Nov 22, 2019
لا نحتاج الى حفريات عميقة داخل الذات العربية في المجالين الديني والسياسي تحديدا لكي نكتشف الاساطير التي نشأت عليها، نظرة واحدة للسطح تكفي لرؤية حركة هذه الاساطير في حياتنا وواقعنا.
الاساطير في المجال الديني كانت صادمة اكثر، لا لانها فقط تستمد شرعيتها من « قداسة « المرجعية التي نتوهم انها تنتسب اليها وانما ايضا لانها شكلت الاساس الذي انبنى عليه وعينا وثقافتنا وانبنت عليه احكامنا التي نصدرها تجاه الذات او الآخر، خذ مثلا «اسطورة الخلافة « التي ما تزال تشكل عقدة نفسية للكثير من المسلمين، كيف يتم توظيفها لتبرير «التوحش» والقتل، وتجاوز القيم التي تمثلها الدولة العادلة المنسجمة مع مبادئ الدين.
خذ ايضا اسطورة السياسة التي تم اختزال الدين فيها، وتوظيفها لخدمته حتى لو كانت منزوعة من اخلاقيات الدين، ثم ماذا كانت النتيجة؟ ان كل هذه الحروب التي عانينا منها على امتداد تاريخنا كانت بسبب تقمصنا لهذه الاسطورة التي افرزت من «التدين « اسوأ ما فيه ومن المسلمين اوحش ما لديهم ،وخذ ايضا اسطورة «الانا الناجية « والآخر الهالك،واسطورة «انا المسلم استاذ العالم ومعلم البشرية»، واسطورة «النسخة العربية المعتمدة والوحيدة للاسلام «واسطورة الجهاد الذي اختزل في القتال فقط، واسطورة « تقسيم العالم الى فسطاطين» على مسطرة التكفير والولاء والبراءة، ولا تنس بالطبع اسطورة «الطاعة»،واسطورة «الغنيمة « واسطورة تقديس التاريخ..
ما اكثر الاساطير التي تحتشد في مدوناتنا التاريخية والفقهية لدرجة ان المسلم الذي تصور بان الدين جاء لكي يحرره من الخرافة والاسطورة انتهى للاسف - بفعل بعض الذين تقمصوا دور العلماء واصبحوا رجال دين - الى العيش في واقع حزين سادت فيه الخرافة فقهرته واستلبت منه عقله وانسانيته.
ثمة اساطير سياسية ايضا، خذ مثلا اسطورة «الدولة « الوطنية التي ما تزال مجرد هياكل غامضة مفرغة من المضامين، هذه الدولة التي تأسس عليها وعينا باعتبارها اطارا عاما للوطن وملكا لمواطنيها ومصدرا للقوة نكتشف الان بعد ما جرى في عالمنا العربي ان صورة الدولة في المخيلة الاسطورية ليست كما هي في الواقع..
خذ في المجال السياسي ايضا، اساطير اخرى مثل : «التنمية»، الديمقراطية، العدالة، الشعب الواحد، ستكتشف ايضا بان حركة السياسة ومعها حركة المجتمع في الغالب كانت تسير بعكس اتجاه هذه القيم والمفاهيم، فالتنمية التي افرزت اكثر من 60 مليون امي في العالم العربي واكثر من 100 مليون شاب عاطل عن العمل،، و لم تنتج جامعة عربية واحدة بين اوائل مئة جامعة في العالم ولم تسمح للبحث العلمي ان يحوز على اكثر من اثنين في العشرة من مئة من الناتج الاجمالي للدول العربية، ليست اكثر من «كذبة» واسطورة، اما الديمقراطية والعدالة..الخ، فليست اكثر من نسخ متشابهة للتنمية، ومجرد تطبيقات عملية بائسة لها.
اذا اردنا ان نغادر ازماتنا المزمنة لا بد ان نفتح عيوننا على كل الاساطير التي كرست تخلف الذات العربية المسلمة، والغت عقلها،وجردتها من انسانيتها، وان نتصارح و نتصالح ونكف عن استخدام منطق التكاذب والمجاملة، والاقصاء والتكفير، واستعداء الذات والاخر، لا بد ان نبدأ مرحلة التحرر من الخرافات السياسية والدينية، وبعد ذلك يمكن ان نبحث على وجه اليقين : كيف نعبر الى المستقبل..؟
رأى بعض المؤرخين أن المرحلة الأسطورية من تاريخ البشر قد ولَّت، وتبعتها المراحل الدينية، ثم الأيديولوجية ثم العلمية فالرقمية. وبناء عليه يُفترض ألا يستسيغ البشر اليوم سذاجة الأساطير وخرافاتها، وهذا صحيح عند البعض، ولكن ليس عند الجميع. الشعب المنغولى، مثلًا، يفتخر حتى يومنا هذا بإنجازات جنكيزخان وحفيده هولاكو المشهورين بوحشية لم تكن معهودة حتى فى عصورهم. اعتبروا أنفسهم أصحاب الحق وغيرهم يستحق العذاب. لِكل أسطورته، والكل يُغنى على هواه، من وجهة نظره التى شكلتها بيئته وتاريخه المختلفان عن بيئة وتاريخ الآخرين. لم يكن هذا قانون الماضى فقط، بل رأينا أيضًا فى عصرنا الحديث أساطير هتلر فى الجنس الآرى، وأمريكا فى إقامة الديمقراطية بالشرق الأوسط، وهكذا.
الأسطورة فى معجم المعانى «تلفيق للحقيقة»، وفى علم الأنثروبولوجيا لكل شعب أسطورته، وفى علم النفس لكل إنسان ذاته، والذاتية هى عكس الموضوعية، وطعام الأسطورية
*
الأسطورة وميثولوجيا استحضار التاريخ
توق الإنسان الأبدي إلى الغموض والسحر والخرافة المقترنة بالمخيلة واللاوعي والحدس المتجاوز للمنطق، واستباق الواقع واستشراف المستقبل في نظام فكري متكامل، وتماهيه مع ذاته الإنسانية في شخوص الآلهة أو أنصاف الآلهة بعمق فلسفي مقدس. هذا الفضاء الأسطوري الذي أطلق العنان للروح الإنسانية في مشهد تراجيدي سماوي شيع كل المعتقدات والأفكار إلى نبؤات الأساطير في كونه المُحكم الذي يتحرك ضمنه. ونقف لنتساءل (هل نحن بحاجة إلى الأساطير في حياتنا وفي أدبنا وكامل خيالنا وفكرنا؟!)
الأسطورة كالعلم والدين والتاريخ في المجتمعات الحديثة ذات مغزى ديني أو نشأة فائقة عن الطبيعية ترتبط بثقافة أو فلكور معين لتفسر مظهر من مظاهر العالم أو المجتمع. وترجع الأساطير إلى ما قبل الأديان، يقول كل من لابير وفارنزورث «الأسطورة عبارة عن شائعة أصبحت جزءا من تراث الشعب الشفهي «تعرف بالميثولوجيا ولقد ظهرت هذه الأساطير لدى البابلين والفراعنة والرومان والإغريق والمايا فيما مضى من الأزمان، والميثولوجيا لها خواص إنسانية تنساق وراء الحب والحسد، وتمر بتجارب الإنسان مثل الولادة والموت، فهؤلاء الاسكندينافيون إلههم (ثور) يصنع الرعد والبرق ويقذف بمطرقته الأعداء. وتعد أعمال هوميروس الإلياذة والأوديسة من أقدم المصادر الأدبية في الشعر الملحمي الأسطوري، ويزخر الأدب العربي بأساطير شهيرة كأسطورة شادهافار. ووحش القطرب وضياع مدينة أطلانتيس في الرمال وطائر الرخ والعنقاء.
ألهمت الأساطير والشخصيات الأسطورية الأدباء والشعراء والمبدعين في الأدب والموسيقى والهندسة المعمارية والرسم والنحت، فخلق الأساطير ممارسة موروثة لديمومة الفكر والتجلي الإنساني، وهي عملية جماليّة ساحرة تتمرد على السلطة وتقهر الظلم. فقد أكد نيتشه أن كل ثقافة فقدت أسطورتها فقدت معايير إبداعها الطبيعي، ويُعد استحضار الأسطورة استحضاراً للتاريخ فلا يكاد يخلو نصاً شعرياً في العصر الحديث منها، فعند استدعاء بطل أسطوري وتاريخي من خلال القصيدة فما هي إلا رغبة في استحضار روح البطل وتقمصها وحنينا لتلك البطولات الخالدة، فنجد بدر شاكر السياب استخدم أسطورة أدونيس المضرّج بالدماء وعبدالوهاب البياتي الذي حمل حلاّجه عبر رحلاته من بغداد إلى بيروت إلى مدريد وفي شعر محمود درويش والفيتوري وغيرهم من شعراء العرب في العصر الحديث.
إن حاجتنا إلى الأسطورة في عصر العلم يهدف إلى تأمين المفاهيم والنسق في الأعمال الأدبية وتحديات العصر بتقنياته المتعددة وخلق تلك الفسحة الزمانكية البعيدة عن السيطرة،
فالأساطير تُولَد لأنها تلبي حاجتنا إلى حكاية محكمة وتحول التاريخ أسطورة لجيل كامل، ومن هنا نجد أن الأساطير بتنوعاتها الطقوسية والتكوينية والتعليلية والرمزية تتناول القضايا الوجودية الكبرى للإنسان، وتكشف عن أعماق النفس البشرية وجزء من التراث والثقافة والحضارات.
الأسطورة هادفة إلى تفسير ما للعالم ولو كان تفسيرا ضل طريقه، ولكننا لا يمكن أن نسلب منه صفة النشاط الهادف.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق