Apr 7, 2021
الإمبريالية
«الشر المطلق» من منظور سياسي وتاريخي بالنسبة إلى الشعوب العربية، وغيرها من شعوب الجنوب، ليست النازية ولا الفاشية، ولا استبداد الأنظمة، بل الإمبرياليات الغربية، التي غزتها في ديارها، وفرضت عليها التجزئة والاستتباع السياسي والعسكري والاقتصادي، وزرعت الكيان الصهيوني في القلب من هذه الديار. السمة الرئيسية للتاريخ المعاصر لهذه المنطقة منذ نهاية الحرب العالمية الأولى، هي الصراع المديد بين شعوبها وقواها الوطنية من جهة، والإمبرياليات الغربية من جهة أخرى. ومنذ بداية الستينيات، أضحت الإمبريالية الأميركية، المتحالفة مع الكيان الصهيوني، هي العدو الرئيسي لشعوب المنطقة وقواها وأنظمتها الوطنية. هي التي استهدفت مصر الناصرية، ودعمت الكيان الصهيوني في مشروعه لاستكمال التطهير العرقي والاستيطان في فلسطين، وفي عدوانه المستمر على دول الجوار. ومع نهاية الثنائية القطبية، انتقلت الى مرحلة أعلى من حربها على القوى والأنظمة الوطنية في المنطقة، خاصة تلك ذات المرجعية القومية، بدءاً بالعراق، مروراً بليبيا، ووصولاً إلى سوريا، وأجهرت أن غايتها هي الإجهاز على العروبة كمشروع سياسي و»إعادة صياغة» الإقليم ضمن منظومة خاضعة لهيمنتها المشتركة مع إسرائيل. كانت لسوريا، إلى جانب الجمهورية الإسلامية في إيران، مساهمة حاسمة في إفشال مشروع «الشرق الأوسط الكبير» عبر دعم المقاومات الشعبية في لبنان وفلسطين والعراق. لا يتطرق من صاغ الرسالة-البيان إلى هذه الحقيقة بتاتاً، ويتعامى عمداً عن الدور الإقليمي المحوري الذي اضطلعت به سوريا في التصدي للغزوة الأميركية للمنطقة. وظيفة هذا التعامي عن السياق التاريخي والإقليمي-الدولي للأزمة في سوريا هي عزل مجرياتها الداخلية عنه، فنصبح أمام سردية مفادها أن «الشعب السوري» انتفض لأجل الحرية والديمقراطية فقام النظام بقصفه بالطائرات والبراميل المتفجّرة.
أما تدويل الأزمة من اللحظات الأولى عبر تشكيل مجموعة دول «أصدقاء سوريا» ومدّ المعارضة بالسلاح، وضخ آلاف المقاتلين الآتين من أنحاء العالم لدعمها، وتشكيل غرف عمليات بإشراف أميركي للغاية نفسها في تركيا والأردن، وصولاً إلى التدخل العسكري المباشر الأميركي والتركي واحتلال شمالها الشرقي والغربي من قبل قواته، فهي جميعها مؤشرات «غير مركزية» على الحب الجم الذي تكنّه هذه «الدول الصديقة» للشعب السوري! عبر وزير الخارجية القطري حمد بن جاسم عن هذا الحب عندما قارن سوريا بـ»الطريدة»، التي «وقعت بين أيدينا، لكننا اختلفنا في ما بيننا فنجحت بالفرار»! تعامي من نصبوا أنفسهم ناطقين رسميين باسم «القيم الأخلاقية لليسار العالمي» عن مجمل هذه المعطيات العلنية، والمعروفة من قبلهم لأن جلّهم من المتابعين للشأن السوري، يثير بداهة تساؤلات حول الهدف من ذلك بعد مرور 10 سنوات على انفجار الأزمة. واذا كان العداء لروسيا وإيران مفهوماً من قبلهم بسبب وقوفهما إلى جانب النظام في سوريا، ما الذي يفسر إقحام الصين، التي لم تسجل لها مشاركة فاعلة في المواجهة الدائرة، بين الجهات المدانة منهم؟
*
الإمبريالية من كل الأطراف ولا تستثني منها روسيا وإيران والصين
تبرير الاستعانة بالشيطان وتدمير الدولة والمجتمع
الجمهورية.نت المُدار من قبل معارضين للحكومة السورية، ويحظون بتمويل مصدره جهات غربية متورطة في جرائم تدمير سوريا خلال السنوات العشر الماضية. وهي نفسها الجهات التي موّلت كل عمليات التضليل حول حقيقة ما يدور على الأرض.
منذ بداية الانتفاضة السورية في عام 2011 ظهرت عند بعض من يصفون أنفسهم عادةً بالتقدميين أو «اليسار» ولاءات مؤيدة لنظام الأسد تحت عنوان «مناهضة الإمبريالية». نتج عن ذلك انتشار معلومات مضلّلة ومغرضة بهدف حرف الانتباه عن الانتهاكات التي قام بها نظام الأسد وحلفاؤه، وهي انتهاكات موثقة جيداً بالمناسبة. تفاقمت هذه الظاهرة منذ بدء التدخل الروسي في سوريا لدعم بشار الأسد. يقدّم أصحاب هذه الولاءات أنفسهم كـ«مناهضين» للإمبريالية، لكنهم يعرضون انتقائية شديدة في الانتباه إلى مسائل «التدخل» وانتهاكات حقوق الإنسان؛ انتقائية تنحاز غالباً إلى حكومتَي روسيا والصين. أما المعترضون على هذه المقاربات المفرطة التسييس فيتكرر وصمهم الكاذب بأنهم مجرد «متحمّسين لقلب النظام» أو مغفّلين وغافلين عن المصالح السياسية الغربية.
ما يجمع مثل هؤلاء الكتّاب هو رفض مناقشة جرائم نظام الأسد، أو حتى الإقرار بحصول انتفاضة شعبية ضد نظام الأسد تعرضت للقمع الشديد. لقد تكاثر هؤلاء الكتّاب والوسائل الإعلامية المرتبطة بهم في الأعوام الأخيرة بشكل كبير، وقد وضعوا سوريا في واجهة نقدهم للإمبريالية والتدخلات الأجنبية، مع حصر هاتَين بالغرب فقط ومع تجاهل التدخلات الروسية والإيرانية. وهم يسعَون بذلك إلى إدراج أنفسهم ضمن تراث مديد ومحترم من المناهضة الداخلية في المجتمعات الغربية لارتكابات القوى الإمبريالية في الخارج، وهو تراث لا يقتصر على اليسار لكنه يغلب أن يكون يسارياً.
غير أنهم لا ينتمون حقاً إلى هذا التيار، إذ لا يمكن أن ينتمي إلى اليسار من ينحاز، صراحةً أو ضمناً، إلى نظام الأسد القاتل، ولا من يوجه اتهامات انتقائية وانتهازية بالـ«إمبريالية» بحجج مستمدة من تصوره الخاص لليسار، بدلاً من مناهضة الإمبريالية بصورة متّسقة ومبدئية وعلى نطاق عالمي، تعترف بالتدخلات الإمبريالية من كل الأطراف ولا تستثني منها روسيا وإيران والصين.
ثمّة أدلة ساطعة على التدميرية المروِّعة للقوة الأميركية في كل العالم، خاصة خلال الحرب الباردة. ومن فييتنام إلى أندونيسيا، مروراً بإيران والكونغو والأميركيتين اللاتينية والوسطى وغيرها، سجلّ الانتهاكات الأميركية الهائل لحقوق الإنسان المتراكم باسم محاربة الشيوعية جليّ ومعروف. وحتى في الحقبة اللاحقة لانتهاء الحرب الباردة، حيث ساد شعار «الحرب على الإرهاب»، لم تَدُلّ التدخلات الأميركية في أفغانستان والعراق على تغيّرات جوهرية في توجهاتها التدميرية هذه. لكن الولايات المتحدة غير مركزية في ما حصل في سوريا، على عكس ما يدّعيه هؤلاء. إن ادّعاء ذلك، رغم كل الأدلة المغايرة، هو نتاج لثقافة سياسية محلية غربية تركّز على مركزية القوة الأميركية على المستوى العالمي، وكذلك على الحق الإمبريالي في تحديد من هم «الأخيار» و«الأشرار» في أي سياق. إن الترادف الإيديولوجي لمحبي الأسد اليمينيين مع هذا النوع من «اليسار» الصديق للأنظمة التسلطية هو أحد أعراض هذا الأمر، وهو يشير إلى أن المشكلة الحقيقية والأخلاقية تكمن في مكان آخر: ما الذي يجب فعله حين يتم تعنيف شعب بشدة من قبل نظامه كما جرى للشعب السوري، ثم يجري حبسه ضمن تصورات أشخاص لا فكرة لديهم عن تعذيب الناس وسجنهم وقتلهم لمجرد تعبيرهم عن المعارضة السياسية للنظام؟ ففي حين تتوجه الكثير من البلدان نحو أنظمة حكم تسلطية وتبتعد عن الديمقراطية رويداً رويداً، تبدو لنا هذه مسألة سياسية عاجلة لا جواب لها حتى الآن. وبسبب غياب الجواب بالذات، نجد إفلاتاً متزايداً من العقاب في كل مكان في العالم من جانب الأقوياء، وكذلك هشاشة متزايدة عند المستضعفين. وفي هذا الشأن، ليس لدى «مناهضي الإمبريالية» المزعومين كلام مفيد. لا كلمات لديهم عن العنف السياسي العميق المسلَّط على الشعب السوري من قبل الأسديين والإيرانيين والروس. اسمحوا لنا إذاً أن نشير إلى أن محو حيوات السوريين وتجاربهم على هذا النحو يبدو حاملاً لجوهر الامتياز الإمبريالي (والعنصري) بحد ذاته. لم يتكلف هؤلاء الكتّاب والمدوّنون عناء الاعتراف بوجود سوريين، بمن في ذلك السوريون الموقّعون على هذه الرسالة، والذين جازفوا بحياتهم لأنهم عارضوا الأسد، فسُجِنوا في معتقلات نظامه الأشبه بالمسالخ (أحياناً لسنوات طويلة)، وفقدوا أحباءهم، وغُيِّب أصدقاؤهم وأقاربهم، ولجأوا خارج البلاد - رغم أن سوريين كثيرين تكلموا وكتبوا بإسهاب عن هذه الأحداث وعن معناها طوال سنوات. إن التجارب السورية المعاشة منذ بداية الثورة حتى اليوم تشكل تحدياً جوهرياً للعالم، كما يبدو لهؤلاء الكتاب والمدوّنين. إن الذين عارضوا من بيننا نظام الأسد بشكل مباشر، وغالباً بكلفة هائلة، لم يفعلوا ذلك نتيجة مؤامرة إمبريالية غربية، بل لأن عقوداً من الانتهاكات والعنف المفرط والفساد كانت ولا تزال رهيبة وعصيّة على الاحتمال. الإصرار، مع ذلك، على دعم الأسد هو محاولة لحرمان السوريين من أهليتهم السياسية، وتأييد لسياسات الأسد المديدة الرامية للإبادة السياسية، والتي حرمت السوريين من أي قول ذي معنى في شؤون حكمهم وظروفهم.
نحن الموقّعين أدناه، من سوريين وغير سوريين، الداعمين لنضال الشعب السوري في سبيل الديمقراطية وحقوق الإنسان، نعتبر أن هذه المساعي لتغييب السوريين عن عالم السياسة والتضامن والشراكة تتّسق تماماً مع طبائع النظام، والذي يحظى وضوحاً بإعجاب «معادي الإمبريالية» هؤلاء. هذه هي إذاً «الأنتي إمبريالية» و«اليسار» الخاص بعديمي المبادئ، والكسالى، والحمقى. نأمل أن ينضمّ قراء هذا النص إلينا في مناهضة هؤلاء والوقوف في وجه التضليل الذي يقومون به.
*
ورقة التقسيم لا تقلق الأميركيين بمقدار ما يقلق قانون قيصر الروس فالشيء الوحيد المؤكد في سوريا هو النفوذ التركي في الشمال والكردي – الأميركي في الشرق والروسي – الإيراني في الغرب.
الجانب الأميركي لم يدعم استقلال كردستان العراق الذي يحظى باستقرار كبير مقارنة بشمال شرق سوريا، ولذلك تعلم واشنطن أن أكراد سوريا لن يسيروا على ذلك الدرب، على الأقل على المدى المتوسط.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق