Mar 30, 2021
عقل مصر .
محاولة للتعامل مع الحالة المصرية بالعقل هي من ضروب الجنون، ذلك إن إخضاع ما يصدر عن السلطة الحاكمة وأذرعها وأرجلها لميزان المنطق هو من أشكال العبث بلا نتيجة.
خارج العصر، غير أنهم لا يكتفون بذلك، بل يطلبون من العالم الالتحاق بهم في تلك المساحة الهائلة من العدم.
لم تكن الدماء على قضبان القطارات قد جفّت بعد، ولم تكن الأشلاء تحت أنقاض العمارة المنهارة قد جمعت، ولم تكن أعداد الضحايا هنا وهناك قد أحصيت، فيما كانت الفضائيات التابعة لأجهزة النظام تقيم الأفراح في اللحظة ذاتها بتعويم السفينة الشاحطة في قناة السويس، فتنقل جميع المواقع الصحافية عن برنامج تلفزيوني، غاطس وشاحط حتى أذنيه في لجة الدجل والشعوذة السياسية، ما يلي:
*
من مصر إلى تونس .. غرام الاستبداد بالفساد
الأموال مقابل التصالح والحصول على شهادات صلاحية اجتماعية.
هذا منطق الثورات المضادة والانقلابات دائمًا، حدث في مصر ويحدث الآن في تونس مع انقلاب قيس سعيّد على كل شيء: الثورة والدستور والبرلمان والقضاء .. والأخلاق أيضًا.
يريد تصالحًا مع الفاسدين والنهابين، ولا يفكر في التنكيل بأحد منهم، فمن دفع نجا من العقاب، وصار وطنيًا مخلصًا ومواطنًا شريفًا.
خرّيج الحقوق، المنتحل صفة أستاذ القانون، والذي نصّب نفسه نائبًا عامًا بعد إطاحة نائب عام الشعب، يعلن عن صفقة التصالح مع منتهكي القانون، ملتمسًا منهم في أدبٍ جمّ أن يقبلوا دعوته إلى الاندماج في المجتمع، في اللحظة التي يمارس أقصى درجات الإقصاء والاستئصال ضد المخالفين له سياسيًا، والمعترضين على مسلكه الاستبدادي، المدعوم من معسكر الثورات المضادّة، ويحرّض الشعب على معارضيه، باعتبارهم أعداء الوطن.
هذا الغزل الصريح، غير العفيف، بين الطغيان والفساد، شهدته مصر عقب انقلاب 2013، إذ وفر الانقلاب مظلة حماية ورعاية وشراكة لكل الفاسدين، المعلوم فسادهم للناس كافة، والثابت إجرامهم بأحكام القضاء، ورأينا ورأى الجميع كيف انهمرت قرارات العفو الرئاسي كالمطر فوق الفاسدين والمجرمين، في الوقت الذي انفتحت فيه أبواب جحيم التنكيل القضائي بالمعارضين الذين سيقوا إلى الإعدام بالمئات، وحشروا في الزنازين المقبضة بعشرات الآلاف.
وجدنا هشام طلعت مصطفى، المستحوذ على ملايين الأمتار من أراضي الدولة، بقوة التحالف مع الفساد، والقاتل بحكمٍ باتّ من محكمة النقض المصرية في جريمة قتل الفنانة، سوزان تميم. وجدناه حرًا طليقًا، ووجهًا مفروضًا، من جديد، على شاشات التلفزة والصفحات الأولى للجرائد، بموجب قرارٍ من رئيس سلطة الاستبداد والانقلاب شخصيًا.
القاتل، بحكم النقض، عاد مواطنًا شريفًا ورجل أعمال وطنيًا، بقوة رأس المال الباطشة، ليتحدث إلى جموع الشعب عن العدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان، وفقًا لمفهوم عبد الفتاح السيسي، مخليًا مكانه في ظلام السجن البهيم، للرجل المسؤول عن محاربة الفساد في مصر، رئيس الجهاز المركزي للمحاسبات المستشار، هشام جنينة.
هشام جنينة في السجن الآن، لأنه قاوم الفساد وتصدّى لاستشرائه، بينما هشام طلعت يصول ويجول في ربوع مصر، بمشاريعه العملاقة لإسكان الأثرياء وأصحاب النفوذ وملاك السلطة والجبروت. ومثله هناك عديد المجرمين، بموجب أحكام القضاء، يمرحون بمنتهى الحرية، كما هو الحال مع أحد رموز البلطجة والإجرام، وفقًا لنصوص أحكام القضاء النهائية، صبري نخنوخ. وفي مقابل هؤلاء عشرات، بل مئات، من رجال الأعمال الحقيقيين، ممن يُشهد لهم الجميع بالنزاهة ونظافة اليد وطهارة الثروة، تم زجّهم في السجون لأنهم لم يرضخوا لابتزاز الطغيان وإرهاب الاستبداد، فتم الاستيلاء على شركاتهم وأموالهم وممتلكاتهم.
هذا الغرام المتبادل بين الاستبداد والفساد في مصر دفع المخرج محمد العدل، وهو أحد نجوم دراما الانقلاب الأشداء، للتصريح قبل سنوات إن "كل الفاسدين مع السيسي، وإن كان ليس كل الذين مع السيسي فاسدين"، وهي مقولة دقيقة، صنفت في حينها على أنها "شهادة شاهد من أهلها"، تعبّر عن واقع جديد بدأ باختراع مسمّى "المواطنين الشرفاء" ليصبح الفساد في مصر محمياً بقوة السلطة، وسيداً ومدللاً، تُفتح له الأبواب والنوافذ، يدخل ويخرج بكلّ حرية، ما دام يلتزم بطقوس "تحيا مصر" صندوقاً كبيراً لإخفاء الجرائم والسرقات، ليكون الانقلاب فرصة العمر للفاسدين، يفدون إليه من فجٍّ عميق، للمساهمة بفسادهم في خدمة وطن مسروق.
بينما الفساد يرعى ويتوحش ويستشرس، متمتعاً بحماية الاستبداد، لا بأس بين الحين والآخر من خروج راعي الاستبداد والفساد معًا بتصريحاتٍ عنتريةٍ يعلن فيها الضرب بيد من حديد على أصحاب الثروات من أجل عيون الشعب، بينما الحقيقة الساطعة تقول إنه لا يتصوّر، عقلًا ومنطقًا، أن الشخص الذي سجن، ظلمًا وافتراءً وتنكيلًا، رئيس الجهاز المعني بمحاربة الفساد، يمكن أن يكون صادقًا في عدائه الفساد.
من مصر إلى تونس، يتصالح المستبدّون مع الفساد، بالقدر ذاته الذي يتخاصمون به مع القوى الوطنية الحقيقية... وكله باسم الشعب!
*
رواسخ المجتمع ورواسب النخب
المفاوضات السرية بين السيسي والله
قال السيسي لجمهور حفلته التي امتدت لما بعد منتصف الليل "اسمعوني كويس، جا ربنا قالي طيب أنا هخلي معاك أكتر من الفلوس هخلي معاك البركة وريني هتعمل ايه في بلدك وهتعمل ايه لناسك؟ هتغير صحيح؟ هتصلح أحوال صحيح؟ هتراضي الناس صحيح؟ هتسعد الناس صحيح؟".
حين كان ينتحل صفات العارفين والحكماء والفلاسفة .. الآن بات السيسي متصلًا بالله مباشرة، كليم الله الذي يحاوره ويطلب منه.
لو كان في مصر رجال دين حقيقيون، يخشون الله حقًا، لتصدّوا لهذه الجرأة على الذات الإلهية، ولم يسكتوا أمام هذه المرحلة المستعصية من التجديف والتطاول والسفه، الذي يبتذل العقيدة ويستهين بالمقدّس ويهبط بالكلام عن الله إلى حضيض الطغيان وجنون العظمة، متجاوزًا حالة الحاكم بأمر الله التي ظهر عليها السيسي في بدايات جلوسه على العرش.
هذه الهستيريا الكهنوتية تتحوّل هنا من بارانويا فاقعة إلى واحدةٍ من أدوات الاستبداد والقمع. وبما أن الرجل وصل إلى مرحلة التفاوض والتحاور مع الله، فليس من سلطة البشر العاديين، ولا من حقوقهم، أو من صلاحياتهم، محاسبته أو سؤاله عن النيل والمياه والحرية والديمقراطية، فكل هذه الأشياء من مفسدات الإيمان، ومن مبطلات الوطنية، والرد الناجع عليها هو "كفاية هري" أو: لا تسألوا عن أشياء إن تبدُ لكم تسؤكم.
هل كان من الممكن أن يصل السيسي إلى هذه الحالة، لو لم يجد سياسيين ومثقفين يحملون المباخر ويعزفون موسيقى الطغيان على أوتار مشدودةٍ بين عظام المختلفين معهم سياسيًا؟
الحقيقة إن كهنة الوطنية ومحترفي الشعوذة السياسية هم من يصنعون الطاغية، ويبيعون طغيانه للشعب، باعتباره الحل الوحيد، لكل المشاكل، أو بتعبير الشاعر الراحل محمد عفيفي مطر، في مقطوعة نثرية أبلغ من الشعر "لا يظهر الطاغية بكامل طغيانه فجأة، فليس هذا من أصول الصناعة، ولا بد من خطواتٍ محسوبةٍ متدرجةٍ تقابلها خطوات أخرى حتى يتم النداء .
* Aug 3, 2021
يخطفون الخبز بعد أن قتلوا الحرية
أعلن عبد الفتاح السيسي الحرب على الحرية طوال سبع سنوات من الضربات العنيفة، بحجّة حماية الخبز، فلما اطمأن إلى القضاء على مفهوم الحريات الاجتماعية تمامًا، أعلن الحرب على الخبز، في احتفال بهيج، بالأمس، قال فيه إنه حان الوقت لرفع سعر رغيف الخبز، وإن شيئًا لن يوقفه أو يردعه عن الاقتراب من الخبز الذي كان يمثل قنبلة موقوتة، يحاول كل من سبقه في حكم مصر أن يتجنّب انفجارها في وجهه.
بالانقضاض على الخبز، يكون السيسي قد افتتح المرحلة الأخيرة من حربه على ثورة يناير، بشعاراتها الثلاثة الأساسية "عيش/ حرية/ عدالة اجتماعية". يفعل ذلك وهو مطمئن تمامًا إلى أن هذا المجتمع صار جثة هامدة، لا يجرؤ ولا يقوى على الاحتجاج أو الغضب في وجه اليد التي تمتد لتخطف رغيف الخبز من فمه وأفواه أبنائه.
قايض الجنرال المصريين على حرّياتهم وكرامتهم بالخبز والطعام، وجرَّم وحرَّم عليهم حق الاختلاف، كي يضمن لهم حقوق الاعتلاف، بحسب تصريحاته العديدة التي كان لا يتوقف بها عن معايرة المصريين بفقرهم، ويمنّ عليهم بأنه يحمي خبزهم وقوت يومهم.
سيتولى بنفسه، وعلى مسؤوليته الشخصية، ملف تحريك أسعار الخبز، تمامًا كما انفرد، وحده، بتقرير مصير مياه النيل قبل ست سنوات، وكانت النتيجة ما تراه أمامك الآن: صار نهر النيل خاضعًا لإدارة إثيوبيا وإرادتها، تقرّر وحدها حجم ما يصل إلى مصر من مياه.
يبقى سعر العشرين رغيفًا أقلّ من ثمن سيجارة واحدة من السجائر التي تضاعفت أسعارها خلال سنوات حكم السيسي عشرات المرّات. وبعيدًا عن أن هذا القياس ساذج وبليد، فإن من حق المصريين الذين يجدون أنفسهم أمام فرمان دكتاتوري ينتزع الرغيف منهم، أن يقيسوا سعر الرغيف على ثمن درّاجة واحدة من الدراجات التي يلهو بها، منذ أصبح حاكمًا على البلاد، والمقدر بنحو أربعة آلاف يورو، بحسب الصحف السيسية التي اجتهدت في الوصول إلى نوع الدراجة وسعرها في الظهور الأول للجنرال فوق ظهرها.
هذا المبلغ (أربعة آلاف يورو) يساوي أربعين ألف جنيه مصري تقريبًا، وهو مبلغ يشتري ألفي علبة سجائر من تلك التي يقول السيسي إن ثمن السيجارة الواحدة منها يكفي لشراء عشرين رغيفًا مدعمًا.. هذا يعني أن توفير ثمن درّاجة واحدة من أسطول الدرّاجات الذي يستعرض به السيسي ، يكفي لشراء 800 ألف رغيف خبز، وهو ما يكفي لإطعام ثلاثة آلاف أسرة تقريبًا شهرا، لو افترضنا أن الأسرة الواحدة تستهلك عشرة أرغفة يوميًا.
الاقتراب من سعر رغيف الخبز اليومي كان طوال الوقت خطًا أحمر عند الحاكم، كونه يحمل نذر الانفجار المجتمعي، كما جرى في مصر 18- 19 يناير/ كانون ثاني 1977 حين اندلعت انتفاضة الخبز التي أجبرت أنور السادات على التراجع عن قراراتٍ اقتصاديةٍ أقلّ وطأة وطغيانًا من مثيلاتها عند عبد الفتاح السيسي، وكما حدث في تونس في الشهر نفسه من العام 1984 حيث اندلعت انتفاضة شعبية ضد مضاعفة أسعار الخبز، أسفرت عن 84 قتيلًا، وكما جرى في السودان 2018.
السؤال هنا: هل صار المستبدّ في بلادنا لا يحسب حسابًا للغضب الشعبي؟ هل اطمأنوا تمامًا إلى أن الشعوب بلغت من الإعياء واليأس ما يجعلها لا تُظهر أي بادرةٍ لمقاومة عواصف الرأسمالية العسكرية المتوحشة؟
قلت سابقًا إنه، وفي ظروف أقل وطأةً مما يعيشه المصريون الآن، كان تحريك سعر أي سلعةٍ كفيلًا بتحريك دوائر من الغضب والاحتجاح، تأتي، في حدّها الأدنى، على هيئة بياناتٍ ناريةٍ من أحزاب اليسار، بشكل خاص، والأحزاب عمومًا، ترفض وتدين وتطالب برفع المعاناة عن كاهل الجماهير، وتحذّر من انفجار الغضب الشعبي .. الآن صارت هذه الأحزاب جزءًا من العبء الملقى على كاهل الجماهير، بل إنها تتغذّى على لحم أكتاف الجماهير، ولا تمارس من العمل السياسي سوى رقصاتٍ خليعةٍ في صالون السلطة.
لقد قتلوا السياسة، بوصفها ميدانًا للدفاع عن الحقوق والحريات، قبل أن تمتدّ أيديهم إلى رغيف خبز الفقراء، وكأنهم ضمنوا أن لا إمكانية مقاومة ولا قدرة على الغضب هناك.
*
حزب اعداء الرغيف
قوة التظاهرات أعادت ذراع النظام الباطش إلى مكانه، وتم سحب القرار، مؤقتًا، حتى تتهيأ الظروف لتنفيذ ما هو أعنف منه، وها هي أربع سنوات قد مرّت، جرى خلالها تكسير عظام الجماهير داخل خلاطات القمع الأمني، والأهم من ذلك زجّ كل الأصوات المعارضة، ذات القدرة على مخاطبة الجماهير والتأثير فيها، إلى زنازين السجون والمعتقلات.
قضى على محصول الغضب بشكل كامل، وشلّ قدرة المجتمع على أن يحتجّ أو يغضب، فقرر، مباشرة، رفع سعر الرغيف المدعوم، وليس تقليص حصة المخابز منه فقط، مطلقًا صيحته المتحدية "ما حدّش يقول ما تقربش من سعر الرغيف... لأ هقرب". هي ذاتها الصيحة مؤجلة التنفيذ منذ العام 2017، والتي أطلقها وزير تموينه "ما حدّش هيلوي دراعنا".
ينفرد المصريون بتسميته "رغيف العيش"، حيث يتجاوز كونه سلعة للأكل إلى كونه عماد حياة ووجود، الاستعانة بكل خوادم الانقلاب من شيوخ فسدة، وإعلام متواطئ على الجمهور، ونقابات ومؤسسات، كان من المفترض أن تكون في طليعة المدافعين عن حق الجماهير في "العيش"، فكانت أول من أعلنت العداء لرغيف الفقراء، واحتشدت بكل قواها للحرب عليه.
يستخدمون فوائض الخبز في تصنيع المشروبات المحرّمة
رفع السعر إلى 400% من سعره الحالي، والذي يذهب مسؤول فيه إلى مزيد من التحريض على الشعب الكسول، معلنًا اكتشافًا جديدًا "اعتماد الفرد على الدولة في دعم غذائه يخلق مناخا من التكاسل بين فئة الشباب". والبرلمان، الذي هو برلمان الشعب، يحتفل بالقرار التاريخي الذي تأخر كثيرًا. ونقيب الفلاحين الذي يطالب بمزيد من الرفع، وأحزاب تكاثرت كالفطر على سطح السياسة، تعلن التعبئة العامة للقضاء على الرغيف المدعوم قضاء مبرمًا، والإعلام الذي لا يتورع عن الادعاء كذبًا أن الجماهير سعيدة بالحرب على عيشها، وتؤيد قرار الزعيم برفع الدعم عن رغيف الخبز.
ما الذي يمكن أن يدفع شيخًا إلى إهانة دينه على عتبة حاكم مستبد، أو يضطر نائبًا عن الشعب إلى التآمر على عيش الشعب، أو يذهب بصحافي أو إعلامي إلى هذه المرحلة من التدليس والتزييف؟ ما الذي يضطر كل هؤلاء إلى التطوّع في حرب خسرها كل من خاضوها على مر التاريخ، من الثورة الفرنسية التي أشعلها رغيف الخبز، مرورًا بانتفاضة المصريين ضد أنور السادات عام 1977 وهو في قمة زهوه بأنه البطل الخارج منتصرًا في الحرب؟ هل هو الخوف من البطش، وحده، الذي يجعلهم يصطفون ضد الجماهير، أم أن هؤلاء يحتقرون شعبهم من البداية ويجدون سعادتهم في إهانته وإذلاله؟
حكمة البسطاء المقطرة "اللي ييجي على عيش الغلابة ما يكسبش"
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق