل إلى حد التبجح.
أما أخلاق العبيد الذين اصطنعوا معايير موازية لقيم السادة الأخلاقية، فتتضمن مفاهيم من قبيل الإحسان وتقدير الضعف والرحمة، وكل شكل من أشكال الشفقة والتعاطف الفج.
هذان النمطان المختلفان من الأخلاق موجودان في مختلف الحضارات الإنسانية. بل يمكن أن توجد عناصر كلٍّ منهما في الإنسان الواحد.
تميز ذوو أخلاقيات السادة بالاستقلالية والفردية، مقابل النظام الجماعي الذي تتميز به أخلاقيات العبيد، فقيم العبيد جمعية، تخدم جماعة الضعفاء وإحساسهم بالعجز. لذلك هم القطيع، وأخلاق العبيد هي أخلاق القطيع، وتعبِّر عن حاجات القطيع، وينظرون دومًا إلى الأفراد الأقوياء المستقلين على أنهم تهديد وخطر وأشرار، ودائمًا ما يرغب القطيع في تأكيد قيمه، من حيث إنها مطلقة، وفرضها على الأفراد الأقوياء من المجتمع. ويجري تجاوز كل ذلك بواسطة الإنسان الأعلى الذي سيقدر على خلق قيمه الخاصة، وتحقيق إمكاناته التي تتجاوز الإنسان الحالي.
تستمد الأخلاق شرعيتها في نظر نيتشه من غريزة حب السيطرة، أو إرادة القوة. فهذا هو مصدر التشريع الوحيد للأخلاق.
الإنسان الأعلى الذي سيقدر على خلق قيمه الخاصة، وتحقيق إمكاناته التي تتجاوز الإنسان الحالي.
من النتائج الضرورية للنقد الجينيالوجي الذي طبَّقه نيتشه في مسألة الأخلاق وأصلها، أنه لا توجد أي معايير أخلاقية موضوعية، بل لا توجد أخلاق موضوعية أصلًا. فكل ما هنالك هو جماعة من الناس عاشوا في سياق تاريخي وجغرافي معين، وتأصلت في ثقافتهم ركامات من المفاهيم والأحكام التي تُسمَّى أخلاقية، في حين أنها لا تعدو أن تكون مجرد عادات مارسها الإنسان في بدايات تاريخه ليحفظ وجوده واستمرار بقائه، في سياق صراع القوى بين البشر. إن الأخلاق بالنسبة إلى نيتشه، وعي زائف، ومحصلة تفاعل أفراد الفصيلة الإنسانية، بما يطمح كل واحد منهم إلى فرض سيادته على الآخرين.
لا يوجد آمر أعلى أو سلطة إلهية تُشرِّع الأخلاق، ولا حتى العقل الإنساني بما فيه من حب للخير وتمييزه عن الشر. العقل غير مفطور على تلك المفاهيم أصلًا. في الأساس، تشريع الأخلاق مهمة غريزية، والغرائز لاعقلانية في جوهرها، ويكون الغرض منها، كغرض باقي الغرائز وأعضاء الحس، البقاء واستمرار النوع. وتتسم الأفعال الإنسانية بالحيادية الكاملة، ما دامت بمعزل عن أي تقييم ذاتي لها في موقف معين.
تشريع الاخلاق غريزي درواني فطري
ذلك يعني في كلمات بسيطة: لا يوجد الخيِّر بذاته والشرير بذاته، لا وجود سوى للإنسان الذي يستطيع أن يقيِّم الأفعال، ذلك في حدود ما يناسبه، ويقسمها إلى خير وشر. أي إن الخير والشر مقولات محض إنسانية، ومصدرها الإرادة الشخصية، ولا وجود لها بمنأى عن أي إنسان.
يوجه نيتشه النقد نفسه إلى قيمة المعرفة باعتبارها حقيقة، ويُثني الفيلسوف الألماني «مارتن هايدغر» على نيتشه لأنه أول من أثار مشكلة الحقيقة التي تناساها الفلاسفة خلال حقبة الميتافيزيقا، من أفلاطون حتى هيغل، أي طيلة تاريخ الفكر الفلسفي السابق على نيتشه، في الوقت الذي باتت فيه ماهية المعرفة معتركًا لنظريات الفلاسفة.
أي البحث في أصل مفهوم الحقيقة نفسه، وهي إشكالية تجرأ نيتشه على طرحها لأول مرة.
في البداية، يرى نيتشه أن الاعتقاد في الحقيقة أساسه الاعتقاد في الله، أي الاعتقاد بكائن أعلى يضفي القداسة على الحقيقة. إن عنصري الثبات والإطلاق يميزان الحقيقة كقيمة، ولكن نيتشه كما يعودنا في نقده الجينيالوجي، يتخطى الثابت والمطلق ليعود إلى الأصل، ويُنزِل الحقيقة إلى الواقع المتحول الذي هو منبع كل شيء وأصله
فنحن «نفرض نماذج ثابتة على تدفق الصيرورة، وهذا النشاط تعبير عن إرادة القوة، وبذلك نستطيع أن نعرِّف العلم أو نصفه بأنه «تحويل الطبيعة إلى مفاهيم من أجل التحكم فيها». ما هي الحقيقة؟ يتساءل نيتشه ويجيب بأن الحقيقة هي رد كل ما هو غريب ومجهول وفوضوي، إلى أمور معلومة ومعروفة وأكثر ألفة. أي إن الحقيقة عند نيتشه مجرد «إجراء» للحفاظ على الحياة.
كان تحرير الإنسان من أوهام الحقيقة في قلب مشروع نيتشه الفلسفي. وإذا كان سعي ماركس منصبًّا على تحرير الإنسانية من النظام الرأسمالي الذي يتشكل الوعي وينتج أوهامه وفقًا له، فإن فلسفة نيتشه لا تفرق في نقدها بين أنظمة إنتاج طبقية وأخرى غير طبقية، بل ترد زيف الوعي وأوهامه مباشرة إلى القوة الوحيدة المحركة للتاريخ، والتي يجب تحريرها لتخليص الإنسان من اغترابه، أي «إرادة القوة».
فرويد
يلعب الماضي في التحليل النفسي دورًا أساسيًّا، لا لأنه يخلق الحاضر فحسب، بل لأنه مصدر لكل محتويات الوعي والشعور.
يرى فرويد أنه أحدث ما أسماه هو «الجرح الثالث» الذي يلحق نرجسية الإنسان. فإذا كان «كوبرنيكوس» أرغم الإنسان على الإقرار بأن كوكبه الصغير لم يعد مركزًا للعالم، وإذا كان «داروين» أسهم في تعميق ذلك الجرح عبر الإقرار بأنه ليس إلا سليل تاريخ طويل من الحياة، شاركت في تكوينه أشكال مختلفة، فإن فرويد نفسه قد بيَّن أن «الأنا ليست سيدة بيتها الخاص».
يقوم التحليل النفسي الفرويدي على نظرية مفادها أن كل ما قد يبدو تافهًا وسخيفًا، إلى درجة لا نعيره معها أي اهتمام، قد يكون في حقيقة الأمر ذا معنى، بل ربما الشطر الأعظم من المعنى أحيانًا، وقد يكون له الإسهام الأكبر في علاج الأمراض النفسية والحالات الهستيرية. ينطبق ذلك في سياق التحليل الفرويدي على جميع أشكال زلَّات اللسان والإيماءات، والأحلام بشكل خاص.
فرويد قسَّم الجهاز النفسي إلى ثلاثة أجزاء أساسية: الهو والأنا والأنا الأعلى.
يحتوي الهو على جميع رغبات الإنسانية البدائية في صورتها الحقة، ويخضع باستمرار للتقنين والمراقبة من الأنا العليا، التي تمثل ضمير الإنسان الذي تشكل اجتماعيًّا عن طريق السلطة الخارجية للواقع، والتي تمنع التعبير الحر عن هذا الهو. والنتيجة النهائية لهذا التقنين هو الأنا، أي حالات الوعي والشعور الظاهرة، أو نفس الإنسان كما يدركها ويقدمها للآخرين، وهي بالضرورة زائفة، بما هي مشتقة من غيرها.
لهذا، فإن دراسة الأحلام وتفسيرها لها مكانة أولية في نظريات التحليل النفسي.
كذلك تحليل كل ما يبدو ظاهرًا للعيان في شخصية المريض، ليصل إلى المعنى الباطن، وهذا المعنى الباطن عادةً ما يكون عبارة عن رغبات الهو التي قوبلت بالقمع في غالبية الأحيان منذ الطفولة، ما يجعلها طاقة أو مادة نفسية هائلة مخبأة ومكبوتة، عالقة في اللاوعي، وتشكل مجمل المشكلات والعُقَد النفسية التي تلازم الإنسان في مراحل بلوغه وتكوينه.
وفي حالة الأحلام تكون تلك المادة النفسية في انتظار أقرب فرصة تنتهزها للظهور على ساحة الوعي في شكل رموز، فيما الأنا، المغلوبة على أمرها، نائمة، وقد استسلمت تمامًا لإغواءات الهُو.
يقول فرويد: «الأحلام كما يعرف كل إنسان، قد تكون مشوشة غير مفهومة، ولا معنى لها إطلاقًا، وقد يكون مضمونها مناقضًا للواقع الذي نعرفه، وقد نتصرف فيها كما يتصرف المجانين»، ذلك أن اللاشعور يمثل مملكة اللامنطق عند فرويد.
كل هذه الظواهر التي تعج بالفوضى تعبر عن آليات داخلية يسلكها الجهاز النفسي، ونظام من المعاني المكبوتة داخل النفس الإنسانية، ومهمة التحليل النفسي كشف تلك المعاني المباطنة التي تتوارى وراء الوعي، وغير الواضحة، على الرغم من أن لها نشاط شديد الوضوح يتعلق بالوعي، وهو أنها تخلقه.
لا يتسع تأثير تلك الرغبات الجنسية المكبوتة على شكل شحنات نفسية لاشعورية، في نطاق الأحلام وتفسيراتها فحسب، بل إنها تتسع لكل أشكال النشاط الإنساني الذي نسميه «الواعي»، فيعمد فرويد إلى أن ينظر إلى ظواهر وممارسات إنسانية على أنها تجليات لتلك الشحنات النفسية، والدين لا يشذ عن تلك الممارسات.
إنه بالنسبة إلى فرويد وهمٌ كبير من أوهام الإنسانيّة، وحقيقة المقدس أنه تعبير نفساني عن حاجة الإنسان إلى أب-إله. الوعي، إذًا، يلعب دورًا ثانويًّا مقابل اللاوعي، يكون الوعي زائفًا، مشتقًّا، مدفوعًا، وغافلًا عن نفسه، ويرد بكل محتواه إلى المحتوى الحقيقي، الباطن، الخفي، القابع في اللاشعور.
ثالوث الفلسفة الأهم في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين غير مقدس لهذا السبب بالذات، لأنه اهتم أكثر من أي وقت مضى بإثارة الشكوك حول أفكار أساسية طالما شكلت النظام الذي عاش الإنسان مستظلًّا به، سواء كان هذا النظام علميًّا أو دينيًّا.
*
فرويد ونيتشه وماركس.. هكذا دفنوا الفلسفة التقليدية
تلاميذ نيتشه..أمراء فلسفة الهدم
2019
لا توجد حقيقة بل تأويل»، بمثل هذه المقولات المشككة، صنع الألماني فريدريك نيتشه «1844 - 1900»، موعداً وتاريخاً جديداً للفلسفة، فهو المفكر الذي نجح في أن يصيب الجميع بعدواه، وأن يجعل الشك يتسرب إلى أجيال من الفلاسفة الذين أتوا بعده، فقد مثل منعطفاً حقيقياً في أساليب وطرق التفكير، قلب بها أنماط التفكير القديمة؛ عبر وسائل احتجاجية على السائد من قيم، وما رسخ في الأذهان والعقول، وشكك في مدى جدوى مقولات مثل الأخلاق والضمير والقيم، لقد قاد ذلك الأمر لفهم الواقع بصورة أمثل وأفضل وفتح الباب مشرعاً أمام تطور كبير في الفلسفة، وربما هذا ما توقعه نيتشه عن نفسه، فقد كان يرى أن فكره هو ديناميت سيقسم تاريخ العالم إلى قسمين.
كان متحرراً أودع مقولاته الفلسفية في قلب لغة شاعرية، قال الشيء ونقيضه، فكان أن وجد فيه الجميع ضالتهم: ثوريون، رجعيون، مؤمنون، ملاحدة، فرديون، اشتراكيون، حالمون وواقعيون. حتى توهم الجميع أنهم حققوا أطروحاته ومفاهيمه على أرض الواقع وتمثلوها، لقد كان منذ البدء كارهاً لما سماه بالأصنام، أي الأفكار التي تعامل معها الناس كحقائق، بالتالي عمل على أن يسود المنهج الذي يجعل الناس في مواجهة الأسئلة، المنهج النقدي في طبيعته، وهو يماثل مطرقة لا تبقي على ساكن، تتحدى العقل في تصوراته القديمة، وتمثل اتجاهاً معادياً لفلسفات سبقته لم تسلم منها إلا فلسفة أستاذه شوبنهاور، بالتالي فإن نيشته نفسه كان نتاج التأثر، كان تلميذاً، لكنه عمل بدأب؛ ليتخلص من تلك الأستاذية؛ عبر نقده الذي يقلب عادات التفكير، فقد مثل تحدياً عبر تشكيكاته التي أودعها في مقولات تعبر عن سيولة الأشياء والحقائق.
؛ لكن نيتشه لم يكن وحده، وإن كان الأبرز إلى جانب كارل ماركس، وفرويد، فهؤلاء هم الذين أسسوا للتشكيك والارتياب، وأسهموا بطرق مختلفة، تجمع متشابهات فيما بينها، في كشف الوعي الزائف، كانوا بالفعل ملوك الهدم الذين عملوا على تحرير الوعي
«كل ما هو صلب يذوب في الهواء»، وكذلك فرويد الذي كرّس علم النفس؛ لمحاربة الأوهام، ولعل ما يجمع هذا الثلاثي هو تحرير الإنسان من سلطة الأوهام، وهذا هو الميدان الذي برز فيه نيتشه بشكل أكبر، فكانت فلسفته حاضرة في أفكار وأساليب أهم فلاسفة القرن العشرين وشكلت الأساس لفلسفة الكثيرين كمارتن هايدغر وميشيل فوكو وجاك دريدا وجيل دولوز، وآلان باديو؛ بل حتى عند كتّاب من أمثال: ألبير كامو وجان بول سارتر وتوماس مان وهيرمان هيسه، أو كما يقول «ميل ثومبثون» و«ناجيل» في حديثهما عن نيتشه في كتابهما «جنون الفلاسفة»: «لقد كان تأثير نيتشه كبيراً، وشمل فوضويين وفاشيين وفرويدوين ووجوديين، إضافة إلى الحداثيين والوثنيين الجدد، ولاعبي الكرة ومصففي الشعر، ومؤيدي النساء والكارهين لهن»، ولكن التأثير الفلسفي المباشر هو الذي وقع على تلاميذه
الفلاسفة
المعاصرين الذين شربوا من معينه، ولما كان نيتشه مسيطراً على المشهد الفلسفي، فإنه قد مثل خطراً حقيقياً على جميع هؤلاء الفلاسفة؛ ولأن نيتشه ظل حاضراً بقوة في أفكارهم ومناهجهم؛ فقد حاولوا أن يمارسوا نوعاً من قتل الأب، سعوا إلى تغييبه؛ انتصاراً لفلسفتهم، وحتى يعلنوا عن أنفسهم وعن أفكارهم المتأثرة به؛ حيث يرى كثيرون أن لنيتشه التأثير الحاسم على أفكار القرن العشرين، على الصعيد الفلسفي، واللاهوتي، والفني وعلم اللغويات.
المعاصرين الذين شربوا من معينه، ولما كان نيتشه مسيطراً على المشهد الفلسفي، فإنه قد مثل خطراً حقيقياً على جميع هؤلاء الفلاسفة؛ ولأن نيتشه ظل حاضراً بقوة في أفكارهم ومناهجهم؛ فقد حاولوا أن يمارسوا نوعاً من قتل الأب، سعوا إلى تغييبه؛ انتصاراً لفلسفتهم، وحتى يعلنوا عن أنفسهم وعن أفكارهم المتأثرة به؛ حيث يرى كثيرون أن لنيتشه التأثير الحاسم على أفكار القرن العشرين، على الصعيد الفلسفي، واللاهوتي، والفني وعلم اللغويات.
نجد أن منهج نيتشه المتمثل في «الجينيالوجيا»، والتي تكشف أصول الأشياء وتعيد ترتيبها وتسأل عن مدى قيمتها وجدواها، هو في الأصل أسلوبية تتبع أصل الشيء وتكونه عبر مراقبة دقيقة ولصيقة لا ينفلت عنها، وهو المنهج الذي أطلق عليه نيتشه اسم «المطرقة»، والتي هوى بها في البدء على «الميتافيزيقا»، أي علم الما ورائيات، وبالتحديد على الأفلاطونية والتي كون موقفاً مرتاباً في بداهتها ومقولاتها؛ عبر تفكيك بنيتها ورفض ثنائيتها ونمطيتها، ليعلن بقوة أن هذه الأفلاطونية هي مجرد تزييف وتشويه للحياة، ولكن مطرقة نيتشه تصبح ملهمة فتتناسل عند هؤلاء التلاميذ من البنيويين وما بعد البنيويين، والذين يبحث كل واحد منهم عن مطرقة خاصة به، فكان «التفكيك»، عند جاك دريدا، والذي استعار تقاليد نيتشه في تفكيك الخطاب، والبحث عن المقصي والمبعد عن النص، وكذلك جيل دولوز، وأركيولوجية فوكو، التي هوت على الخطاب مستعيرة كذلك وسائل وأدوات منهج نيتشه، إضافة إلى بقية الفلاسفة والذين مثلوا في مجمعهم حركة ما بعد الحداثة، التي أخذت من أفكار نيتشه نقطة أساسية نقدية، وبالتالي أعملوا النقد في قيم الحداثة ومقولاتهم، وبثوا فيها ذات الارتياب والشك الذي تعلموه من نيتشه، فهو الذي صنعهم وتوقع ظهورهم عندما ذكر في كتابه الذي يشكل مرجعاً لفهم فلسفته «هكذا تحدث زرادشت»، بأن هذه القيم التي ترسخت في الأذهان وشكلت حقيقة، تحتاج إلى ألف سنة كي يتم التأثير فيها فتتبدد، فكان أن جاء هذا الوعد على ورثة منهج الشك من فلاسفة نقد الحداثة، فقد استعارت الفلسفة الحديثة التقاليد النيتشوية في الفلسفة وعبـرت بها نحو أودية جديدة بسلطان الجهاز المفاهيمي النيتشوي؛ أي بأدواته النقدية، فقد صنع نيتشة عبر كلماته جيلاً من الفلاسفة الذين تسيدوا المشهد الفلسفي المعاصر.
كان الاحتفاء الأكبر مع بروز الوجودية خاصة مع ألبير كامو، ويرى أبرز تلاميذه جيل دولوز أن نيتشه دمج في الفلسفة بين نمطين تعبيريين جديدين هما: الحكمة والقصيدة. إنهما نمطان يبرهنان على تصور فلسفي جديد ويفصحان عن وجه آخر لكل من المفكر والفكر على حد سواء، فيما أطلق عليه آلان باديو اسم «أمير الفلسفة المضادة»، فهو يرى فيه فيلسوفاً غامضاً لا يمكن أن تفهم أفكاره بسهولة، ولكن هذا الغموض هو الذي مثل الدافع عند باديو لاقتفاء أثر نيتشه كما فعل دولوز وكذلك دريدا في تفكيكه، وفوكو في حفرياته المعرفية، وقبلهم هايدغر في نقده للميتافيزيقيا، لقد كان حضور نيتشه يهيمن بدرجة كبيرة عند هؤلاء التلاميذ إلى درجة لم يحتملوها، فحاولا نفيها حتى يتأكد وجودهم الفكري والفلسفي بعيداً عن سلطة المعلم.
بمثل ما كان لنيتشه تأثيره الواعي والحقيقي عند فلاسفة ما بعد الحداثة ممن أشرنا إليهم؛ فكذلك كان له تلاميذ غير نجباء زيفوا فكره وأساؤوا إليه خاصة في الحركة النازية، والتي وجدت في أفكار الرجل عن الإنسان السوبومان ضالتهم في تشكيل فلسفة تعتمد على القوة والبأس، وتبعاً لذلك نشأ الحزب النازي في ألمانيا عبر تزوير نصوص نيتشه، فقد أثّرت فلسفته بعمق في اتجاهات السياسة الألمانية، حتى أصبحت أساس القوة الحربية الألمانية المكثفة التي حشدتها في فترة الثلاثينات من القرن الماضي وكانت سبباً من أسباب الحرب العالمية الثانية، وقد كان موسوليني أحد أكبر وأهم المتابعين المتحمسين لنيتشه، فكانت الفاشية هي النتيجة الغريبة للفهم المشوه لتلك النصوص.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق