السبت، 28 أغسطس 2021

الخروج الكبير من العالم الواقعي في عوالم العصر الرقمي ******

Apr 7, 2020

أفكار وآراء لكتّاب عرب تتناول انتشار العالم الافتراضي وانعكاساته على النواحي الاجتماعية والثقافية وحتى السياسية.

 قبل كورونا وخلالها، وكذلك سيكون الحال بعد انقضاء الجائحة، سيظل العالم الافتراضي يتنامى حضوراً وتأثيراً في حياة البشر على سطح كوكبنا الأرضي.
حضور الشبكة العنكبوتية وهيمنتها على السوق، سوق العمل والتجارة والمال والسياسة والرياضة والثقافة والفن، وعلى صيغ التواصل بين الشباب في مشرق العالم العربي ومغربه. 

هل يمكن صون حياتنا الخاصة في عصرنا الرقمي؟

 مارك زوكربيرج مؤسس فيسبوك الذي يقول “الناس اليوم أكثر انفتاحا ويشعرون أكثر بالراحة وهم يشاركون غيرهم بالمعلومات الخاصة بحياتهم”.
هل يمكن المطالبة بحق في الحياة الخاصة في هذا العصر الرقمي؟ في مجتمع التكنولوجيات الحاضرة في كل مكان وقطاع؟ أو هو نقاش سيتجاوزه الزمن من الآن فصاعدا كما يعتقد الكاتب الفرنسي جون مارك ماناك في عنوان كتابه المستفز “الخصوصية، مشكلة الشيوخ البلداء؟”
ففي القرن السابع عشر على سبيل المثال كان سكان باريس يستحمّون عرايا في نهر السين حسب مؤرخي هذا القرن وفي المساكن كان الاختلاط هو السائد بين العائلات وحتى ملكة فرنسا كانت تلد أمام الناس. وبما أن مفهوم “الحياة الخاصة”، لم يكن مكرسا بعد،
ولكن في القرن العشرين بدأ القانون يقترب من الفرد والاهتمام بحياته الخاصة. ويعود هذا الاهتمام إلى ظهور الوسائل التكنولوجية ذات الأداء العالي كآلات التصوير والتسجيل التي بإمكانها التدخل في حميمية الافراد. لقد انتظر رجال القانون في فرنسا حتى سنة 1970 لترسيخ الحق في حياة خاصة وذلك عبر المادة الـ9 من القانون المدني الساري المفعول إلى اليوم “لكل شخص الحق في أن تحترم حياته الخاصة”. وإن عدّد قانون الـ17 من يوليو 1970 تهما مختلفة في ما يتعلق بالمساس بالحياة الخاصة والتي تبناها قانون العقوبات لعام 1992 في مواده 262-1 وما بعدها، فإنه لا يقدم تعريفا قانونيا يسمح بضبط دقيق لمفهوم الحياة الشخصية. وهو ما جعل الفهم يختلف من متخصص إلى آخر، فمنهم من يعرفّه على أنه “المجال الخاص الحميمي السري الذي يقصي منه الفرد الآخرين”. وهو “مجال الحميمية لكل فرد”، يقول آخرون.

وانطلاقا مما سبق يبدو من المستحيل، في كلمة واحدة، في صيغة ما، أن نحدد مسبقا أين تنتهي الحياة الخاصة وأين تبدأ الحياة العامة. يبدو أن هذا السؤال سوف يعتمد دائمًا على التقدير السيادي للقاضي. وفي غياب تعريف قانوني ونظريّ واضح، يحاول الاجتهاد القضائي التفريق والفصل بين ما هو حياة خاصة وعامة. ويختلف تأويل وفهم المفهوم من بلد إلى آخر ومن الصعوبة إيجاد توافق في المسألة. فمثلا يعد الدخول إلي علبة الرسائل الإلكترونية المهنية لموظف من قبل رئيسه في العمل أمر عادي مقبول في آسيا بينما يعتبر اختراقا للحياة الخاصة في فرنسا. وفي الوقت الذي نجد فيه المحكمة الدستورية الجنوب أفريقية تعرف حق احترام الحياة “كحق الشخص أن يعيش حياته كما يريد”، ففي نظر المحكمة العليا في كندا فهو “النطاق المحدود من الاستقلالية التي تتشكل فيها الخيارات الأكثر جوهرية لدى الفرد”.

وما يعقّد الأمر أكثر على مستوى الشبكة العنكبوتية في ما يخص حماية المجال الخاص هو طبيعة نموذج الإنترنت الاقتصادي ذاته إذ مجانية التجوال على خدمات النت مشروطة بتقديم معلومات ومعطيات شخصية يمكن تحديد من خلالها هوية المستخدم الثقافية والذوقية والمهنية وبيع رغباته إلى شركات الإشهار. ونظرا للتشجيع الذي يتلقاه رواد الإنترنت للإدلاء بمعلومات تخصهم من قبل ثقافة “استعراض الذات”، فهم لا يترددون في الكشف دون حياء أحيانا كثيرة عن حياتهم العائلية الخاصة وحياة أصدقائهم.. وتلك هي وقود العالم الرقمي ولها قيمة هي التي تغذي اقتصاد المعطيات. ومن هنا دخلت الحياة الخاصة في حركة السوق الرأسمالي حيث أصبحت سلعة ككل السلع الأخرى.

تعتبر فرنسا من البلدان الرائدة في محاولة حماية الحياة الخاصة إذ تعتبر أنه ينبغي أن تكون تكنولوجيا الإنترنت في خدمة كل مواطن ولا ينبغي أن تنتهك هويته الإنسانية أو حقوق الإنسان ولا الحياة الخاصة ولا الحريات الفردية والجماعية (المادة الأولى من قانون الإعلام والحريات). ومهما كانت القوانين والضوابط فالمعلومات المنشورة على الإنترنت تنفلت من كل مراقبة وتصبح في متناول الغير ومن الصعوبة كيلا نقول من المستحيل أن يستردها صاحبها ويعيش في سلام. وحماية الحياة الخاصة يعني نظريا “الحق في العيش في سلام”، بعيدا عن أنظار الآخرين، عن المراقبة. فهل يمكن صون حياتنا الخاصة في عصر الذكاء الاصطناعي الذي تختلط فيه هويتنا المادية الواقعية وهويتنا الافتراضية الرقمية؟

انتحار الخصوصيّة


نشر كثير من النشاطات بالغة الذاتيّة بلا سبب موجِب، في سياق يكشف عن الغطاء التقليديّ الحامي للوجه الاجتماعيّ والأسريّ الخاصّ للشخصيّة الإنسانيّة،

الصور الشخصيّة هي ملك شخصيّ تمثّل تاريخ الشخصيّة في لحظة معيّنة من الزمن كانت تُجمَع وتُحفَظ في “ألبوم صور” للحفاظ عليها من التلف، ولا يعرضها صاحبها عادةً إلا لأصدقاء معدودين قد يكونون شركاء في بعضٍ منها، وهي تبعث نوعاً من الاستئناس والمتعة في التذكّر والاستذكار وتسجيل لحظات إنسانيّة جميلة خاطفة تؤرّخها الصورة بنمط معيّن من التشكيل، وكانت الكاميرا هي الأداة الفوتوغرافيّة العاملة في هذا المجال بحيث لم يكن امتلاكها أمراً ميسوراً للجميع، فهي غالية الثمن أولاً وتحتاج إلى اقتناء أفلام تُلقم بها الكاميرا حتى تكون جاهزة للتصوير، وحين يكتمل الفيلم يحتاج من جديد إلى تحميض واستظهار حتى تتحوّل الصور من شريط الفيلم إلى صور ظاهرة على ورق خاصّ بحجم الكفّ، ويمكن إظهارها على أحجام أكبر بحسب طلب صاحب الصورة إذ كانت محلات التصوير رائجة والمصوّرون الجوّالون يلتقطون صور الناس الراغبين في الشارع والمحلات والمقاهي والساحات العامة وغيرها.

تكاد تكون هذه التقاليد الخاصة بالصور الشخصيّة والجماعيّة في طريقها إلى الانقراض، بعد أن عوّضت أجهزة الموبايل الحديثة عنها وركنتها جانباً بما حملته من كفاءات تصويريّة عالية المستوى، ليس هذا فحسب بل ألغت تماماً ألبومات الصور وعوّضت بها ألبومات محفوظة في الجهاز نفسه بلا أفلام ولا تحميض ولا استظهار ولا ورق على شكل بطاقات صوريّة، يمكن لصاحبها أن يتلاعب بها على الأصعدة كافّة بلا حدود فيما يصطلح عليه “Play With Pictures” وبحسب الطلب والمزاج، على عكس الألبومات القديمة وهي تلزم حالة واحدة لا تتغيّر.

صار جهاز الموبايل آلة بانوراميّة تحوي كل شيء باقتدار وكفاءة عالية تتطوّر على نحو مجنون كلّ يوم، فهو محل تصوير واتصال وتسجيل وكلّ شيء تقريباً بما يجعل حامله قادراً على فعل أشياء عجيبة في هذا المجال بأقل ما يمكن من الجهد والمال والعناء، وعملت هذه الامتيازات العجيبة على انعدام فرص العناية بالآثار الجانبيّة التي يمكن أن تنشأ جرّاء هذا المنح الاستثنائيّ، فلا يوجد عطاء كبير على هذه الدرجة من الكرم بلا مقابل، وقد يكون هذا المقابل غير منظور وغير محسوب لكنّه موجود حتماً بلا أدنى شكّ.

يبقى جهاز الموبايل بما يحمله من إمكانات هائلة على هذا النحو أمراً شخصياً بالغ الخصوصيّة حين ينجح صاحبه في الحفاظ عليه بحيث لا يطّلع أحد غيره على ما يحويه من أسرار وخصوصيّات، وإذا ما تعرّض الجهاز للسرقة أو الضياع وصار في حوزة إنسان آخر فإنّ كارثة حقيقيّة تحلّ بصاحبه وقد يتعرّض للابتزاز والتنكيل لفرط ما يُخفيه الموبايل من أسرار شخصيّة بالغة الخطورة، لذا فإنّ إمكانيّة الحفاظ عليه ينبغي أن ترتفع إلى أعلى درجات الحماية والحراسة والدفاع إذ هو دفاع عن الذات والكيان والوجود والهويّة.

لكنّ انفتاح هذا الجهاز على تطبيقات السوشيال ميديا وبرامجها العديدة بما تنطوي عليه من فعاليّة تواصل سريع وواسع وشامل، أطاح بهذه الخصوصيّة وضربها في الصميم حين ضحّى الإنسان بكنوزه الذاتيّة وجعلها مشاعاً للآخرين بلا ثمن، فهو ما يلبث ينشر صوره على صفحاته بحثاً عن شهرة زائفة وإرضاءً لغرور ذاتيّ صغير كامن في منطقة غامضة من الأعماق، غير آبهٍ تماماً بما يمكن استغلاله من هذه الصور والتلاعب بها لتحقيق غايات غير شريفة وغير قانونيّة وشديدة الضرر، وهو ما يعرّض الإنسان لأخطار جسيمة لا يدرك شأنها إلا حين يقع فيها فيكون من المستحيل عليه تجاوز نتائجها الكارثيّة أحياناً، فيقع في شرّ صوره بعد أن أخفق في الحفاظ عليها داخل حدود ذاته وشخصيّته وفرّط بها لصالح أوهام لا قيمة لها البتة.

تشكّل الأسرار الصغيرة الخاصة بالاهتمامات المتعلّقة بالذوق الشخصيّ (ما يحبّ الإنسان وما يكره) فضلاً عن الأزياء التي يفضّلها والعادات والتقاليد الأسريّة أهم معقل من معاقل الخصوصيّة الذاتية، وإذا ما تمّ انتهاكها لأيّ سبب وتحت أيّ ظرف وفي أيّ مناسبة فإنّ جزءاً أساسيّاً من أجزاء كبرياء الإنسان وكرامته ومستقبله تصبح في خطر، فكيف إذا كان هذا الإنسان نفسه هو من يعرّض هذه الأسرار للانتهاك ويحرّض عليها حين ينشرها على صفحاته في التطبيقات بلا أدنى مسؤوليّة، لا بل يعدّها مصدراً للتفاخر والتباهي من دون التفكير بعواقبها حين يمكن استغلالها من طرف آخرين بوصفها وسيلة للابتزاز أو التنكيل أو الانتقام أو غير ذلك.

لا يقف الأمر – للأسف – عند هذا الحدّ بل يتجاوزه إلى وصف الطعام الذي يتناوله وتصويره في مناسبات خاصّة وعامّة، ووصف المناطق التي يزورها ويرتادها وحده أو صحبة عائلته أو أصدقائه وتصويرها على نحو يكشف عن عادات وتقاليد غاية في الخصوصيّة، لا يمكن إتاحتها للآخرين بلا وعي ولا إدراك ولا مسؤوليّة وكأنّه يصنع من نفسه وأسرته وأصدقائه هدفاً سهلاً لكلّ من يتربّص به لأسباب قد لا يعلمها أحياناً أو لا يتوقّعها، وإذا ما امتدّت سلسلة التبرّع بالخصوصيات إلى مستوى الكشف عن المعتقدات والدفاع عنها بلا مبرّر ضدّ آخرين لهم معتقدات أخرى، على نحو يثير الكراهية والبغضاء والطائفيّة ويعرّض الذات لخطر غير ماثل في الذهن من جهات إرهابيّة تلاحق ذلك، فإنّ الأمور تبلغ درجة قصوى من السوء والخطر قد يتعرّض فيها الإنسان للتصفية الجسديّة في أعمال إرهابيّة تَقتلُ على الهويّة، وهي جاهزة ومستعدّة بقوّة لاقتراف مثل هذه الجرائم في أيّ لحظة، ولا تحتاج في ذلك إلى أسباب ومبرّرات تُقنِع فيها الضحية أو المجتمع الذي يقف وراءها بصواب وجدوى ما تفعل.

تتفاعل احتمالات الخطورة أكثر حين يتمّ تصوير المنزل الشخصيّ في وسائل التواصل بحيث تكون رؤيته متاحة للعامة وهو سرّ شخصيّ بالغ الخصوصيّة، لكنّ كثيراً من مستعملي وسائل التواصل الاجتماعيّ يبالغون في نقل صور منازلهم ومحتوياتها وحالاتها وزواياها، بما في ذلك المكتبة والصيدليّة وهما من أدقّ الأسرار التي لا ينبغي أن تُكشف لأحد مطلقاً، بما يجعلهم عرضة للافتضاح وكأنّ منازلهم وبيوتهم بلا أبواب ولا جدران ولا أسيجة، وكأنّهم بذلك يغرون اللصوص والسرّاق ويحرّضونهم على وضع هذه البيوت والمنازل في مرمى اهتماماتهم اللصوصيّة بالنظر أو الفعل معاً، فكيف يمكن بإزاء هذه الأحوال أن يتمتّع الإنسان بخصوصياته وينظر إليها بوصفها عالماً صغيراً مستقلاً لا يشاركه فيه أحد غريب؟

ها هو الغريب يدخل إلى باحة هذه الخصوصيات برحابة ويسر وترحيب مسبق ومن غير أيّ مشاكل، بمعرفة صاحبها وتشجيعه بعد أن يقدّم تسهيلات لا يحلم بها الآخر مهما حاول كشفها بسبل أخرى يسعى إلى ابتكارها واختراعها، بما يجعل من الغريب البعيد قريباً أقرب من حبل الوريد يحظى بامتيازات كبيرة ذات طبيعة مجّانيّة.

التقاليد الخاصة بالصور في طريقها إلى الانقراض

لو أحصينا نمط هؤلاء الناس المشغولين بعرض صورهم وحالاتهم وأسرارهم بمتعة فائقة لاكتشفنا أنّ معظمهم يعاني من عقدة متأصّلة في الذات، أو نقص، أو مرض نفسيّ، يتعلّق برغبة جامحة للظهور كانت مكبوتة في داخله وأتيحت الآن فرصة لتفجيرها على هذا النحو، لأنّ هذا الغزو المضاد للذات يستحيل حصوله بلا دوافع مَرَضيّة تهدف إلى سدّ نقص واضح في التركيبة العقليّة لهذا الإنسان، وهو يعوّل على ما يحصل عليه من إعجابات وتعليقات من أشخاص لا يختلفون عن وضعه النفسيّ المريب والقلق، حين يتوهّم بذلك أنّه قد فَعَلَ ما يثير إعجاب الآخرين ويحظى بعنايتهم ورعايتهم بما يجعل منه نجماً على منصّات وسائل التواصل، تغذّيه نزعة شرسة غامضة لتعرية كلّ ما يملك من خفايا وأسرار وخصوصيّات يحسب أنّ إباحتها على هذا النحو وسيلة من وسائل الشهرة والنجوميّة، ويعزل من شاشة فعاليّاته أيّ شكل من أشكال الحذر والترقّب والحساب إذ يكون قد وصل إلى درجة عالية من غسل الدماغ، فلا يرى إلى صدى تلك الإجابات والتعليقات الباهتة التي ليس بوسعه تقويمها على النحو المطلوب لكشف زيفها وتفاهتها وبلادتها.

تتحرّك الرغبات المحمومة الجامحة للماكثين أغلب أوقاتهم على هذه المنصّات نحو البحث عن أمجاد وهميّة صغيرة، مأخوذة بجملة ما يصلهم من تعليقات وإعجابات لا تعبّر دائماً عن رأي موضوعيّ بقدر ما تندرج في سياق المجاملة العابرة، فيخفقون في التمييز بين الصالح والطالح، بين الذهب والصفيح، بين الأبيض والأسود، وهم يغرقون في حالة من العمى يتلمّسون فيها الحصى فيتصوّرون أنّها جواهر وحجر كريم.

المواقع الاجتماعية والتطبيقات والبرامج العديدة التي تتشكّل منها الشبكة العنكبوتية هي عبارة عن صحافة مجانية وميسّرة ودائمة الحضور، تسمح لمن لا عمل ولا شغل له أن يداوم فيها على مدار اليوم وينشر فيها ما يشاء، حتى أنّ بعضهم يبدأ من الصباح الباكر كي يقول لأصدقائه “صباح الخير” ثمّ يتواصل معهم في منشورات بلا عدد ولا حساب ولا قيمة، حتّى يشرف الليل على منتصفه ليودّعهم بعبارة “تصبحون على خير” في دوام مستمرّ لا يبقي شاردة أو واردة إلا وأتى عليها، ويتعامل بروح الهيمنة والأستذة أحياناً على من يستجيبون له ويتعاطون معه إعجاباً أو تعليقاً، وقد نصّب نفسه شيخاً يعرض نفسه وما يملك على معجبيه ومناصريه وكأنّه في بيته ومع أسرته وأقاربه عارضاً كلّ شيء على الملأ بلا حدود، في حالة تطابق شديد مع الذات يتمركز حولها ويغذّيها بما هو متاح من سبل التعظيم والتكبير الوهميّة.

يتأكّد جزء كبير وواسع من المشكلة في سهولة تقديم الذات على هذه المنصّات إذ يتاح لكلّ شخص بصرف النظر عن مرجعيته وخلفياته التعليمية أو الثقافية استخدام تطبيقات التواصل، ليتحوّل من كتب كلمة على صفحته في أيّ تطبيق على الشبكة العنكبوتية إلى كاتب أو شاعر أو مفكّر أو ما شاء الله من الصفات المعرفيّة الكبرى، وهو ما يلبث أن يصدّق هذه الأكذوبة ويتحرّك إلى اعتمادها في إطار تشكيل علاقاته مع الآخرين داخل هذا الفضاء الافتراضيّ العجيب، إذ لا يحتاج سوى مجموعة من الإعجابات والتعليقات التي تضعه في مصاف كبار الكتّاب والشعراء والمفكّرين حتّى يكون كذلك في نظر نفسه، ويواصل فعاليّة هذه الأكذوبة مهما أدّى ذلك إلى سخرية العارفين منه ومّما ينشر لإيمانه أنّه على حقّ، وأنّ عدد معجبيه ومعلّقيه من الأميين مثله كفيل بحصوله على هذا اللقب والتفاخر به بلا خجل.

 التبرّع بالخصوصيات على منصّات التواصل الاجتماعيّ حين يتمّ فتح أبواب شهيّة التلصّص ونوافذها على مصاريعها أمام الراغبين بالسرقة، فهي مال ثمين لكنّه سائب ومتاح لسرقات لا يحاسب عليها القانون لأنّ صاحب المال هو من يبالغ في جعلها سائبة في متناول الجميع.

فالمرونة التي يتيحها هذا العالم الافتراضيّ في سرعة التعامل ووحشيته وجبروته وسهولته في آن، يقود ضرورةً نحو تفكيك كلّ أشكال الحصانة وتعريض الذات للتمزّق والطعن والإباحة والنشر والافتضاح، ممّا يستوجب أكبر الحذر والتحسّب والمراقبة وإعادة النظر في الخطوات التي يخطوها المرء في هذا العالم، ولا ينسى أنّه يمتلك عقلاً ينبغي استخدامه واستثمار طاقاته الجبّارة مهما تعالتْ مغريات إهماله وتصميته وإبعاده عن حقل العمل

ممّا لا شكّ فيه أنّ الأسماء الوهميّة والصور المموّهة التي يضعها في الغالب مستخدمو منصّات وسائل التواصل الاجتماعيّ على صفحاتهم، تشكّل خطراً أكيداً على آليّة التعامل بين قائمة الأصدقاء الذين تشملهم فعاليّات هذه التطبيقات، ففيها يتاح للمستخدمين وضع أسماء لا تخصّهم وصور منقولة أو مفبركة لا تعبّر عن حقيقة صاحب الصفحة،
 غير أنّ كثيراً منهم لا يقبل صداقة أحد على الفايسبوك مثلاً قبل معرفة طالب الصداقة على حقيقته، وبعضهم يقبل حين تكون طالبة الصداقة امرأة لأسباب دونيّة تتكاثر في مجتمعاتنا المحرومة من صوت المرأة وصورتها ورائحتها، وهو ما يثير لبساً غير قليل في مواجهة التعرّض للخصوصيّات ونشر الأخبار أو صناعتها على وفق مناهج وسياسات لا علاقة لها بالحقيقة.


الخصوصيّة والرقابة في العالم التفاعلي


بات مفهوم الخصوصيّة وانزياح جدرانها، على غرار مفاهيم أخرى في العالم التواصلي – التفاعلي المعاصر، منفتحًا على ظاهرة هدم الحدود بين الثنائيّات الضدّية، وتداخلها وروغانها من أي تعيين. وما فهمهما في عالم يُعاد تشكيله بصورة دائبة،
ضياعًا للحدود الفاصلة، وقد اعتاد العقل العلمي في العصر الحديث فهم محيطه من خلال الحتميّات وصرامة التعريفات.
 نحن إذن في عالم نسبيّ بامتياز؛ والنسبيّة لا تعدل الفوضى والتعمية.

 العالم التواصلي الإلكتروني يبدو مساحة جذب ممتازة لتعزيز النرجسيّة – وهي الحبّ الموجّه إلى صورة الذات – والتماهي البطولي بأشخاص قد يراهم المستخدِم خارقين وذوي شهرة عريضة، فيسهمون في تشكيل «الأنا المثالي» لديه.

الصراع بين العلم والحرّية الإنسانية.. مرحلة قابعة في التاريخ

ندرك رفض انصياع شاب فتيّ لراشد، باعتبار أنّه أوسع معرفة تقنيّة منه، وأكثر مرونة في التعامل مع أدوات عصره، مسقطًا أسس منظومة اجتماعيّة سادت ردحًا من الزمن، ليعلي من شأن الصديق باقتراحاته وتنبيهاته في علاقة تسودها نديّة ينتفي معها السلوك الفوقي – السلطوي.

المراقب لصفحات الفيسبوك وما يتمّ من تعليقات على المنشورات، يعرف تمامًا أن ثمّة رقابة كامنة تمارسها شريحة واسعة من الأصدقاء، وتتراوح حدّتها بين إعجاب / لاإعجاب في إبداء الرأي، لتصل إلى حدّ التنمّر والعنف الفيسبوكي.

والشكل الإقصائي الجديد أو المحاسبة يتمثّلان في «البلوك» على صديق قد يكون ذا صلة معرفيّة في الواقع بصاحب الصفحة.
إنّ دائرة المعارف كلّما اتّسعت بات الخطأ أكثر مفضوحيّة، وبالإمكان أن يودي بصاحبه إلى طلب العزلة أو القيام بالانتحار في أقصى الحالات مأساويّة. عليه، فإنّ من غير العلمية وصف شبكة وسائط  التواصل الاجتماعي بالافتراضيّة.

في عالم التماهيات والإكراهات لا ذوبان أو تغييب للشخصية، وليس من حريّة مطلقة، بل ممكنة. وفي العصر اللاحتمي التعدّدي – كما تذهب يمنى الخولي – يظل الجُسيم المنفرد يحتفظ بشيء من الفردانية داخل القانون. إذ أنّ لاحتميّة العلم المعاصر تجعل كل حدث احتماليًّا بنسبة معيّنة. ولما كانت بدائل الأحداث قائمة، فإنّ حرية الإنسان كائنة. إنما الحرية ليست كيانًا أهوج مجنونًا، فنتصوّر عالمها اللاحتمي عماء وخليطا من فوضى. الحرية الإنسانية تعني إمكانية الاختيار بين بديلين أو أكثر. فلنا إذّاك، أن نقنّن ما ننشر ونحدّد من يرى ومتى، وأن نبقى في جهوزية لتلقّي أيّ ردّ فعل من عين ترصدنا باستمرار!

المجتمعات الافتراضية: الرهان على عقب أخيل

تدخّل وسائط الاتصال التكنولوجية الحديثة في مجال حياتنا اليومية، حوّل هذا التدخل في عالمنا العربي إلى شبه تداخل بين الأنساق البنيوية للمجتمع! أنساق بقيت لسنوات، إن لم نقل لقرون، خاضعة لمعادلة ثنائية: سلطة الحكم، ومحكومي السلطة! وما بين النسقين، شرائح تتمتع بشبه استقلاليات، لكنها في الوقت خاضعة لمعادلتي النسقين المتقابلين المتضادين، وهو ما نعرفه ضمن تشكيلة “الطبقات الوسطى”، التي تضم عادة شرائح المتعلمين والمثقفين والحرفيين والتجار.

ضمن هذه الأنساق الاجتماعية، ستتشكل ثقافة “التعامل مع” أو “التعامل ضد” ضمن جدلية الصراع من أجل البقاء (في السلطة) أو على الأوضاع القائمة من جهة، أو من أجل المطالبة “بالحق”، الذي تحول في أعين السلطة إلى باطل، فيما ستتعامل الأنساق “المتحكم فيها” ظاهريا على تحويل هذا “الباطل إلى حق” إذا اقتضى الأمر.

 ما جعل من وسائل التواصل، يشار إليها “بالاجتماعي”، فهي مطلب اجتماعي ثقافي قبل أن تكون وسائل إعلام أو تواصل سياسي، إنما أخضعت فيما بعد لمطلب حيوي في المجتمعات التي تعاني من الإكراهات السياسية، وتحولت هذه الوسائط الاجتماعية للاتصال إلى منابر يتداخل فيها السياسي بالإعلامي بالتواصلي الشخصي، بالاستهلاك والإشهار التجاري، مرورا بكل الأشكال المتداخلة التي تمنح في آخر المطاف قواسم المجتمع الكبير المشترك وغير المشترك فيه المسماة “خصوصية فردية”، والتي يراد لها أن تشارك في العملية التبادلية النفعية، كسلعة استهلاكية في آخر المطاف.

المواطن، المبهور والمشدوه أمام انفتاح المجال أمامه للخروج من الفضاء الضيق للاتصال المحلي والمناطقي، وأحيانا الأسري القبلي العشائري، وجد نفسه خلال فترة وجيزة، يتصور وكأنه تمكّن أخيرا من التغريد خارج القفص، وحتى دون إدراك أو معرفة مسبقة بما يفعل وبتبعات ذلك ومخاطر هذا الانفتاح على العالم الافتراضي، إلى درجة قبول تقاسم الخصوصيات العائلية والحميمية: صور وأحاديث ودردشات ورسائل صوتية ونصية، مرفوقة بقائمة “الأصدقاء والاتصالات”، يجد المستخدم نفسه يقاسم هذه الوسائط أسراره في ثقة الواثق من نفسه على أن العقل الإلكتروني الكبير هو “الصادق الأمين”. التطمينات التي تسوّقها المؤسسات الاتصالية من هذا النوع رفقة كل أنواع “الضمانات” لسرية المعلومات والملفات والصور والوثائق، تجعل المستهلك يقبل على المغامرة، هي في الأصل مقامرة.. فهو في نهاية الأمر مجبر على التعامل مع هذه الوسائل على اعتبار أنه لا خيار له من دونها، إن كان يريد أن “يعيش عصره” ويرفض أن يعيش العزلة في “عالم صار قرية صغيرة”، مجبرا أن يتنازل إما طواعية وإما مقتنعا أنه في مأمن وإما جهلا بأن كل بياناته العائلية مكشوفة للجميع، إن لم تكن لمغامري اللصوصية والتلصص، فلصالح شركات الاتصال والذكاء الصناعي ومخابر وكالات الاستخبارات.. “الأخ الأعظم” (بعدما تجاوزنا عصر “الأخ الأكبر”).

هذه البيانات، هي المادة الخام لمؤسساتها البحثية الإستراتيجية والتي توظفها ضد المستهلك من حيث يبدو أن هذا التوظيف هو لصالحه.. فهي في نهاية المطاف تجارة، يقبل بها الزبون ومعها يقبل بكل مخاطر الكسب والخسارة وبكل أشكال مخاطر السوق من تحايل وابتزاز وسرقة.. إنها المخاطرة الواعية التي تربك الوعي.. فالمدركون لهذه المثالب، على ضآلة حجمهم العددي، قياسا بغير المدرك بتفاصيل هذه الرهانات، مقبلون على بيع خصوصياتهم طمعا في عائدات إما ذات طابع تجاري نفعي أو خدماتي. المستخدم، يدرك حجم المخاطر والرهان، ولكنه لا يأبه بذلك، فهو في نهاية المطاف “مسلوب”، بفعل الإغراءات التي تفتحها له الشبكة العنكبوتية التي لا يقدّر مخاطر الوقوع في شراكها.. هذا الوقوع قد يكون سيكولوجيا عبر “الأوتيزم” السبرنطينقي (الإدمان) أو عبر التشبع والاندماج الكلي في عملية التنازل المستمر غير المتناهي على الخصوصيات، بدعوى “الاقتسام”، التي هي عقيدة دينية، تمثل “الحق الذي يراد به باطل”.. فالتّقاسم، تحوّل إلى عملية تبادلية تجارية، بحسب السوسيولوجي الفرنسي بيار بودريو، تتمظهر في شكل تبادل مصلحي، سلعي، خدماتي لا نهائي، أو في شكل تبادل تجاري نقدي، وغالبا ما يكون هذا التقاسم والتبادل “العيني” تقاسما للخصوصيات بغرض تسويقها كمنتجات سلعية، مقابل خدمات و”تحميلات وتطبيقات” للمستخدم تزيده إقبالا على إقبال، ونهما على نهم وشبعا على شبع لا يقوى المستخدم أحيانا على الفكاك منه.

الحق الذي أريد به باطل

يبدو للمستخدم العربي لوسائل التواصل الاجتماعي، المعاني من ضيق تنفس الحريات الفردية الاجتماعية الثقافية والسياسية والمحتقن في كل المجالات، أن هذه الوسائط، هي أدوات مقاومة متنوعة في انتزاع هذا “الحق” أيّا كان شكله: إلهيا، دينيا أو زمنيا، على اعتبار أن احتكار السلطة لمختلف السلط، كان في غالب الأحيان في مجتمعاتنا العربية وغير العربية المتّسمة بالشمولية والهيمنة باسم كل العناوين: قبلية، عائلية، ملكية، رئاسية.. هو الشكل المهيمن للنظام السياسي الأيديولوجي من بين هذه الأشكال الجديدة التي تدخلت لتوسع دائرة التداخل بين الأنساق وتجبر النسق المهيمن على التخلي عن سلطة الرقابة “الأبوية” على “الأنساق الصبيانية”، وسائط الاتصال التكنولوجية الحديثة.
الأب المهيمن على أبنائه: إنها سلطة الضبط! وهذا عين ما ذهب إليه ابن خلدون في مسألة تشكل الدولة و”المُلك العضد” وأفولها.. ذهنية تملك المُلك، الذي آل إليه السلطان، باعتباره ثمرة جهوده، التي تتحول إلى ذهنية التملك الفردي.. ملكية خاصة.. دولة ونظاما ومؤسسات، كلها تتحول إلى ملكية خاصة لمجموعة أو كتلة أو عائلة أو طغمة مالية!

الشريحة الاجتماعية الوسطى، والتي عادة ما كانت وتكون، مدعومة من النخب غير المستفيدة من مزايا الحكم وتوزيع الريع والدخل القومي والقيم المادية والروحية، هي المحرّك لآليات المقاومة بغية افتكاك الحق باستعمال الباطل إن اقتضى الأمر.. فالغاية عادة ما تبرّر الوسيلة، ما دام أن نفس المعادلة مستعملة من الطرف الآخر المهيمن: جيش، أمن، إعلام رسمي، خطابة رسمية، قوانين..! في الجهة المقابلة، ستعمل الطبقات والشرائح الدنيا، تقنيات الإفلات من هيمنة وسيطرة الطغم بكل أنواعها وفي كل أشكالها، ومن بينها “الإعلام”.

انتشار تكنولوجيا الاتصال، خاصة مع ظهور الجيل الثالث والرابع للإنترنت وقريبا الجيل الخامس، ساهم، ليس فقط في تغيير شكل “المقاومات الرمزية” لأشكال الهيمنة المحلية والعالمية، من تعامل شفهي، أو ما كان يعرف بمعادلة “من الفم إلى الأذن”، والذي هو قانون “الإشاعة”، إلى تعامل بالصورة والصوت والآنية، لسرعة تدفق المعلومة. فالمعلومة صارت تتدفق بشكل سيلان متعاظم ومتسارع حتى أنه لم يعد للسلطة المتحكمة لا الوقت في التصدي لهذا الإعلام “الشعبي” غير المنضبط، المشاغب، ولا الكفاءة في فعل ذلك. فالشباب المشحون قوة لا تقوى على التصدي له الشيخوخة المزمنة حتى ولو جندت طاقات شبانية لهذا الغرض!

تطوّر عالم تكنولوجيا الاتصالات، وسّع من دائرة التواصل. هذا التوسع، بقدر ما زاد في توسع التعاملات والتواصل بين الأفراد والدول الجماعات والمؤسسات المالية والخدمية، حوّل هذا التوسع إلى مجال التدخل والدخول غير المنضبط بل والإجرامي إلى حواسب وحسابات المتعاملين، باستعمال تقنيات التجسس الإلكتروني لصالح الشركات المنتجة والمسوّقة لهذه الخدمات، والتي تتعامل من خلال هذا الكم من المعطيات وبنوك من البيانات مع مصالح وذكاء خبرات دولية في كل المجالات لتوظيفها في سياق سياسات الهيمنة الاقتصادية أساسا، مهما كانت أبعادها. الفيروسات المساعدة على إفساد برامج الاستخدام هي في كثير من الأحيان رديفة لتلك البرامج المساعدة على كشف هوية الفرد أو الجماعة أو المؤسسة والدخول إلى بنك المعلومات والبيانات الشخصية وسرقتها ثم استعمالها لأغراض مغرضة وإجرامية، سياسية كانت أم مالية أم أخلاقية من فئة الابتزاز والضغط لأهداف غير أخلاقية في نهاية المطاف.

فالسرقات الرقمية في عالم الأعمال والبنوك، لم تعد وحدها هي الخطر، فهناك أخطار أكثر وهي سرقة البيانات والأسرار، أسرار الأفراد والدول وبرامج الأمن الداخلي للدولة والأسلحة وبرامج تطوير الصناعات العسكرية خاصة في مجال أسلحة التدمير الشامل.

الحسابات الفردية على وسائل التواصل الاجتماعي أصبحت هي الأكثر عرضة للقرصنة واستعمال الأسماء المستعارة ونشر المعلومات السرية عن الفرد أو الشخص مهما كانت صفته، بغرض الإساءة إليه. هذه الممارسات الاجتماعية، لم تكن معروفة في السابق بسبب عدم وجود إمكانية هذا التواصل الشبكي العنكبوتي في المجتمع العالمي اليوم. الويب، صار بيتا عنكبوتيا، يمكن لكل الممارسات الاجتماعية التي نعرفها سابقا في المجتمعات الحلية، توجد وبضراوة أكبر في المجتمعات الرقمية، خاصة وأن المتعامل هو مجرد اسم ولقب أو اسم مستعار، لكنه يحمل هوية رقمية “IP”، يمكن تتبعه ومتابعته عن طريق برامج خاصة لمراقبة التتبع  “Trackers”عن طريق التتبع المضاد، حتى أنه لا يكاد يوجد حساب واحد أو جهاز واحد غير مخترق أو عصي عن الاختراق. والحرب القادمة ستكون حربا إلكترونية بالأساس، هي حروب سحابية عبر الحسابات.

زمن الانغلاق والانحباس الإعلامي والتحكم في الخبر والمنع وتقليص حرية الإعلام والرأي، ممّا جعل المستعمل يلجأ إلى وسائل التواصل الاجتماعي إما منتجا للمادة المنشورة، صورة كانت أو فيديو أو نصا، أو استهلاكها، وهو الغالب. استهلاكها على أنها مصادر خبر حقيقة تنافس الصحف المكتوبة والقنوات الإعلامية الوظيفية (حتى لا أقول الاحترافية)،

الإثم والمنافع في وسائل التواصل الاجتماعي


وأمسى الفرد من لحظة استيقاظه من نومه إلى لحظة دخوله فراشه يمسك بهاتفه الذكي بيده

الأحزاب السياسية والناشطون السياسيون وجدوا هم أيضا بدورهم في وسائل التواصل الاجتماعي ميدانا جد مناسب لنشر أفكارهم وبرامجهم لتعزيز الحياة السياسية أوّلا من خلال نشر وعي سياسي وثقافة سياسية راقية بدعوة الناخبين إلى المشاركة بكثرة في الانتخابات، وثانيا من خلال إشراك الجميع في مراقبة أداء الوزارات وبقية مؤسسات الدولة بالكشف عن التجاوزات وتناول البرامج بالنقاش، ولعلّ أهم ما ميز وسائل التواصل الاجتماعي ومساهمتها في عمليات التغيير السياسي، استغلالها أثناء أحداث الربيع العربي التي عرفتها كل من تونس وليبيا ومصر وسوريا، حيث تحولت إلى منصات سياسية لنشر المواقف والشعارات وحتى تنظيم المظاهرات.

وماذا بعد أن يصبح الإنسان مشاعًا؟

ازدهرت في أيامنا الراهنة مقولة “المابعديات” فكثر الحديث عن “ما بعد الحداثة”، وعن “ما بعد العولمة”، وعن” ما بعد العلمانية”، وعن “ما بعد الكولونيالية”.. إلى آخر هذه “المابعديات” التي تنبهنا بأننا أمام عصر جديد فعليًا، عصر يتجاوز كل أطروحات الماضي البعيد والقريب ويجعلنا وجهًا لوجه أمام إشكاليات جديدة عويصة تتجاوز تلك الحمولات النقدية التي تسلّحنا بها عبر مقولات العصور الماضية، وتتطلب منا استحداث آليات جديدة للمواجهة. وتعد مقولة “ما بعد الخصوصية” (The post Privacy) إحدى المقولات المهمة التي فرضت نفسها على واقعنا الثقافي والعملي مستهدفة معالجتها والنظر إليها عبر أبعاد فلسفية وأنثروبولوجية واجتماعية ونفسية حتى نستطيع أن نقف على أبعادها ومراميها وتأثيراتها الراهنة والمستقبلية المحتملة على الفرد والمجتمع.

 مصطلح “ما بعد الخصوصية” الوقوف على حقيقة وهوية مصطلح “الخصوصية” المتجاوز ومعرفة ما له وما عليه. ومن ثم فإنه قد تم تعريف الخصوصية بأنها “قدرة الفرد أو الأشخاص على عزل أنفسهم أو معلومات عنهم عن مجال الآخرين المعرفي، وبذلك فإنهم يعبّرون عن أنفسهم بطريقة انتقائية ومختارة”. أي إنَّ الأفراد يحفظون كل ما يخصهم من معلومات في سرية تامة بحيث لا يمكن لأحد أن يطّلع عليها، إلا ما يريد هذا الشخص أن يفصح عنه طواعية من خلال إفساح مساحة معلوماتية لما يريد أن يعرفه عنه الآخرون.

والخصوصية في الأصل موقف دفاعي يتحصن بداخله الأفراد والمؤسسات حتى لا يقوم المنافسون والخصوم والأعداء باستغلال المعلومات المتاحة واستخدامها في إلحاق الضرر المادي أو المعنوي بالخصم. فلكل فرد ومؤسسة الحق في المحافظة على خصوصيته بمعزل عن الآخرين. هكذا يقول عصر الخصوصية الكائن تحت السماوات المنغلقة.

ولما كان الإنسان كائنًا اجتماعيًا لا يعيش بمفرده، بل يعيش ويتعايش ويتعامل مع الآخرين بكل أشكال التعامل، وهذا التعامل يتطلب أن يعرف كل طرف المعلومات الكافية عن الطرف الآخر فكان لا بد أن يفصح الإنسان عن بعض المعلومات ويتنازل طواعية عن بعض الخصوصيات التي يحتاجها الطرف الآخر عن شريكه، وذلك لتحقيق مصالح مشتركة، ولذلك تختلف كمية وحجم هذه المعلومات الخصوصية حسب طبيعة التعامل؛ فالصداقة غير الزواج، والزواج غير الزمالة في العمل، والزمالة في العمل تختلف عن المشاركة في المشاريع والشركات الخاصة… إلخ.

عصر الشفافية وما بعد الخصوصية

المراقبة كوسيلة للتآخي الكوني


إن ما يشهده العالم اليوم، في ظل الثورة الرقمية المذهلة، يفوق ما تخيّله جورج أورويل عام 1948، حين صوّر في روايته الاستباقية الديستوبية “1984” مجتمعا خاضعا للمراقبة والمعاقبة في الآن نفسه، أي أنه جمع بين عهدين، عهد الإقطاع والحكم المطلق، وعهد الأنظمة الحديثة. ومنذ صفحات الكتاب الأولى نقف على سلطة قاهرة متمثلة في حزب (هكذا يُطلَق عليه مجرّدًا من أيّ نعت أو إضافة) ينفّذ سياسة الأخ الأكبر، حاكم أوسيانيا الذي لا نعرف عنه إلا صوره المنتشرة في كل مكان، وأخبارا عمّا يتميز به من ثقة وقوة ورصانة، حتى أن البطل ونستون سميث يشك في وجوده.

وخلاصة ما توقعه أورويل منذ سنين: انتشار وسائل المراقبة الظاهر منها (كاميرات المراقبة التي لا تخلو منها مدينة من المدن في الدول المصنعة) والمقنّع (الإنترنت والفيسبوك)، التحكم في الجماهير من خلال الميديا، تزوير التاريخ، طغيان لغة عالمية وحيدة (الأنكلو أميركية والرسائل القصيرة عبر الهواتف الجوالة)، انحسار الحريات الفردية، فضلا عن ظهور أنظمة استبدادية مطلقة كما هي الحال اليوم في بلدان العالم الثالث، حيث القائد حاكم بأمره في المصائر والبصائر، وحيث يد السلطة تتوسّل بنشر الفقر وتعميم الجهل للمسك بخناق الشعوب.

ولكن أورويل لم يتوقّع أن تتقبل المجتمعات طوعا وسائل المراقبة “المقنّعة”، وتحرص عليها حرصها على المواد الضرورية التي تؤمّن البقاء، فقد استطاعت العولمة ابتكار مستحدثات تكنولوجية، يعتقد الفرد أنها جُعلت لخدمته، وتيسير حياته، وهو لا يعلم أنها أدوات للسيطرة على إرادته وتوجيه رغباته، لغايات ربحية بالأساس، إذ نجح رأس المال مرة أخرى في خلق نوع من الإحساس بالنقص لدى كل من لم يحز جهازا من الأجهزة المعروضة للاستهلاك. مثلما استطاعت الشركات العالمية العملاقة “غافا” (غوغل، أبل، فيسبوك، أمازون) أن تسيطر على الرقاب دون عنف أو إرغام، عن طريق المواقع الاجتماعية وشبكات التواصل عبر العالم، وأوجدت بذلك ما أسميناه في مقالة سابقة “الرق الإرادي الجديد” أو “العبودية الطوعية” بعبارة إتيان دو لا بويسي.

السوق الرقمية

إذا كانت الجريدة المطبوعة في القرن التاسع عشر تجعل قارئ الجريدة مجرّد مستهلك لمنتوج صحافي، فقد صار بإمكان الإنسان غير الصحافي أن يكون "صحافيا" بالهواية وليس بالاحتراف.

 رفاعة رافع الطهطاوي في كتابة “تخليص الإبريز في تلخيص باريز”. وكان مما شاهدوه حينئذ الصحافةَ المكتوبة التي كانت غير موجودة في ذلك العهد في المغرب. فقد وصف محمد الصفار بعد عودته من فرنسا، على سبيل المثال، بعد رحلة قام بها في ديسمبر سنة 1845 إلى هذه الأخيرة الصحافة.

"مَشْيَخة" الميديا الجديدة وخطاب الكراهية

إنّ "المجتمع الشّبكِي" يعرف تدفقّات وثقافة افتراضية تتجاوز المفهومين التقليديين للمكان والزمان، وهما فضاء الهَيمنة وعَوامِل الصّراع بالنّسبة إلى القُوى المرتبطة بالشّكل المعهود للسّلطة.

تُشكّل الهيمنة التقليدية سُلطَة تنظيمية وأخلاقية في مجتمعاتنا العربية والإسلامية وظلّت هذه المؤسّسات قائمة إلى اليوم رغم الصّدمة الحَداثيّة مع حمْلة نابليون على مصر واستعمار مجتمعاتنا وظُهور الدّولة الوَطنية المستقلّة التي تغذّت من “الأشكال التقليدية في ممارسة الهيمنة” لكن الانفجار العربي مع 2011 الذي صاحبه ظهور وانتشار الميديا / سوش أحدث خللاً كبيراً في العلاقات التقليدية بدءاً من هتك الحياة الشخصية للأفراد والجماعات، وأكثر عنصر محافظة وهي “المرأة” تعرّض لأن يكون مكشوفاً ومارست المرأة حرية في غُرف الدَّردشة الإلكترونية ولو بأسماء وصُور مُستعارة، إنه “السُّفور الإلكتروني” الذي نعتبره مرحلة ثانية بعد السُّفور الذي دافع عنه قاسم أمين والحركات النَّسوية في مصر ولبنان وتونس مع ظهور الحركات الليبرالية والعلمانية في الوطن العربي، كما أن “الجنس” صار متحررا من عقاله التقليدي ولم يعد يخضع للتنظيم الأسري المعهود، واستطاعت المواقع الإلكترونية أن تَنتهك الحُجب والسّتائر في أقصى الأماكن محافظة وتقليداً، هكذا تمّ اختراق السّلطة التقليدية التي يمثلها شيخ القبيلة أو شيخ الدّين، والأبوّة المهابَة، وتعتبر هذه الصدمة الحداثية الثّانية أكثر تأثيراً على البنية الاجتماعية العربية.

الميديا الجديدة: روح العصر


حسب كاستلز (M Castells) في كتابه الشهير (المجتمع الشَّبكي)، فإنّ “الشّبكة هي الرّوح الجديدة لهذا العصر”، تماشياً مع تعبير عالم الاجتماع ماكس فيبر الذي تحدّث عن روح الرأسمالية في نشوئها التاريخي المُرتبط بالبروتستانتية التي كانت تأويلاً جديداً للدّين مكّن من ظهور أفكار العقد الاجتماعي والحرية والديمقراطية.

نَشهد اليوم تطوراً رقمياً مَهيلاً سيمَكن وسائل “الاتصال الجديدة الذاتية” من زعزعة أساليب الهيمنة التقليدية للدّولة القومية واختطاف مُراهقينا وشبابنا منّا، أي من “قِيمنا الجَماعية” التي تحفظ الانسجام الاجتماعي وتحُول دون تفتت العلاقات العائلية والرّوحية، صدمات التحديث والتطور لم تواجهها أمتنا بالاجتهاد والبحث عن “استراتيجية التبييء” – أي إنبَاتِه في بِيئتنا وتأصيله -، وتكييفه مع واقعنا وخصوصيتنا الحضارية، وحَاصَرتنا الثنائيات وكَبّلت تفكيرنا ونمّطته بين الأصالة والمعاصرة، الماضي والحاضر، التقليد والحداثة، نحن والغرب.. إلخ.

وكنّا أمام تطور في استغلال الصُّورة والتّجنيد للعنف والإرهاب مع جماعة تُقاتل بالفِكرة خارج “الأرض” ومعاني الوطن التقليدية من تحرير ومُقاومة.

إنّ “المجتمع الشّبكِي” يعرف تدفقّات وثقافة افتراضية تتجاوز المفهومين التقليديين للمكان والزمان، وهما فضاء الهَيمنة وعَوامِل الصّراع بالنّسبة إلى القُوى المرتبطة بالشّكل المعهود للسّلطة، إذن سَوف نكون أمام نِزاع مرير مع مُقاومين من نوع خاص لمشاريع الدّولة يَنتهجون أسلوب الدّعاية والتحكّم في الصّورة ونشر الخبر بالكيفية التي يريدون ويُنشئون عشرات المدوّنات التي تمسّ بالمعتقدات والمقدّسات والتّاريخ، ويتخذ بعضهم من “السّاحة الزرقاء” ميداناً للتجمع والتظاهر.

الميديا الجديدة وسَلْعَنة العَواطِف

قد تكون العَوالم الافتراضية تعبيراً مكثّفاً دون رَقابة ذاتية ليس فقط للواقع ولكن حتى للخَوالج النّفسية والعواطِف، ويُستثمر فيها الصّورة والأشكال الفنية وقد تعتمد بعض المواقع الشّبكية إلى الّلعب بالعَواطف واستثمارها وتسليعها مثل “العَاطِفة الدّينية” التي استغلّتها بعض المواقع المُنتمية إلى الجماعات القتالية في السّنوات السابقة ومازالت، كما أن التركيب الفنّي لإثارة العواطف الدّينية بالآخرة وعذاب القبر يشكّل حالة الاكتئاب والهروب من الواقع أو التطرف، ويعتقد بعضهم أنّه يقوم “بالدعوة الدّينية”، وقد تكون لها تداعيات نفسية واجتماعية، وهنا يكون التمرد على “المشيخة الدّينية التقليدية” التي تمثلها المؤسسات الدينية أو إمام الحيّ وشيخ الشاشة التقليدية.
ظاهرة “تَسليع العَاطِفة” ترتبط اليوم أساساً بجماعات تخترق حياتنا العائلية والحميميّة ويتمّ تحويلها لصالح “هويّات دينية وأيديولوجية” أو “الهُويّات القَاتِلة” ومنها “الكَراهيّة” التي هي “انتقام الأديان” بتعبير جيل كيبل، وبالتالي مُجابهة الكراهيّة والعُنصرية هو تحدِّ أخلاقي وقَيمي أكثر منه قانونيا، فرغم القوانين التي ظَهرت في الغرب منذ السّتينات من القرن الماضي ما زال العالم المتقدّم يعاني من مظاهر كراهية جديدة ومنها “كراهية الأجانب” مع صعود اليمين الجديد في الغرب الأوروبي والأميركي، والأزمات التي تسبّبَ فيها العنف الدّيني، وأيضا يمكن ذكر “الإسلاموفوبيا” التي هي تعبير عن خوف وكراهية وعنصرية، طبعا معالجة التشريع الغربي لهذه القضايا ليس فقط على مستوى قانوني ولكن أيضا بتحقيق العدالة والإنصاف وترسيخ “المواطنة” و”المؤسّسات الدّستورية والقانونية” التي لها استقلاليتها.
خطاب الكراهيّة والعُنصرية ظهر في بلداننا العربية كتعبير سياسي وكل مرحلة أخذت شَكلها، ولا ننسى هنا أنّ ذاكرتنا فيها ألم العنصرية منذ الاستعمار الذي اعتبرنا أهالي ومن الدّرجة الثانية، ونفسية مثل هذه قد تُعالج بطريقة غير سليمة حين تجد نفسها من جديد أمام سُلطة تستمرّ في إذلال المواطن وتقسّم المغَانِم والمناصب على أساس جهوي، وحين احتكرت السّلطة “الشّرعية التّاريخية” كان على المعارضة أن تلجأ إلى شرعيّات تقوم أيضا على الهُويّة الدّينية أو الإثنية ورغم منع بعض الدساتير العربية، مثل دستور الجزائر (1996)، بقيت هذه الثّقافة النَّتِنة تتغذّى منها بعض الأحزاب والجمعيات.
استبدال “الأخ الأكبر” و”الأبوّة” في الميديا الجديدة صاحبه أيضاً “المشيخة الإلكترونية” كما تحدثنا آنفاً ويمكن هنا الحديث عن التقنيات المستخدمة في هذه المشيخة البديلة.

عصر الشركات العملاقة

نحن نعيش في حقبة الشركات العملاقة العابرة للقارات، وهناك وفرة معلوماتية لا يمكن محاصرتها، وعدم نجاح الأجهزة القمعية في محاصرة المعلومات هو دليل على ولادة إرادة جديدة كلياً.

لقد انتهى عهد الأخ الأكبر وجاء عهد الأخوة الصغار! وهناك فرق بين العهدين، وكأنه انقلاب تام للمعادلة، فغدا المواطن العادي مُباهياً بأحداثه الشخصية، ويملك التحكم الكامل في نوع المعلومات التي ينتقيها ليخبر العالم عن نفسه.

صار بإمكان الفرد صنع صورته العامة بالطريقة التي تحلو له مكتسباً سلطة لم تكن له في السابق. في الماضي القريب جداً كانت أجهزة المخابرات تضخ إلى المجال العام الصورة التي تريدها عن المعارضين للنظام، وعلى وجه الخصوص المثقفين، وتصويرهم في صور نمطية سلبية منفرة.. إلا أن وسائل التواصل الاجتماعي حطمتْ تماماً هذه الاستراتيجية فلم تعد مجدية، وفقد الأخ الأكبر التقليدي سيطرته على المشهد العام.
طبعاً يمكن لهذه الأجهزة أن تُحدِّث أساليبها، وتنشئ جيوشاً إلكترونية تعمل من داخل وسائل التواصل الاجتماعي، ولكن حتى في هذه الحالة يمكن للمواطن القيام بإجراءات مضادة فعالة للحد من نشاطهم الخبيث.
نحن نعيش في حقبة الشركات العملاقة العابرة للقارات، وهناك وفرة معلوماتية لا يمكن محاصرتها، وعدم نجاح الأجهزة القمعية في محاصرة المعلومات هو دليل على ولادة إرادة جديدة كلياً، تتكون من مجموع إرادة ملايين الأفراد.
توظف الدول العربية قدراً هائلاً من اليد العاملة كـ”مخبرين”.. لقد حان الوقت لإرسال هؤلاء إلى المعاهد الفنية ليتعلّموا صنائع مفيدة لشعوبهم وأوطانهم.
يقولون إن الآلة ستحل محل الإنسان في الآلاف من المهن، وهذا ما سيحدث أيضاً بشأن مهنة “المخبر”، إذ ستحل محله وسائل التواصل الاجتماعي!

صار بإمكان الفرد صنع صورته العامة بالطريقة التي تحلو له
صار بإمكان الفرد صنع صورته العامة بالطريقة التي تحلو له

يُقال إنه في عهد الرئيس العراقي صدام حسين كان الرجل يشك أن زوجته تتجسس عليه، والأب يخشى من ابنه، والأخ يرتاب في إخوته، لأن النظام في ذلك العهد كان يُحكم قبضته على الشعب عن طريق توظيف عدد هائل من المخبرين. وهذه أساليب قبيحة وفظة في إدارة الشعوب، وينبغي التخلص منها ودفنها في مقابر القرون الوسطى.
البديل المتحضّر الآن هو التجسّس عن طريق متابعة حسابات الفرد في وسائل التواصل الاجتماعي. إنه تجسّس مهذب يتم عن بعد، وبأساليب لا تثير الانزعاج.
في السابق كان أجر الحصول على المعلومة يحصل عليه المخبر وحده، ولكن في عصر الشركات العملاقة فإن المواطن يتقاسم مع الشركة المُشغّلة للموقع الاجتماعي ثمن المعلومة، فهو يُزود الشركة بمعلومات شبه يومية عن نفسه، وفي المقابل يحصل على خدماتها مجاناً.
هذه الطريقة الناعمة في إدارة الشعوب تبدو لي أفضل من الأساليب التقليدية الخشنة.. في الماضي كان يمكن لمخبر حاقد تقويض حياة إنسان بسبب تقرير ملفّق، أو قد يستغل لحظة انفلات أعصاب ضحيته التي تفوّهت بكلمات غاضبة عن 
النظام في أحد المقاهي ويرسل وشايته إلى المخابرات فيتم اعتقاله.

وسائل التواصل الاجتماعي لديها ميزة أنها تعطي المرء فرصة للتروّي والتفكير قبل النشر، وفي حالة انقضاء الانفعال الظرفي يمكن حذف المنشور ومحاصرة تداعياته.
وسائل التواصل الاجتماعي هي “المخبر” الأنيق الذي يتجسس علينا دون استفزاز أو ضغط. وهذا المخبر أكثر رحمة وإنسانية من نماذجه القديمة السيئة السمعة.. ويكفي أنه يتعامل مع المواطنين الذين يجمع عنهم المعلومات كزبائن لا كضحايا، ويمنحهم الحق في التمتّع بمزايا السادة الذين يقضون وقتاً ممتعاً وهم يستجّمون في المنتجعات الفخمة.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق