Mar 16, 2021
كاريزما
يُفسِّر ظاهرة الإعجاب الشديد بأمثال ميسي ورونالدو ومارادونا بنظرية "سلطة الكاريزما" لصاحبها ماكس ويبر، عالم الاجتماع الألماني الشهير، الذي يُنسب له صك المصطلح. ويبر كان يعتقد أن تمتع بعض الأفراد بقدرات استثنائية، تُمكِّنهم من الإتيان بأفعال لا تقدر عليها الأغلبية، يدفع الناس لاتباعهم وتصديقهم، ثم مع الوقت، ودون وعي، يبدؤون في وضعهم في مرتبة تفوق البشر.
أفكار ديفيد كانيمان، الفيلسوف والاقتصادي الحائز على جائزة نوبل، في كتابه الشهير "التفكير بسرعة وببطء" (Thinking Fast & Slow)، التي يبني فيها على النظرية ذاتها، مُعتبرا أن الجاذبية الخارقة التي يتمتع بها أصحاب الكاريزما عبر التاريخ تأتي من قدرتهم على تقديم سردية الرجل الواحد، أو البطل المنقذ، أو الأصل في كل ما سبق؛ المسيح المُخلص.
يعتقد الكثيرون أن أصل هذه الفكرة يعود للقديس بول، تلميذ عيسى عليه السلام الذي كان ينقل تعاليمه للمسيحيين الجدد، الذي دعا الإغريق لابتكار لفظة "كاريزما" للمرة الأولى في التاريخ ليصفوا بها أصحاب "القدرات الإلهية".
الفكرة بسيطة؛ الناس لا يمكنهم رؤية الخالق ولا استيعابه، لذا يلجؤون إلى تعويض ذلك بمحاولة بائسة لتجسيده في صورة يُمكنهم فهمها، ولا أقرب لهذه الصورة سوى الاستثنائيين من البشر، الأبطال الخارقين الذين يصفهم ماكس ويبر بأنهم "أصحاب سلطة".
بدأ الأمر بالقديس بول لأسباب مفهومة، ثم تعمَّم مع الزمن، فأصبح أي شخص قادر على إلهام الجماهير يمتلك هذه السلطة بالتبعية، حتى لو كان يلهمهم لغزو العالم وقتل الملايين مثل هتلر.
كانيمان يعتقد أن سردية البطل المنقذ تسيطر على عقول البشر بشكل فطري، ليس لأن جميعهم يؤمن بالمسيح طبعا، ولكن ببساطة لأنها أكثر السرديات جلبا للراحة والاطمئنان؛ اختصار تفاصيل شديدة التعقيد في شخص واحد يمكنك اتباعه وأنت مطمئن الضمير مستريح البال، دون أن تحتاج إلى التفكير أو النقد أو التمحيص أو التحقق أو بذل أي مجهود على الإطلاق. هذه فكرة جذابة للغاية، لأن أكثر الأفكار جاذبية هي تلك التي تخاطب نوازع الكسل والاستسلام لدى الإنسان.
هكذا تصبح الحياة أبسط بكثير؛ تنتخب رئيسا واحدا لأنه الحل لكل شيء، وتقرأ لكاتب واحد لأنه الأفضل على الإطلاق، وتستمع لنوع واحد من الموسيقى لأن الباقي كله هراء، وبالطبع تعشق ميسي أو رونالدو أو مارادونا لأنه قادر على الفوز بالمباريات وجلب البطولات منفردا.
نصف إله ونصف بشر
بعدها تتحوَّل العملية كلها إلى دائرة مفرغة تغذي بعضها بعضا؛ عندما تتعامل الجماهير مع لاعب كرة أو سياسي أو كاتب على أنه نصف إله ونصف بشر فمن الصعب إخبارهم بالعكس. طبعا لسبب واضح هو أن كل هذا التقديس يغذي غروره، ومع الوقت يصبح من الصعب التخلي عنه، فيبدأ لاعب الكرة أو السياسي أو الكاتب في تغذيته بسرديات مختلقة، تتجاهل الحقائق وتُزوِّر الواقع، ولكنها تلقى قبولا هائلا لدى الجماهير في الوقت ذاته، بل ويرفضون كل ما عداها بشراسة منقطعة النظير. لماذا؟ لأنهم لو كانوا يريدون الحقيقة لما وضعوه في هذه المرتبة ابتداء، وهكذا.
الخطأ الأول الذي يرتكبه الجميع، بما فيهم كاتب هذه السطور، هو الاعتقاد بأنهم أذكى من أن يقعوا في هذا الفخ، وأن يحرصوا على ترديد عبارات مثل "كرة القدم لعبة جماعية"، و"ميسي لا يستطيع الفوز وحده"، و"رونالدو لن يُسجِّل بدون فرص من زملائه"، إلخ، وبهذا يظنون أنهم قد حسموا مشاعرهم تجاه الأمر، ولكن ليت الأمور بهذه السهولة.
بعدها بدقائق، مع بداية المباراة، يجدون أنفسهم يأملون في عكس كل ما سبق؛ أن تتحوَّل كرة القدم إلى لعبة فردية، وأن يفوز ميسي وحده، وأن يُسجِّل رونالدو من ضربة مرمى. في الواقع، غالبا ما يكون الهدف من كل العبارات الروتينية السابقة هو خداع نفسك، حتى تتمكَّن من التصرُّف على طبيعتك لاحقا دون أن تشعر بالتناقض.
دعك من ميسي ومن رونالدو ومن مارادونا، فوجود أيٍّ منهم في أي موضوع كفيل بتعقيده وإضفاء حساسية لا داعي لها بسبب المعارك الأزلية بين أنصار كلٍّ منهم. دعنا نأخذك لآخر لاعب في العالم يمكنك أن تتوقعه اسمه في هذا السياق: نغولو كانتي.
هذه هي المشكلة التي يفتعلها الجمهور طوال الوقت مع أمثال ميسي ورونالدو ومارادونا؛ الخلط بين كونهم لاعبين غير عاديين، يستطيعون تأدية وظائف معينة بكفاءة أكبر، أو بشكل أجمل، أو بكثافة أعلى، وبين كونهم آلهة قادرين على الإتيان بالمعجزات. الخلط بين كفاءة كانتي في المواجهات الفردية وبين قدرته على مواجهة هجمات كاملة بمفرده دون مساعدة. الخلط بين حقيقة أن برشلونة لم يكن ليفوز من دون ميسي، ولا ريال مدريد من دون رونالدو، ولا الأرجنتين من دون مارادونا، وبين حقيقة أنهم فازوا وحدهم. الأولى حقيقة لا تقبل الجدل، والثانية كذبة لا علاقة لها بالواقع.
نهاية كذبة
الشيء الوحيد الذي ربما يكون قد انتهى هو كذبة البطل المنقذ المُخلِّص، كذبة فريق الرجل الواحد. هذا إن لم تُقرِّر الجماهير إعادة الكَرَّة مع هالاند ومبابي، والسؤال الأوقع هو: متى فاز أي لاعب مهما بلغت عظمته واستثنائيته دون فريق حقيقي يلعب بشكل جماعي ويمتلك حدًّا معقولا من المهارات الفنية والبدنية؟
*
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق