الأحد، 8 أغسطس 2021

جوانية عثمان امين و رحمانية زكي الأرسوزي

 

عندي (فلسفة) وخير من هذا (طريقة في التفلسف)، ولا أقول إنها (مذهب) لأن المذهب شأنه أن يكون مغلقاً قد رُسمت حدوده مرة واحدة، وحُبست تأملاته في نطاق معين، بل هي تفلسف مفتوح على النفس وعلى الدنيا، متعرض لنفحات السماء في كل لحظة، وطريق مبسوط أمام الوعي ينتظر (السالكين) إلى يوم الدين.

فلسفة تحاول أن ترى الأشخاص والأشياء رؤية روحية، بمعنى أن تنظر إلى (المخبر) ولا تقف عند (المظهر)، وأن تلتمس (الباطن) دون أن تقنع (بالظاهر) وأن تبحث عن (الداخل) بعد ملاحظة (الخارج)، وأن تلتفت دائماً إلى (المعنى) وإلى (الكيف) وإلى (القيمة) وإلى (الماهية) وإلى (الروح) من وراء (اللفظ)، و(الكم)، و(المشاهدة) و(العرض) و(العيان).

الطريق إلى ذلك كما يرى عثمان أمين، هو تقديم (الذات) على (الموضوع)، والفكر على الوجود، والإنسان على الأشياء، و(الرؤية) على (المعاينة) والتمييز بين الداخل والخارج، وبين الكيف والكم، وبين بصر العقل وبصر العين. وذلك ما عبر عنه الإمام علي -رضي الله عنه- في قوله (ليست الرؤية كالمعاينة مع الإبصار: فقد تكذّب العيون أهلها، ولا يغش العقل من استنصحه). وقد شرح الإمام محمد عبده هذه العبارة في تعليقه على (نهج البلاغة) فقال: (الرؤية: إعمال العقل في طلب الصواب، وهي أهدى إليه من المعاينة بالبصر: فإن البصر قد يكذّب صاحبه، فيريه العظيم البعيد صغيراً، وقد يريه المستقيم معوجاً كما في الماء. أما العقل فلا يغش من طلب نصيحته وليس العلن قاصراً على شهود المحسوس.

الجوانية عند عثمان أمين هي طريقة روحية تحاول سبر أغوار الباطن، وعدم الاكتفاء بالوقوف عند الظاهر، وألا تقف عند حدود الكم والمشاهدة والعرض والعيان، بل تنطلق من هذه المعاني الظاهرة إلى المعنى، والكيف، والقيمة والماهية، أو بالأحرى إلى الروح. وهنا يأتي السؤال: ماذا تطلب الجوانية؟.

الجوانية إذ تطلب الحقيقة فيما وراء الواقع لا تزعم لنفسها القدرة أو الرغبة في امتلاكها، لأن الحقيقة متى امتلكناها، أو خيل إلينا أننا امتلكناها، فقدت مشروعيتها في أن تكون حقيقة، أي أن تكون هذه القوة الروحية التي تستحث الإنسان على الابتكار المتجدد الواعي والسعي الموصول إلى ما ينبغي أن يكون.

الحقيقة إذا تحددت بحدود برانية أصبحت بذلك (واقعة) وجاز لها أن تكون (موقفاً) متجمداً في سلسلة من الواقعات، يحتاج إلى من يدافع عنه وينتصر له. والحقيقة لا تفتقر إلى دفاع من الخارج: إن آيتها وبرهانها كامنان فيها، وإنها (فكرة) تقوم في لب الوجود الواقع، وهي أشبه بأن تكون واقعة مثالية: ومتى لاحت للمرء على هذا النحو استطاع أن يستشف من ثنايا واقعه المثالي هذا، غاية أخرى أو مثلاً أعلى جديداً، يصبح -بدوره- مناطاً لسعي الإنسان الجواني. فكرني بمقال الدوغمائية ****

حياتنا الجوانية كالسيمفونية الموسيقية، فكما أن الإنسان لا يستطيع أن يفهم سيمفونية من مجرد الحديث عنها، بل يلزم أن يتعاطف معها، فكذلك لا نستطيع أن نسبر أغوار الحياة الجوانية، مهما استعنا بالأدوات العلمية، إلا بأن نحياها بأنفسنا وأن نتحمل مسؤولية معاناتها: فكما أن أحداً لا يستطيع أن يموت لنا فإن أحداً لا يستطيع أن يحيا أو أن يفكر لنا كما يقول هيدجر، وهذا التعاطف العقلي أو الجهد (الجواني) هو عندنا ضروري لكل بحث قويم ولكل ثقافة عميقة ولكل مسعى صادق، وبدونه يمتنع على الباحث أياً كانت قدرته أن ينفذ إلى الشخصية التي يريد أن يتعرض إليها أو أن يفهم الموضوع الذي يريد أن يعالجه فهماً كاملاً.

فالجوانية فلسفة تستند على تزكية الوعي الإنساني وممارسة الحرية النفسية، وتسعى إلى تعميق فهمنا للمقاصد والمعاني والقيم. وهى بهذا الاعتبار تمارس الوظيفة الفلسفية على الأصالة: التماس اللب والمبدأ والكيف والحق. إنها لا تقيس حياة الإنسان الفكرية والمعاملة بالمقاييس البرانية، مقاييس الكم التي تقاس بها المادة، كما أنها لا تقنع بمناهج التحليل والحساب والإحصاء: إن هذه إن يسّرت لنا أن نقف على الكم والمقدار، فإنها تعوقنا دون ريب على استكناه الفكر وسبر أغوار الكيف.

ينظر عثمان أمين إلى الفلاسفة الروحيين كهداة حقيقيين للإنسانية، يدعوننا دائماً إلى الاعتقاد بأن للكون إلهاً لا متناهياً، واسع العلم والقدرة والرحمة، وأن العالم لا يتحرك مصادفة واعتباطاً، بل يسير كل شيء فيه إلى أحسن مما كان، ولا يمكن أن تكون خاتمة الدراما الإنسانية إلا استكمال السعادة مع تحقيق السلام. وبهذه النظريات المشرقة المتفائلة يمسح الفلاسفة على جراح نفوسنا، ويهدئون من ثائرة خواطرنا وكأنهم يدعوننا إلى أن نمد البصر إلى السماء ذات النجوم، فهنالك فوق ظلام القهر والشر والمادة تتلألأ معاني الحرية والحق والكمال، وتلك المعاني هي النجوم اللوامع التي تضيء للإنسانية حياتها.

فالصورة التي يرسمها القرآن والحديث لحياة الإنسان على الأرض صورة دقيقة رائعة، صورة مثالية وواقعية معاً. إنها صورة حياة ملؤها الجهود الموصولة للإصلاح الداخلي، أي: الإصلاح الروحي، والإصلاح الخارجي، أي الإصلاح المادي. وقوامها العمل لتزكية وعي الإنسان لذاته وصلاته بغيره وتحقيق رسالته على الأرض. وإصلاح النفس معناه: إصلاح العقيدة والتغيير الجواني أصعب جداً من التغيير البراني، لأن الأول منصب على تغيير الأخلاق والعقليات، في حين أن الثاني ينصب على تغيير المراسم والأشكال والنظم الخارجية، اجتماعية كانت أو سياسية أو اقتصادية.
والقرآن الكريم حافل بالآيات البينات المعبرة عن هذا النظر الجواني النافذ إلى جوهر الأشياء والأشخاص، والفرق الدقيق بين وجهين متعارضين في الفهم والسلوك: نراه يتحدث عن المعاني الأساسية في العقيدة الإسلامية، فينبغي على بعض المسلمين الاهتمام ببرانيتهم المتمثلة في وقوفهم في الفهم عند الأعراض الخارجية والمشاهد المحسوسة، ومن ثم ظهورهم بمظاهر الإيمان والبر والتقوى وأداء الفرائض، وينبههم إلى أن هداية الدين القويم لا تتحقق إلا باستشعار معانيه الصحيحة العميقة. فقوله تعالى (لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ)
(قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ) (الحجرات:14), وقوله تبارك وتعالى: (لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ) (الحج:37).

(إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم)

(وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى, فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى) (النازعات:40-41). وقال: (وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلا مَا سَعَى, وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى, ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاء الأَوْفَى) (النجم:39-41). وقال جلّ وعلا: (لَهُمْ دَارُ السَّلاَمِ عِندَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) (الأنعام:127). وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تابعاً لما جئت به).

(المجاهد من جاهد نفسه) وقال: (المهاجر من هجر ما نهى الله عنه). ولا ريب أن جهاد النفس -وهو جهاد جواني- أصعب من جهاد الغير، ولذلك سماه الرسول (الجهاد الأكبر): لأنه يقتضي عملاً دائباً وجهداً متواصلاً لمغالبة هوى النفس.

القرآن يعتد أكبر اعتداد بالنية التي صدرت عنها الأفعال، ويلح على الإخلاص المصاحب لإقامة الشعائر، ويرى أن فعل الإنسان إذا ساورته شبهة باعث من بواعث العُجب أو الأنانية أو الرياء تجرد عن الحقيقة وأصبح مظهراً أو زيفاً

(إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى..)

الرياء وإرضاء الناس فيسميه النبي بالشرك الأصغر.. فالقصد الحقيقي والنية الجوانية هما المحك الصادق للحكم على الأشخاص والأشياء، وهما معيار القيمة في الأقوال والأفعال. قال تعالى: (لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ)

*
رحمانية زكي الأرسوزي

من العقلانية إلى الرحمانية: بحث في القيم الأخلاقية

 الأخلاق ظاهرة اجتماعية وضعت مفاهيمها من قبل الإنسان، وبما أنها تتناسب مع الظروف، فهي نسبية وليست مطلقة وهذا ما يطبعها بشيء من العقلانية ويجعلها فكرية، لأنها تعمل على الاختلاف وتعترف به، سواء أكان اختلافا في الاعتقاد أو المرجعية الفكرية أو حتى اختلافا في الثقافة والمجتمع، ولأنها كذلك هذا ما يسمح لنا بالتحدث عن أنظمة متعددة للأخلاق تخص كل مجتمع بعينه. وبناء عليه؛ تصبح الأخلاق النسبية تجارب حياتية حقيقية تنطلق من ثقافات وقيم مختلفة منشؤها هو العقل الإنساني.

استدلالا لزكي الأرسوزي يقول فيه: «للعرب فلسفة كاملة، قائمة في ثنايا لغتهم، لم يعبر عنها حتى الآن أي مفكر آخر تعبيرا كليا ... فاللغة العربية، بما لها من قوة بيانية خاصة، تبدع لكل معنى من المعاني الوجودية الكبرة، صورة تستقطبه وتؤديه أمانة

الأطروحات الأخلاقية لكل من توفيق الطويل وزكي الأرسوزي في التعبير عن المجتمع العربي ومشاكله؟

أولا: قيم العقلانية

توفيق الطويل "رائد الفلسفة الخلقية في العالم العربي المعاصر" على اعتبار أن الرجل سعى جاهدا في أغلب كتاباته إلى ربط الفلسفة والدين والبحث في شتى أشكال إمكان الجمع بينهما، وكيفما كان مدار الفكر وقريحته، فهو لا يعبر عن ذاته خارجا كلحظة من لحظات النضج العقلي خارج إطار تسود فيه الحرية الفكرية، من ثمة كانت دعوته تناهض بالاعتدال لا التطرف،

ليس بين الفلسفة والأخلاق فواصل، ذلك أن الأولى هي فقه المعنى والثانية هي تجسيده، وهما معا للحياة إبداع أصيل

ثانيا: قيم الرحمانية

زكي الأرسوزي (1900 - 1968م) المفكر القومي العربي من النظر في الذات وانخراطها بالمجتمع إلى الحديث عن القومية العربية، حيث تصبح للأفكار مكانة خاصة معبرة عن مآل الأمم، فقد ارتبط وعيه الفلسفي بالحركة النهضوية العربية العامة، والتي انطلقت إبان القرن 19، ويتخذ مسار تحوله الفلسفي ووعيه الفكري منحى الانتقال من رغبة إنشاء فلسفة عربية عفوية إلى مستوى من الشعور يتجلى بالضبط في العناية باللسان العربي، وبالتالي جعل التفلسف هو الكشف عن عبقرية الأمة العربية

لا يمكن الجزم على استيعاب مجريات هذه الأمة وتصوراتها خارجا عن منطق فلسفتها، لذلك خصص المفكر القومي وقتا طويلا في دراسة اللسان العربي القديم على اعتبار أن العودة إلى ماضيها أساس في استعادة أمجاد هذه الحضارة لكن بروح راهنية معاصرة تبعث رؤية مستجدة

رؤية أن للعرب فلسفة منسجمة ومتكاملة، ومرد هذا إلى لغتهم. لهذا، دعا إلى ضرورة التركيز عليها وفهم نظامها البياني

فهي بالنسبة إليه أقوى لغة تبدع كل معنى من المعاني الوجودية، وتعبر عن أشكال الوجود، فهي فلسفة وجودية عبرت الوجود بما يمكن للدلالة والمعنى أن يحملا عن شكل هذا الموجود، وإنها لغة عربية ساهمت في تطور الفكر الإنساني وبلورة الوجود بانكشافه الحر أمام قواعدها ومجازها ... إلخ، ولهذا السبب كان «إنشاء هذه الفلسفة يؤدي إلى نتيجتين مهمتين؛ الأولى: إرساء فكرة البعث على قواعد صحيحة، والثانية إسهام العرب إسهاما جديا حاسما في التراث الإنساني. فالعقل الإغريقي الغربي، يجنح نحو الكشف عن نظام الطبيعة، بينما يجنح العقل السامي العربي نحو الحقيقة الروحية المثالية، ويجب أن يكمل كل منهما الآخر»

لقد انطلق من ((فقه اللغة)) إلى ((فقه المعنى))، هذا التعبير ارتضاه بدل ((الفلسفة)) وحاول تفجير الكلمة ليبعث منها سليقة عربية تعيش في القرن العشرين وتجيب على مشاكله

 زكي الأرسوزي: «ليست الأخلاق نهيا عن السوء ولا أمرا بالتقوى، بل إنها منظومة أعمال يستكمل بها الفرد شروط الحياة مرتقيا من شخص إلى ذات»

الأخلاق التي نفتقر إليها ونطالب بها، ليس أخلاق الثواب والعقاب، بل أخلاق الحياة، أخلاق التعاطي مع أشكال الوجود وركائز المجتمع القومي، ولذلك فهي أخلاق ارتقائية موجهة لتحقيق هذا النوع من السمو والتعالي إلى ما هو إنساني محض يخدم الإنسانية المحضة. إن الأخلاق في الحدس العربي هي فن إيجاد الحياة وإبداعها، أو بمعنى آخر إنها تحقيق الفطرة الموروثة عن الجيل الذهبي، ثم استئناف النمو والتطور إلى شكل أرقى وأرقى، وهو ما برز مع الجيل الثاني إبان ظهور الإسلام.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق