Aug 2, 2021
من اقتصاد خدمات إلى اقتصاد ريعي في ربع القرن الأخير.
قبل الحرب الأهلية عام 1975 كان قطاع الخدمات هو الغالب على هذا الاقتصاد
أنشطة الخدمات اتسمت بإنتاجية مرتفعة نسبياً، وامتلكت ميزة تنافسية خارجية ظاهرة، ومقوّمات ريادة، لا سيما في التعليم والصحة، بل إنها أفسحت المجال أمام حضور متنامٍ، ولو محدود، في قطاعي الإنتاج السلعي الزراعة والصناعة. ومع ذلك، ولأسباب تتصل بانفتاحه الزائد على الخارج،
بعد الحرب، فقد لبنان قدرته الإنتاجية والتنافسية في القطاعات كافة بما فيها الخدمات. انحدرت الإنتاجية العامة للاقتصاد إلى أدنى حد،
تتسم الاقتصادات الريعية بأنها قليلة التنوع ومنخفضة الإنتاجية وتعتمد على المداخيل والايرادات الآتية من الموارد الطبيعية وما يماثلها، التي هي أيضاً المصدر الأساسي لتمويل الخزينة العامة لا الضرائب. أما الإقتصاد شبه الريعي فهو أيضاً منخفض الإنتاجية لكنه يعتمد على الايرادات الثانوية المتأتية من الموارد الطبيعية من خلال التحويلات المالية والتدفقات ومزايا الموقع.
سم مسار الاقتصاد اللبناني نراه بذلك، قد انتقل من كونه اقتصاد خدمات مع إنتاج سلعي محدود، إلى اقتصاد خدمات وريع، لينتهي إلى اقتصاد تدفقات ومديونية.
تجديد الطبقة السياسية الليبرالية المرتبطة بالخارج، يسعى أيضاً لتجديد شباب اقتصاد الريع والمديونية بملامح متبدلة وحلّة جديدة
السردية الثانية: الأزمة ذات طبيعة مالية، وتسبّب بها على نحو رئيسي، الدين العام وعجز الخزينة.
نسبة الدين العام إلى الناتج ونسبة فوائد الدين العام منه، اللتان كانتا من الأعلى في العالم، بل الأعلى على الإطلاق أحياناً. ومع ذلك، فإن عمق الأزمة وجوهرها اقتصادياً وليس مالياً، إذ تتقاطع محاورها الأساسيّة عند العجز التجاري وعجز الحساب الجاري الضخم (نحو 225 مليار دولار للأول و150 ملياراً للثاني في السنوات 1992 - 2018).
لزيادة الهائلة في الطلب على السلع (ثمّ الخدمات) المستوردة من الخارج، والذي موّلته عموماً حساباتنا الخارجية المدينة (ودائع وتدفقات وديون)، وأدّى مع أسباب أخرى إلى ما نحن فيه من خسائر.
لنظام الاقتصادي المفرط في انفتاحه، وكذلك الآثار الضارة لاتفافياتنا التجارية مع الخارج وسوء تطبيقها، فإن اتساع فجوة التبادل الخارجي تعود إلى ثلاثة أسباب ترتبط بالسياسات:
أولها، التثبيت النقدي طويل الأمد (أي تطبيق سياسات مجلس النقد واتباع قواعد عمله لكن بصورة ضمنيّة وفي ظل وجود مصرف مركزي)، علماً بأنّ ربط النقد الوطني بعملة أجنبية إذا اعتمد، فيجب أن يكون لمدّة محدّدة (سنة أو سنة ونصف مثلاً). وفي جميع الأحوال يجب أنّ يسير التثبيت النقدي جنباً إلى جنب مع إضفاء المرونة على أسعار الفائدة الحقيقية بل ودفعها نزولًا، وتجنّب التحرير المالي المفرط، واتباع سياسات جمركية منضبطة ومقيدة إذا دعت الحاجة.
- يعزى السبب الثاني لاتساع الفجوة الخارجية إلى الطلب الإضافي الناتج عن عجز الخزينة المتراكم والمزمن، والممّول في نهاية المطاف من القروض الداخليّة والخارجيّة.
- السبب الثالث، مردّه إلى ظاهرة المرض الهولندي التي فتكت بالاقتصاد اللبناني وتسبّبت في زيادة أكلاف الإنتاج وتراجع المكانة التنافسية للبلد وتعطيل قدراته الانتاجية الكامنة وخفض معدلات النمو.
السردية الثالثة: رحلة الانحدار نحو الأزمة بدأت عام 2011
«التسامح» النسبي الذي حملته معها رياح النيوليبرالية في التسعينيات، والتي فصلت بنحو ما المصالح الاقتصادية عن النزاعات السياسية ما أمكن ذلك. لقد صارت مقاربة الإدارة الأميركيّة (ولا سيما في عهدي باراك أوباما ودونالد ترامب) متشددة تجاه الخصوم، والسلاح الاقتصادي هو الأمضى بيدها. برز ذلك على ما هو معروف في حصار إيران ومعها قوى المقاومة في المنطقة بما فيها لبنان، وفي محاولة لجم صعود الصين، عبر العقوبات وتقييد التجارة.
وعوضاً عن أن نحاول التكيّف البنيوي مع التحوّلات، ومراجعة الاستراتيجيات وتغيير السياسيات، عبّرت الهندسات المالية عن توقنا المتجدّد للهروب إلى الأمام. لكن الكلفة المالية والنقدية والتجارية كانت هذه المرة باهظة جداً وأكثر من قدرتنا على التحمل، وفشل رهاننا الموروث على أن تبرز يد خفيّة ما لإنقاذنا في الوقت المناسب. وفيما كان يجب أن تترافق الهندسات المالية (التي ساهمت في تبديد ودائع الناس) في الحد الأدنى مع تعديل السياسات العامة (بالخصوص منها: تثبيت سعر الصرف، السياسات التجارية، التحرير المالي)، بقي الأمر على حاله، واستمر نزف الأموال إلى الخارج، وعادت الاحتياطات في غضون سنتين ونيف إلى ما كانت عليه قبل الهندسات. بتعبير آخر، بددنا أموالاً تتراوح فوائدها ما بين 30% و40% على الاستيراد المفرط والسياحة في الخارج واستقدام مزيد من العمال والعاملات في المنازل وتسديد الديون الخارجية أصولاً وفوائد.
السردية الرابعة: المعونات والمساعدات الخارجية هي التي أنقذت لبنان في محطات عديدة ومكنته من الصمود في العقود الماضية، وهي التي ستقيله هذه المرّة من أزمته وتعين اقتصاده على النهوض مجدداً
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق