الأحد، 25 أبريل 2021

مذهب الذرائعية أو البراغماتية (Pragmatism)

 سِمة الفلسفة الأميركية، وهو مزيج من الأفكار التجريبية والمثالية والشكية واللاعقلانية والنفعية

في الحقيقة، لم يأخذ مذهب الذرائع شكله النقدي وانتشاره الفكري لولا الدور المؤثر الذي لعبه المؤسس الثاني فيه ويليام جيمس، إذ منحه بُعداً اجتماعياً ودينياً في آن. فمن الجانب الأول، مكن هذا المذهب الفلسفي من أن يكون أكثر قبولاً في أوساط المثقفين والمتعلمين، وعن الجانب الثاني، من خلال المنهج الذي سار به في آخر طرف الدين. وعلى الرغم من تأثر جيمس بفلسفة بيرس، لكنه يعترف أنه استمد بعض القواعد والأصول من أفكار قديمة، وله الفضل في إعادة تنظيم وصياغة المذهب، والغاية من ذلك على حد قوله، أن يتخذ الإنسان من أفكاره وآرائه "ذرائع" يستعين بها على حفظ بقائه من جهة، والسير بالحياة على نحو السمو والكمال من جهة أخرى. 

كما عمل جيمس على تغيير الموقف السلبي الذي اتخده بيرس في مسألة وجود الله، إذ سلم بفكرة وجود الله، على الرغم من أنه تعالى خارج نطاق مبدأ المشاهدة والتجربة، عاداً مسألة الإيمان في النتائج العامة للفكرة لها أهميتها أيضاً، لأنه لا بد أن تكون للفكرة التي تطمئن لها النفس الإنسانية وترضى بها أثرها الإيجابي، الذي لا يتعارض مع القيمة العملية.

لا يمكننا رفض أي فرضية إذا كانت العواقب المفيدة للحياة تنبع منها". (تاريخ الفلسفة الغربية، طبعة إنجليزية). 

في الفترة التي كان فيها جيمس منغمساً بعلم النفس، كان يعد الماورائيات المنهل الرئيس لهذا العلم، ولكن بعد تركيزه على الفلسفة دون سواها، رأى من الغفلة أن نبدد القوة العقلية في البحث "عما وراء الطبيعة" من قوى لا تنفع الإنسان بشيء واقعي، فالعقل إنما خُلق ليكون أداة للحياة، وكذلك وسيلة لحفظها وكماله. 

 على الإنسان أن ينصرف إلى أداء واجبه في غمار الحياة العملية الواقعية، إذ ليس من مهامه البحث في عالم الغيب المجهول الذي لا يكاد يربطه بحياة الإنسان سبب من الأسباب. وتجاه هذا الأمر، يركز ويليام جيمس على أهمية "الفكرة" في قياس الحق والباطل، إذ إن مقدرة الفكرة المعينة تعمل على إنجاز أغراض الإنسان في حياته العملية، فإن تعارضت الآراء في ما بينها، كان أحقها وأصدقها هو أنفعها وأجداها، استناداً إلى الفائدة التي تثبتها التجربة العملية. 

فمذهب الذرائع يعتمد على النتائج وحدها، فإن كانت الفكرة مثمرة نافعة قبلناها حقيقة، وإلا تجاوزناها كونها وهمية باطلة. وبنظرة عامة إلى الناس جميعاً، نجدهم يتبعون في حياتهم العملية أصول هذا المذهب، إذ إنهم ينتقون لأنفسهم من الآراء والأفكار ما يساعد على تحقيق أهدافهم ومآربهم التي يقصدون إليها، وكذلك بالعمل على تطور ورقي الإنسانية، وتقدم البشرية جمعاء.

في هذا الصدد، يطرح جيمس مثالاً عن الإيمان بالله، فالغالبية العظمى من البشر تسلم به ليس من منطلق وجود دليل قاطع عليه، بل لأنهم يرون أن هذا الإيمان يبث فيهم روحاً قوية ويفسح قدامهم الأمل الجميل الذي تزدهر به الحياة وتبتسم، والذي من دونه لضقنا ذرعاً بفداحة عبئها، ومَن منا لا يقيس الأفكار بظروف عيشه ثم يختار منها أنسبها له وأفعلها في أداء عمله، فسلوكنا العقلي في الحياة الذي يوجه أفكارنا، وليس العكس، فأفكارنا لا توجه أعمالنا. إذ إن العقل ليس أكثر من عضو كسائر الأعضاء "يتذرع به الإنسان في تنازع البقاء"، فلو لم يكن العقل أداة من أدوات البقاء لما وجد أصلاً. وعليه، فإن الفكرة التي تنشأ في العقل لا تكون صادقة بمقدار مماثلتها للحقيقة الواقعة في الخارج، بل مقياس صدقها هو مقدرتها على إجابة الظروف المحيطة بنا على النحو الذي يمكّن لنا في البقاء.

ومن حسن الطالع "نحن ذرائعيون بالفطرة" إذ نعتنق من الآراء والأفكار ما يكون أحفظها وأنجعها للحياة، فلو لا ذلك لاستمرت الإنسانية على حياتها البدائية من دون تقدم ولا تطور البتة، وهذا الوضع لا يقتصر على عامة الناس فحسب، بل يشمل العلماء أيضاً، إذ يأخذون بكمية كبيرة من الأفكار التي تساعد على المضي في بحوثهم من دون أن ينهض الدليل العقلي على صحة تلك الأفكار، التي اتخذوها أساساً لأبحاثهم. فالعلم لا يدري ما هي الجاذبية؟ وكذلك بالنسبة إلى المادة أو الطاقة أو الكهرباء... إلخ، لكنه يفرضها لكونها تساعده على أداء مهمته، وهذا بالضبط ما يدعو إليه مذهب الذرائع. إذ يكفي أن تكون تلك الآراء والأفكار صحيحة فتوجهنا في حياتنا توجيهاً صائباً، بغض النظر أن نعلم الأشياء في ذاتها ما دمنا نستطيع أن نستخدمها، فحسبنا معناها آثارها، وليكن معنى الجاذبية أو الكهرباء هو ما تعمله وما تؤديه. وبذلك يمكننا أن نتخطى أعقد المسائل الفكرية التي أرهقت الفلسفة بلا نتيجة حاسمة، علينا أن نترك كل بحث في ماهية المادة أو ماهية الله وما إلى ذلك، وأن يكون بحثنا عن الآثار التي تنشأ عنها في حياتنا اليومية العملية، فإن لم يكن لها آثار في ما نصادف من تجارب، وجب عدها ألفاظاً خاوية من معناها ليس إلا.

 فالفكرة التي تحيا في الذهن وحده ليست جديرة بهذا الاسم، ولا خير فيها إن لم ترشد الإنسان في حياته وسلوكه، كما في إشارات المرور في السكك الحديدية يراها سائق القطار فتوجه تصرفه توجيهاً معيناً، أو في النوتة الموسيقية بتوجيه حركات الموسيقى، فإن لم يكن لها هذه الفائدة كانت عبثاً لا تعني شيئاً. وعلى هذا الأساس، يجب أن تكون كل فكرة في أذهاننا مرشداً عملياً يرسم لنا سلوكنا ويضع لنا القواعد التي ينبغي أن نسير على مقتضاها في حياتنا اليومية. 

 لعبه وليم جيمس في تمتين مذهب الذرائع، بعد ما منحه بعداً اجتماعياً ودينياً، فالإيمان إيجابي والإلحاد سلبي، والإنسان يميل إلى الفكرة التي تبث فيه الطمأنينة، وأن المنفعة يجب أن تشمل أكبر كمية في المجتمع.

جون ديوي (1859-1950)

 إرساء الاسم من براغماتية إلى ذرائعية، وتبيان ما فات على جيمس في مسألة تماثل صدقية الفكرة أو تطبيقها على أرض الواقع، لا سيما في الجانبين العلمي والسياسي، إذ على الرغم من أن كل ما نقوم به في حياتنا، ما هو إلا أدوات نتذرع بها من جهة، ومن جهة أخرى، يكون بدافع سلوكنا الحياتي ليس إلا. ولكن بالنسبة إلى مدى صحة هذا التفكير الذي نتذرع به، فإنه يُقاس بالإيجاب أو بالسلب وفقاً لمدى تحقيق النجاح اللازم له. أما سبب نشؤ هذه الفكرة، فبحسب قول ديوي، فإنها ناتجة بالضرورة، إذ إن العقل يخلقها بصورة تدريجية. بمعنى أن الفكرة ليس لها وجود فعلي مستقل، بل ناتجة من العقل. وهذا معناه، أن مسألة وجود الله حقيقة كانت أم لا، فجواب ديوي، بأن هذا الأمر يتوقف على مدى معرفة الإنسان من خلال فائدة الناس بصورة أغلبية لهذه الحقيقة، لأنه لا توجد حقيقة مستقلة عنهم.

على أي حال، تنص الذرائعية على أن الفكرة التي تنشأ أساساً في العقل لا تكون صادقة من حيث المبدأ، بل ولا تكون صادقة من حيث مقدار مماثلتها الحقيقة المستقلة التي لها وجودها، باعتبارها وجوداً واقعياً خارجياً، وإنما الحقيقة تكون في مقدار صدقها على ما تجابَه به من الأشياء التي تحيط بنا. وبهذا، فإذا عكسنا هذه الحقيقة على وجود الله، وفق هذا المذهب الفلسفي، نرى أن جواب وليم جيمس يكون أن "الله يحتاجنا، بقدر ما نحن نحتاجه". أما إذا جعلنا هذه الحقيقة تستمر في الحياة العملية، فإن الذرائعية تجدها تدعم العلوم الطبيعية بصفتها فلسفة تجريبية، إذ إن "الفكرة هي توجيه بالعمل بطريقة معينة" على حد قول ديوي.

وهكذا تكون الذرائعية ليست من أنصار التجريبية فحسب، بل من دعاة الشكية أيضاً، إذ تتخذ من اللاأدرية معولاً لها في زعزعة الماورائيات. وبذلك، لا تحسم الذرائعية موقفها تجاه وجود الله والروح والملائكة وكل ما يتصل بالعالم الإلهي، على الرغم من أنها تسلم بوجود العالم الماورائي، ولكن من منطلق نفساني يعكز على المعتقد الديني، إضافة إلى تفريغ الحقيقة الموضوعية من محتواها وجعلها ذاتية محضة تعتمد على الفرد بحسب قدرته الذاتية بالوعي والإدراك، وهذا ما يجعلها تتناقض في دعمها العلوم الطبيعية، كما أنها اتخذت من درجة المنفعة نسبة قياس إلى الحقيقة، وتردها إلى ذلك القياس في آن.

إن الفكر الذرائعي يعطي لكل فرد الحق في أن يتخذ أي شيء موضوعي، سواء كان هذا الموضوعي حقيقياً أو غير حقيقي، ذلك بمجرد أن ينتفع منها الإنسان وكفى

 الذرائعية إنما تؤكد على نفسها كونها الفلسفة العملية الاستغلالية التي تفكر في مسألة الربح والخسارة من الجانب المادي لا الروحي.

ينص جيمس، على أن الإنسان يتحمل كل مسؤولياته ولا يتركها على عاتق "المطلق" أو الله، وإن لم يفعل ذلك، فإنه تافه ولا أخلاقي، لأن حقيقة الأمر، أن المطلق لا يفعل له شيئاً ما بالمعنى العملي. وعندما ينحصر الأمر المادي في الآلية العملية فقط، فإن جميس لا يتوانى عن القول "اللعنة على المطلق"! فبحسب رأيه، إن التفكير في الوجود وقوانينه غامض صعب لا يؤدي إلى نتيجة مقبولة، ويحددها جيمس، في أحداث البيئة المرئية فحسب، ولذلك فإن "السؤال عن الوجود هو الغامض في كل فلسفة"، وعلى الرغم من أن هذا السؤال قد يكون أو ربما يقودنا إلى خالق منظم عظيم له، لكن علينا ألا ننزلق في متاهات النزاعات بين المذاهب الماورائية، والبحث العملي في المشكلات الرئيسة، أو بما يتعارض ما بين مذهبه البراغماتي في الكثرة، ومذهب التوحيد.

 الذرائعية لا ترى نفعاً في التفكير الماورائي يخدم الواقع الحياتي اليومي، لكن موقف ديوي أكثر مادياً من سابقيه بيرس وجيمس، فهو ملحد بلا دين.

فالمعرفة الإنسانية ليس لها واقع خارجي، بل إن الواقع نحن نصنعه بوجودنا.

الذرائعية المحدثة

ريتشارد مكاي رورتي (1931-2007) أول من قام بتطوير الفلسفة الذرائعية التقليدية، التي شيدها المؤسسون بيرس وجيمس وديوي،


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق