الجمعة، 6 أغسطس 2021

محاكمة العقل ومأزق الميتافيزيقا *اللاهوت***

Jun 25, 2019
الشرق الاوسط
كتب القرنين السابع عشر والثامن عشر الفلسفية عدته غير مؤهل لمعرفة الحقيقة
يكتشف المتأمل لعناوين الكتب الفلسفية التي هيمنت على القرنين السابع عشر والثامن عشر، أنها، كلها، كانت عبارة عن محاكمة للعقل، وفحص لقدراته، ورسم لحدود إمكاناته في المعرفة. فقبل كتاب ديكارت

فرنسيس بيكون (1561 - 1626)، كتابه «الأرغانون الجديد» أو الآلة الجديدة، التي يجب أن توجه العقل وتزيل أوهامه. وبعد ديكارت، كتب إسبينوزا (1632 - 1677)، 

ألف جون لوك (1632 - 1704)، كتابه الذي يعد أول تشريح للعقل البشري بعنوان «محاولة في الفهم البشري». ثم جاء كتاب آخر لفيلسوف استطاع أن يخلف أثرًا كبيرًا على فلسفة كانط ويوقظه من سباته، إنه الفيلسوف ديفيد هيوم (1711 - 1776)، وكان بعنوان «تحقيق في الذهن البشري». 
 بحث في أصل الأفكار المكدسة في الذهن وعلاقتها بالواقع. وهو محاولة للبرهنة على عجز العقل على الخوض في الموضوعات الميتافيزيقية التي ليس لها جذر في الإحساس. بل هو دعوة لتحطيم كل فلسفة مستغلقة مليئة بالرطانة الميتافيزيقية، لتتوج، في النهاية، هذا المسلسل من التحقيق في العقل، بأشهر محاكمة كان بطلها الحكيم العالمي كانط، بعناوين لكتبه تتضمن كلمة نقد وهي: «نقد العقل الخالص»، و«نقد العقل العملي»، و«نقد ملكة الحكم»، أي نقد للعقل النظري وللعقل الأخلاقي وللعقل الجمالي.

وإذا ما تساءلنا عن السبب الذي أدى إلى الهجوم على العقل، والقول إنه ساقط في الوهم والمزاعم، إلى درجة السذاجة والغفلة، فإن الجواب يكمن في ذلك الزلزال الذي أحدثته الثورة 
الفلكية الكوبيرنيكية خلال القرن السادس عشر
 فبقولها إن الأرض تدور والشمس ثابتة، فهذا يعني مباشرة، أن العالم قد خدع البشرية طوال القرون السابقة. فهو كان يظهر نفسه على شاكلة مضللة ومزيفة، ما خلق أزمة إدراك حسي رهيب، جعل الشك ينتشر في كل شيء، بما فيه حتى العقل وقدراته.

وجراء أزمة الإدراك الحسي
بدأ العمل وبجهد جهيد، على غربلة العقل وتنظيفه. فهو مشحون بالأفكار التي وجب التأكد من مدى حقيقتها. إن هذه العملية ستفضي إلى مأزق خطير

فالقضايا الرياضية مثلاً، هي صائبة لدواعٍ عقلية صرف. فخمسة مضروبة في ثلاثة تساوي خمسة عشر. فأنا أعلن صدقها بعملية فكرية، يكفي فيها العقل نفسه بنفسه. كذلك القضايا الفيزيائية، فهي ممكنة الحسم بوضعها في محك التجربة. فعندما أردد فكرة كون الحديد يتمدد بالحرارة، فهي صائبة لدواعٍ تجريبية. إذن عقلنا البشري له معياريان أساسيان للبث في مسألة الحقيقة: معيار عقلي صرف في علوم الهندسة والجبر، ومعيار آخر تجريبي في العلوم الطبيعية. فأن أقول لك: «إن الشمس لن تشرق غدًا»، فإنك لن تتمكن من الطعن في كلامي، ولا أن تضعه في تناقض. فالخيار الوحيد المتبقي لك، هو انتظار التجربة قصد التكذيب. لكن ما القول في الأفكار التي لا تخضع لهذين المعيارين، وهي القضايا الغير محسوسة المسماة ميتافيزيقية (كالله 
والنفس والعالم)؟
يقول الفيلسوف ديفيد هيوم بشأنها، كلامًا قاسيًا. فهو، بعد أن ينتهي من تشريح العقل وإبراز حدوده، سيكتب، في آخر كتابه، عبارة تلخص كل شيء: «عندما ندخل إلى مكتباتنا، وإذا ما كنا أوفياء لمبادئنا، فأي الرزايا يجب الابتعاد عنها؟ سنسأل أنفسنا إذا ما أمسكنا بأي كتاب في اللاهوت أو الميتافيزيقا المدرسية مثلاً: هل يتضمن استدلالات مجردة حول الكم أو العدد؟ كلا. هل يتضمن استدلالات تجريبية حول الوقائع والوجود العيني؟ كلا. فلتقذف به إذن في النار، لأنه لا يمكن أن يحتوي إلا على السفسطة والوهم».

إذا كان هيوم سيجعل من الميتافيزيقا مضيعة للوقت، وسيعلن عدم جدواها، فإن كانط، وهو المتأثر بهيوم، سيعمل على الخروج من المأزق، بإنقاذ الميتافيزيقا وإيجاد مخرج لها. فكيف ذلك؟
- الحل الكانطي لمفارقة الميتافيزيقا.
إن النقد الهيومي للميتافيزيقا كان في الحقيقة هو العنوان الأكبر لكل القرن الثامن عشر، حيث تم شن هجوم شرس عليها. فها هو الفيلسوف وعالم الرياضة د. لمبرت d.alembert (1717 – 1783)، يقول «إن صفة «الميتافيزيقي» قد أصبحت مهانة أمام العقل السليم». بل إن فولتير (voltaire (1694 - 1778، وبسخريته المعهودة، سيزدري الميتافيزيقا قائلا: «إذا رأيت اثنين يتناقشان في موضوع ما ولا يفهم أحدهما الآخر، فاعلم أنهما يتناقشان في الميتافيزيقا»، سيعيش كانط في ظل هذه الهجمة الشرسة على الميتافيزيقا، وسيقتنع بأنها في ورطة، ليعلن ضرورة إعادة النظر فيها، وسيجند نفسه للبحث عن شرعية لوجودها.

تاريخ الميتافيزيقا هو تاريخ الصراع والمبارزة، تاريخ النزاعات غير المحسومة.

وإجمالاً، أدى البحث في الميتافيزيقا عبر تاريخها إلى نزعتين: نزعة مادية تنكر وجود أشياء خارج المادة، بما فيها الله والكائنات الروحانية، وتعتقد في قدم العالم، وفي الضرورة الشاملة لقوانينها. ونزعة أخرى مثالية مؤمنة، تعتقد في أسبقية الروح على المادة، وفي خلود النفس ووجود الله. وكل نزعة تقدم براهينها المنطقية وحججها التي يصعب الحسم فيها. هنا بالضبط، سيتدخل كانط ليؤكد أن النزعة الأولى التجريبية، تغالي في رفضها للأفكار الميتافيزيقية، على الرغم من أنها تجتاحنا من دون استئذان. فاحتقار الميتافيزيقا عند كانط، أمر مرفوض. فهو يقول في رسالة إلى مندلسون ( 1729 - m.mendelsson (1786: «إنني أبعد ما أكون عن النظر إلى الميتافيزيقا، على أنها شيء تافه يمكن الاستغناء عنه، لدرجة أنني مقتنع بأن الوجود الحق والدائم للجنس البشري، لا يقوم إلا عليها ولا يكون إلا بها». كما أنه يصفها بأنها «ملكة العلوم» و«طفلنا المدلل». وكما أن الإنسان لا يستطيع أن يحب بلا تنفس، فهو لا يقوى على أن يتخلى عن الميتافيزيقا. لكن في مقابل ذلك، هناك مجازفة ووثوقية مبالغ فيها من طرف النزعة المؤمنة المثالية المقابلة، التي تدعي معرفة عالم ما فوق التجربة. فالله كمثال، ليس له سند موضوعي يحتكم إليه. إنه قضية تتجاوز الزمان والمكان. فنحن أمام مفارقة للميتافيزيقا واضحة، لا يمكن التغاضي عنها من جهة، ولا يمكن الرضا عما تقدمه من جهة أخرى. فلكي يخرج كانط من هذه المعضلة، قام بالتفرقة بين مجال المعرفة ومجال التفكير. فعقلنا يجب أن يحاكم، بحيث يجب ألا يخلط ما بين المجالين. فنحن نعرف عالم الظاهر (الفنومين)، ونفكر في عالم الشيء في ذاته (النومين). فالظواهر الخاضعة للمكان والزمان، يكون فيها العقل مؤهلاً لمعرفتها، وله الإطارات اللازمة لإدراكها، بينما الأشياء في ذاتها. فأقصى ما يمكن أن يقوم به العقل تجاهها، هو أن يفكر فيها، والزيف كل الزيف أن يدعي معرفتها. إذن مع كانط، ليس العيب في أن يتجه العقل نحو التفكير في العالم المفارق للتجربة. فذلك نزوع أصيل فيه.
 بل العيب في أن يعزو لهذه الأفكار، وجودًا موضوعيًا من دون الاستناد إلى أساس معرفي سليم. لهذا فطموح الميتافيزيقي في معرفة عالم الشيء في ذاته، يوقعه في التناقض. لأنه يستخدم آليات لا تصلح إلا في عالم الظواهر. هذا الخلط هو ما جعل الميتافيزيقا لا تتحرك ولا خطوة واحدة. بل هو ما جعلها تدور في حلقة مفرغة عاقت دربها الأمن نحو العلم، على عكس العلوم الأخرى. بكلمة واحدة، نصل مع كانط إلى النتيجة التالية: إن العقل غير مؤهل لمعرفة الحقيقة، أي: «الشيء في ذاته». فهو يعرف فقط عالم الظواهر، عالم الزمان والمكان، الأمر الذي يجب أن يفضي إلى ضرورة تواضع الميتافيزيقي. وعوضًا عن الحديث عن معرفة القضايا المجاوزة للحس، وجب عليه الاكتفاء بالتفكير فيها. ففي ذلك احترام لحدود العقل وإمكاناته. فخطأ الميتافيزيقيين واللاهوتيين عند كانط، نابع من خلطهم العالم المحسوس بالعالم المعقول المافوق حسي دون مبرر.

**********************

 2013 ماذا عن الميتافيزيقا اليوم؟ النهار جريدة

فلاسفة النّهايات الموت وما يروّجون له من نهاية الميتافيزيقا...نهاية الفلسفة...موت الانسان والاله...موت الذّات...ما بعد الحداثة...الخ.
 وما يقترحون من بديلٍ، مثال: فلسفة الحياة...فلسفة اللغة...الهرمينوطيقا...تحليل القول العلمي. ونقد المنطق والعقلانيّة...الصّمت عن الأسئلة المقلقة...النَّشيد الخلاصيّ...التفكيك.
 الميتافيزيقا صارت مشكلةً فلسفيّة مع كنط إثر نقد العقل المحض، وابتدأ رذلها مع فشته، مرورًا بهيغل، ليكتمل مع هيدغر ومن جرى مجراه.
١-من كنط الى نيتشه
    ١.١-  كانط أنهى كلّ دعوى ميتافيزيقيّة بمعرفة نظريّة لما يتخطّى شروط التجربة ( نظريّة بمعنى يمكن إثباتها بالتجربة أو التّأكّد من صدقها). فأسئلةٌ من نوع: هل النّفس خالدةٌ أم فانيةٌ؟ هل الله موجود؟
    أسئلةٌ من هذا النوع، وعلى الرّغم من أصالتها، لا يمكن الإجابة عنها نظريًّا، لأنّ الإجابة المرجوّة تتخطّى قدرة العقل البشري النّظريّ.

    الخلاصة: الميتافيزيقا الكلاسيكيّة برمّتها تتهاوى كنصّ إلّا أنّها كرغبة عليا باقية وملازمة لطبيعة العقل وهذا ما يفسّر كون تاريخها مسرحًا لصراع الجبابرة، ساحة حربٍ فعليّة، إنّما بالكلمات؛ والرّهان ليس أقلّ من انتزاع عرش الأقاويل جميعًا تغيير العالم المادي بدل تغير نظرتنا للعالم ماركس 
 قوّة النّقد الكنطيّ تعتّم لاحقًا على إعطائه أماثيل العقل النظريّ دورًا تنظيميًّا للمعرفة، وعلى اقتراحه ميتافيزيقا عمليّة قوامها جملة فروض تؤمّن السلام في جمهوريّة العقل.
 مع هيغل ومن لحق به أو تأثّر، صارت الميتافيزيقا تهمةً يُقذف بها الخصم، وتعني عنده الفصل الثّنائي، ومعه يناقض المنهج الجدليّ والتّاريخي المنهجَ الميتافيزيقيَّ. وهذا يصحّ على ماركس وأوغست كومت الذي حسب الميتافيزيقا عمرًا انقضى من أعمار العقل لصالح العمر العلميّ، بعد أن كان عمرها قضى بدوره على العمر اللاهوتيّ. ويصح ذلك أيضًا على نيتشه وإن بدرجةٍ أقلّ.
8 دقيقة
 نتشه يحسب الميتافيزيقا تعبيرًا عن توق العبيد الى الإمرة، وذلك بفصل السّماء عن الأرض، واعتماد ثنائيّة الخير والشّر،
الوضعيّة المنطقيّة وعموم الفلسفة التّحليليّة، في مرحلتها الأولى، تُفتي لجهة استبعاد الميتافيزيقا من القول الفلسفيّ بوصفها كلامًا خاليًا من المعنى. وفي مرحلتها الثانية تهتمُّ بالأنطولُجيا والميتافيزيقا بمعنًى ما.

إنّ نزاع الميتافيزيقيّين حول وجود العالم الخارجيّ أو ثنائية الرّوح والجسد نزاع لا طائل تحته. والأهمّ من كلّ ذلك أن هذه المسائل يترك البتّ بها للإعتقاد.

- الميتافيزيقا ليست علمًا بالمعنى المتعارف عليه. وليست علمًا نظريًّا ( بلغة كنط)، فهي لا تخبر شيئًا عن موضوعها. ولا تضيف معلومات وإن كانت في جانبٍ منها تشير الى وجهة تنظيم هذه المعلومات

*************************

الاوان 

الميتافيزيقا: علم الإلهيات أم علم حدود العقل؟

علم الميتافيزيقا، فهو عند الأوائل و المتقدمين كأرسطو والمدرسيين مشتمل على البحث في الأمور الإلهيّة، والمبادئ الكليّـة، والعقل الأوّل. وهو عند المحدثين ككانط مقصورٌ على البحث في مشكلة المعرفة 

 1 ـ الميتافيزيقا: علم ينظر في الإلهيات 
 ذكرنا أن للميتافيزيقا موضوعين فأمّا موضوعها الأوّل فهو الَّذي سمَّاه أرسطو بالفلسفة الأولى. فقد سماها دراسة المبادئ الأولى للأشياء، و علم الوجود من حيث هو كذلك، بأنها دراسة “الجوهر”. والجوهر، عند أرسطو، هـو ما وجد منذ البداية، وهو السَّابق على سائر الأشياء الأخرى لا من حيث الوجود فحسب، بل ومن حيث التّفسير والمعرفة  ولهـذا نجد ابن سينا يقول: إنَّ هذا العلم، ويقصد الفلسفة الأولـى، يبحث عن الموجود المطلق، وينتهي في التّفصيل إلى حيث تبتدئ منه سائر العلوم، فيكون في هذا العلم بيان مبادئ سائر العلوم الجزئيّة
معرفة المبادئ العليا للوجود
سماه الإغريق بلفظ: Arché الَّذي ترجم إلى العربيّة بكلمة “الأوّل”
عند أرسطو “النـوس” أي العـقل المتعالي على العالم والقائم بنفسه  النّوس كعلة غائيّة لحركتها هو المحرك غير المتحرك. ولهذا يُسمى العقل الكوني عند أرسطو بواجب الوجود
موضوع الميتافيزيقا حسب سياقها الأوّل هو واجب الوجود، الَّذي يمكن أن نسميه الله أو الإله. ولهذا تم الاهتمام بهذا العلم كثيراً، واعتبر من أشرف العلوم وأعمها و أكثرها يقينيّة ومنفعة و تجريدًا. 
 الميتافيزيقا حسب موضوعها الأوّل تبحث عن المطلق، وتريد معرفته بعد معرفة الظواهر
علم ما بعد الطبيعة هو تعيين المطلق، والكشف عن العلّة
 2 ـ الميتافيزيقا: النّظر في حدود العقل 
  الموضوع الثَّاني للميتافيزيقا فهو متعلّق بمشكلة المعرفة وقد تطرَّق كانط إلى هذه المشكلة، فتساءل: هل يمكن قيام الميتافيزيقا على أساس علمي؟ لقد لاحظ كانط أنَّ العقل يقودنا إلى اليقين في المعرفة العلميّة ولكنَّه لا يقودنا إلى معرفة الميتافيزيقا معرفة يقينيَّة، فلماذا؟ يؤكّد كانط ،
 فلماذا؟ يؤكّد كانط ، في كتابه نقد العقل المجرّد، على الطَّابع اللاّتجريبي لموضوع الميتافيزيقا التّقليديَّة ومنهجها القبلي الَّذي يعني استخدام العقل الخالص وحده و معنّى نقد العقل المجرّد حسب الّسياق الكانطي لا يعني مهاجمة العقل أو نقده وإنّما يعني الفحص عن قدرة العقل بوجه عام فيما يتعلّق بكلّ المعارف الَّتي يطمح إلى تحصيلها مستقلاً عن كلّ تجربة  وإن كان كانط يصل في النّهاية إلى انتقاد العقل، بمعنى أو بآخر، حين يؤكّد على أنَّ مهمَّة الميتافيزيقا هي تحديد الحدود الَّتي ينبغي على العقل ألاَّ يتجاوزها. أو بعبارة أخرى: ينتهي إلى القول بأنَّ الميتافيزيقا هي العلم الباحث في حدود العقل الإنساني و كانط هنا يتفق مع هيوم الذي يرى أنه ينبغي علينا أن نبحث جادين في طبيعة العقل الإنساني، وأن نتبين ـ نتيجة للتَّحليل الدَّقيق لقواه و قدراته ـ أنَّه ليس ملائمًا بحال من الأحوال لبحث من تلك الموضوعات النَّائية المستغلقة 
أحدث كانط ثورة لا تقلُّ أهميّة عن الثَّورات العلميّة التَّجريبيَّة في رؤيته للميتافيزيقا، فنظريَّة كانط في المعرفة وتحليله للذّهن البشريّ، ووضعه الأسس الحسّية للفهم والادراك، لا تقلّ أهميّةً أبدًا عن نظريَّة كوبيرنكوس في الفلك، واكتشاف البخار كطاقة محرّكة
فحين ينكر كانط في مؤلّفه نقد العقل المجرّد أن معرفة الواقع كما هو على حقيقته مستحيلة، فقد كان ينكر أنَّ للميتافيزيقا موضوعًا خاصًّا بها
أصبحت الميتافيزيقا معه تأخذ معنـى مختلفًا كلّ الاختلاف عن معناها الأوَّل، أي أصبحت ذلك العلم الَّذي ينظر في حدود العقل. فهل وصلنا نحن العرب  المسلمون لهذه الثَّورة الكانطيَّة ** في الميتافيزيقا أم أنَّنا لازلنا نكرّر مشكلات الميتافيزيقا الأولى باعتبارها العلم الَّذي ينظر في الإلهيات؟!
* May 18, 2021
2007

 فروق بالطبع بين اللاهوتي والميتافيزيق

اللاهوتي رجل نقل، بالمصطلح العربي، فيما الميتافيزيقي، رجل عقل، لو استخدمنا ذات المصطلح. اللاهوتي رجل يكرّس التقليدي والغابر والمنغلق، ويدافع عنه حتى بأدوات العصر الحديثة لو لزم الأمر، بينما الميتافيزيقي، على العكس: مفتوح على كل الأفق: منذور لحدوسه وتأملاته الباطنية الفردية، منذور لفكره الشخصي، ولأصالته ككائن متفرّد، ولا يمنع هذا من استرشاده واستفادته من فكر الآخرين. لكنه في كل الأحوال، غير ملزم بما يقوله هؤلاء وأولئك، بل هو سيد تأملاته، حتى لو لم توصله هذه لشيء ذي بال.

أتكلّم بحدس الشاعر، قبل وعي المثقف

اللاهوتي يعمل على الأديان السماوية تحديداً، ويتشرنق في شرنقتها الضيقة. بينما الميتافيزيقي أوسع مدى، بل لا تحدّه حدود. هو يعمل في جانب منه على تلك الأديان نفسها وعلى غيرها من الأديان الوضعية، لكنه يعمل في الأساس على البشري والكوني فيه بكثافة، ينطلق منهما ويعود إليهما، دون أن يربط بالضرورة بينهما وبين الإلهي: فثمة ميتافيزيقي ملحد لا يعترف بالله وبمملكة السماء، مثلما ثمة ميتافيزيقي مؤمن. لكن اللاهوتي هو مؤمن أولاً وأخيراً، ولا يستقيم له ألا يؤمن. بمعنى ثمة ميتافيزيق أرضي محض، لا يحترم سوى فكرة [ المُطلق ]، كفكرة أصيلة في وعي ولا وعي الإنسان، مثل بعض الصوفيين الملاحدة. فهؤلاء يعملون على فكرة المطلق لا فكرة الله. ولديهم وجهات نظر بل فتوحات تأملية جديرة بكل احترام عقلي. ولعلنا نجد أغلب من يعمل في هذه المنطقة، سواء في الشرق أم في الغرب، هم من فئة الفنانين والشعراء وأصحاب الرؤى الجوّانية الأصيلة، ذات الطابع الأدبي والإنساني عموماً.

 عودة عالمنا العربي الحالي إلى الدين، هو شأن ميتافيزيقي، قلنا له كلا بل هو شأن لاهوتي مسيّس لا أكثر. هي عودة إلى اللاهوت، لا عودة إلى الميتافيزيقا. فلا ميتافيزيقا ذات شأن في الإسلام، كما في كل الأديان السماوية الأخرى. ولم يعرف المسلمون الأوائل، كما الأواخر، كما نحن هنا والآن، سوى أقل القليل من الميتافيزيقا. إن لم نقل أنهم وأننا لا علاقة لنا بالموضوع. فالإسلام بالأخص، وتراثه بالتعميم، لا يحبّذ الميتافيزيقا، كضرب من ضروب الاجتهاد المفتوح، بل يحرّمها ويجرّمها، بما هي ذات أفق أوسع، وغير معنية بالمرجعيات، والسبب أنها أقرب إلى النظر الفلسفي العقلي والوجداني، منها إلى حظيرة الدين. وبالتالي فهي مفتوحة على [ الهرطقة ] كما يراها هذا التراث. والهرطقة بالطبع مذمومة وملعونة. لأنّ الهرطقة توصل إلى الزندقة، كما التمنطق يوصل على التزندق !

مونتاني وديستويفسكي ونيتشه وأخيراً الراحل إميل سيوران. فلقد عمل هؤلاء وسواهم في بيئة بلا رقابات وبلا محظورات: بيئة لحمتها الحرية وسداها احترام الاجتهاد، فأبدعوا الروائع، ومضوا، ليأتي مَن يمشي على طريقهم ويراكم.

 الميتافيزيقي فرد خارج عن القطيع، ولا يتماهى مع العقل الجمعي للأمة، ولا ينصت سوى لأصواته الداخلية ولصمته الكبير وسط ضجيج التابعين والمنوّمين مغناطيسياً. الميتافيزيقي يحب العزلة والليل وسماع موسيقى الكائنات والأجرام السماوية، وموسيقى الكلاسيك الغربي الحديثة. بينما اللاهوتي العربي ينصت لصوت المؤذن والمرتل وجعجعات خطباء الجمعة.. الخ.

 فمن الخطل الكبير وسم قادة الإسلام السياسي لدينا بالميتافيزيقيين
لكنهم لاهوتيون، وتلك هي المعضلة.حيث مرحلة اللاهوت، تجاوزها كل العالم تقريباً منذ أزمان وأزمان. لماذا ؟ لأنها مرحلة تصادر العقل البشري، وتمنع عليه حقه في الاجتهاد والخصوصية والتأمل الفردي. اللاهوت نتاج ووليد النمط الزراعي والإقطاعي، بالأحرى، وبانتقال العالم إلى مرحلة العصر الصناعي وما بعدها، شحُبَ اللاهوتُ وتراجع وتوارى خلف جدران مؤسسات ضيقة، يقوم عليها رجال متخصصون في هذا الجانب دون غيره. لذا فإن العودة إلى حضن اللاهوت، هي عودة ضد سُنن التاريخ، وعودة إلى الوراء، لتصادرَ الأمام. بل قل عودة إلى العماء، هرباً من تحديات الواقع، بوقائعه وحقائقه، نحو ضباب مخدّر، يقي صاحبه من مغبة مواجهة الحقيقة القاسية ولو مؤقتاً.

هذا هو الواقع. لذا سننتظر طويلاً، ربما بعد أن ننتقل إلى العصر الصناعي، حتى يولد بين ظهرانينا ميتافيزيقيون كبار.وإلى أن يأتي ذلك العصر، علينا أن نقف في وجه اللاهوتيين العرب الجدد، لكي لا يؤخّروا وصول ذلك العصر، فننتظره مئة عامٍ أخرى، فيما غيرنا وصله قبل مئتي عام وربما أكثر !

*



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق