الجمعة، 11 يونيو 2021

ديفيد هيوم ومشكلة الاستقراء يحيي محمد****فيه تعميم

Sep 9, 2019

 القانون الاستقرائي القائل (كل حديد يتمدد بالحرارة)، فلا شك انه ناتج عن اختبار عدد محدود من قطع الحديد بالحرارة. والحقيقة ان الاستقراء لم تقتصر وظيفته على اثبات الحالة العامة. اذ لا شك ان له دوراً آخر في اثبات الحالة الفردية من خلال ملاحظة القرائن وتجميع الاحتمالات حتى يصل بها الى درجة الاثبات او اليقين. فمثلاً كيف نعرف ان ذلك القدح مملوء بالماء لا الخمر، لولا عملية الاستقراء الكاشفة عن عدة قرائن احتمالية تتراكم لتصل الى مرحلة الجزم واليقين. ومن الواضح ان هناك مشكلة اساسية في الاستقراء، ففي مثالنا الانف الذكر (كل حديد يتمدد بالحرارة) علمنا انه جاء نتيجة عدة اختبارات لقطع محدودة من الحديد، وبالتالي كيف جاز لنا ان نعمم النتيجة ونعتبر كل حديد يتمدد بالحرارة؟ وبعبارة اخرى: كيف نحكم بما هو شاهد على ما هو غائب؟ وكيف نحول ما هو خاص جزئي الى ما هو عام كلي؟ ومن ثم كيف نبرر عملية اليقين في التعميم، بل وكيف نبرر كذلك حالة اليقين في اثبات القضايا الفردية؟ وكيف يسوغ لنا ان نحول الاحتمال مهما بلغت قوته الى يقين جازم مطلق؟

وهكذا فان مشكلة الاستقراء في جوهرها هي مشكلة اليقين والتعميم. واذا ما علمنا ان اغلب المعارف االبشرية هي معارف استقرائية، ادركنا قيمة الجهود التي تبذل لتفسير عملية الاستقراء. فتفسير هذه العملية هو في حد ذاته تفسير لأغلب المعارف التي يتزود بها الفكر البشري. من هنا جاءت دراسة (الاسس المنطقية للاستقراء) وهي تعبّر عن هذا المعنى. فهي ليست مجرد تفسير للاستقراء بما هو استدلال فحسب، بل انها تمثل تفسيراً لاغلب معارف الفكر البشري، سواء كانت علمية او حسية او ميتافيزيقية او غير ذلك من المعارف الاخرى.

فيلسوف الشك التنويري ديفيد هيوم. فبينما كان المنطق العقلي يرى ان الاستقراء محلول أمره من أوله الى آخره دون ان يعي أي مشكلة يمكن ان يشار اليها بالبنان؛ جاء الفكر الحديث وهو يرى ان مشكلة التعميم واليقين مستعصية، مبدياً عدم تفاؤله بأي أمل لإنقاذ المعرفة البشرية من براثن الشكوك والظنون. ووسط هذا الضباب، بين عدم الوعي بالمشكلة والوعي بها، وبين حل القضية والتعذر عن حلها، جاء دور الصدر الريادي ليدشّن طريقاً جديدة في المعرفة البشرية. لقد وقف الصدر موقفاً مزدوجاً تجاه كل من المنطق الارسطي والمنطق الحديث، فهو مع المنطق الارسطي أخذ ينعى عليه حلوله الساذجة، ويكشف عما فيها من دور ومصارات ليس الاستقراء بحاجة اليها. أما موقفه مع المنطق الحديث، فهو وإن وافقه على وجود مشكلة منطقية في الاستقراء، لكنه اعتقد بالقدرة على تذليلها والقضاء عليها. فهو يتفق مع المنطق الحديث ويعي ان البرهنة على قضايا التعميم واليقين في قضايا الاستقراء انما هو ضرب من المستحيل، لكنه مع ذلك سلك سبيلاً آخر لم يسبق له مثيل، حيث انه افترض اليقين في العملية الاستقرائية وقام بتبريره منطقياً.

من الناحية التاريخية ان أقدم المصادر التي تطلعنا على الاعتراف بوجود مشكلة في الاستقراء هي تلك التي تعود الى جابر بن حيان الكوفي خلال القرن الثاني للهجرة، حيث انه لا يرى ما يبرر اليقين في التنبؤ بالحوادث والتعميمات الاستقرائية، ويعتبر ان الدلالة عليها لا تزيد عن محض الاحتمال. فابتداءً يرى ان اضعف حالات الدليل هو ذلك الذي لا يعول الا على شاهد واحد، كمن يقول بأن إمرأة ما ستلد غلاماً وذلك اعتماداً على ما رآه انها قد ولدت قبل ذلك ولداً واحداً لا غير. في حين يعتبر ان أقوى حالات الاستدلال بالاستقراء هو ما كانت شواهد الوجود دالة عليه من غير مخالف، كمن يقول بأن ليلتنا هذه ستنكشف عن يوم يتبعها، استناداً الى ما رآه من اضطراد في تتابع الليل والنهار
نقده للمعرفة ورده على النزعة العقلية. فهو في مواقفه النقدية أثار مشاكل جديدة كان لها الاثر البالغ على نضج التفكير الفلسفي لدى الذين خلفوه؛ سواء من التجريبيين كالوضعية المنطقية، او من العقليين كالفيلسوف عمانوئيل كانت الذي قال صراحة: (انني لاعترف صادقاً ان ما استذكرته من تعليم ديفيد هيوم كان هو على وجه التحديد العامل الذي أحدث - منذ اعوام كثيرة - اول هزة ايقظتني من سبات جمودي الاعتقادي، ووجّه أبحاثي في مجال الفلسفة التأملية وجهة جديدة) . وعليه كان الهدف من كتابه الموسوم (نقد العقل المجرد) هو انقاذ المعرفة البشرية من خطر الانتقادات التي أحدثها هيوم.

فما من أحد يشك في ان هيوم هو اول من وجد في الاستقراء مشكلة منطقية.. هذه المشكلة التي تتحدد بمسألة وجود المبرر المنطقي للترجيح والتعميم؛ اعتماداً على فهم السببية بشكل خاص. لذلك كانت هناك مواقف مختلفة اتجاه الدليل الاستقرائي؛

 أول من أثار المشكلة المنطقية للاستقراء هو ديفيد هيوم؛ الذي اليه يرجع الفضل في نقد المعرفة عموماً والاستقراء خصوصاً. ويكفي أن ندرك الخطورة التي أحدثها بما شيع عنه أنه (أثار الفضيحة في الفلسفة)، 

 . فمثلاً ليس بوسع المشاهدات الاستقرائية ان تثبت لنا ان هذه النار التي امامنا ستحرقنا اذا ما قذفنا بانفسنا فيها. مما يعني ان الدليل الاستقرائي غير منتج تماماً. بل وزاد على ذلك كاتز، معتبراً ان له محاولة مكملة، وهي انه ليس هناك امكانية تطمح الى تبرير الاستقراء على الاطلاق، فالاستقراء لديه لا يمكن تبريره فضلاً عن اثباته .

وعلى العموم نرى أن مذهب هيوم في الاستقراء يقوم على أمرين أساسيين لابد من دراستهما معاً:
الاول: ويتقرر بأن أي محاولة للاستدلال على مبدأ الاستقراء تتعرض للدور، كما أن التعميم فيه لا يملك أي تبرير ممكن.
الثاني: ويتقرر بأن ما نسعى اليه من استنتاجات إستقرائية وقضايا تعميمية؛ كل ذلك يقوم على فهم خاطئ للسببية.

1 ـ محاولة اثبات الدور في الاستقراء
 العملية الاستقرائية لا يمكن لها أن تتم بالشكل المطلوب ما لم يكن هناك افتراض يقرر بأن العلاقات الجارية في الطبيعة هي علاقات حتمية. وحيث أن هذا الافتراض لا يمكن البرهنة عليه؛ لذا فان الاستقراء يظل عاجزاً عن تقديم المعرفة الجديدة. فعلى رأيه أن كل محاولة يراد لها البرهنة على صحة الاستدلال الاستقرائي لابد أن تواجه حلقة فارغة من الدور. فقد يقال بهذا الصدد ان ملاحظاتنا السابقة للوقائع في الطبيعة هي التي علمتنا صحة الدليل الاستقرائي. فنحن نلاحظ دائماً أن الاوراق التي توضع في النار تحترق، وأن الحديد الذي نقربه من الحرارة يتمدد، وأن الشمس تشرق وتغرب كل يوم، وأن السمك يموت خارج الماء... الخ. فجميع هذه الظواهر جعلتنا نعتبر أن بالامكان أن نعمم عليها الحالات الاخرى المشابهة لها.

لكن واقع الامر أننا نستدل على الدليل الاستقرائي من خلال إستقراء آخر، فيتحتم علينا أن نقع في الدور. وسنبرز هذه الحجة من خلال المثال التالي:
لنفترض أنا نريد أن نستدل على القضية القائلة بأن كل نار تحرق. في هذه الحالة لابد من توفر مقدمتين بالشكل التالي:
الاولى عبارة عن ملاحظاتنا السابقة التي كشفت عن صفة الاحراق للنار. أما الثانية فهي الاقرار بأن الاشياء المتشابهة تخضع الى نفس الحكم. فمن هاتين المقدمتين نستنتج أن كل نار تحرق.
لكن الملاحظ أن المقدمة الثانية إما أن تكون مصادرة على الاستقراء أو مستدلة به، ولا شك أنه لا يوجد ما يبرر المصادرة. فيبقى انها عبارة عن نتاج إستقرائي، فنكون قد وقعنا بعملية فارغة من الدور. ولا فرق في ذلك فيما لو قلنا ان ما نشاهده من اطرادات منتظمة في الماضي تخول لنا ان نتوقع استمرارها في المستقبل، وما لو قلنا ان نجاح قاعدة الاستقراء في الماضي تدعونا الى توقع نجاحها في المستقبل، فكل ذلك مما يتضمن الدور، او افتراض مصادرة ان الشبيه يأتي بالشبيه طبقاً للقانون الارسطي (الحالات المتشابهة تفضي الى نتائج متماثلة) والذي هو ايضاً نتاج العملية الاستقرائية ذاتها، مما يؤكد ما نحن فيه من الدور.

وهناك عبارات عديدة لهيوم يشير فيها الى هذا النوع من الافتراض المتعلق بتشابه المستقبل للماضي، ومن ذلك قوله: (كل النتائج التجريبية تقوم على افتراض كون المستقبل سيكون وفق ما عليه الماضي)، (وان جميع الادلة المعتمدة على الخبرة تفترض اساساً كون المستقبل سيشابه الماضي)، (وان كل التفكير القائم على الخبرة يتأسس على افتراض ان عمل الطبيعة سوف يستمر على نفس الهيئة باضطراد) .

وعلى رأي هيوم ان خبرتنا الماضية ليست فقط لا تبرر لنا ما سيحدث غداً على وجه اليقين، بل انها أيضاً لا تبرر ذلك على وجه الاحتمال، إذ الاحتمال على رأيه مستمد من نفس إفتراض التشابه المنزوع عن الاستقراء، فكيف نقيم الحكم عليه ؟!

الاستقراء والتحليل المنطقي للسببية
في التحليل المنطقي يتناول هيوم بحث الارتباطات الخارجية التي تتضمن علاقة السببية ان كانت تنطوي على ضرورة موضوعية ام لا؟ فمن المعلوم ان المذهب العقلي سلّم بأن هناك ارتباطات ضرورية لعلاقات السببية الخاصة في الخارج؛ هي التي تبرر عملية التعميم في الدليل الاستقرائي. بيد ان هيوم اخضع هذا الافتراض الى محك النقد والتحليل، فما هو المبرر الذي يجعل علاقات الطبيعة تتصف بالحتمية والضرورة؟


ان هيوم باعتباره فيلسوفاً حسياً ليس بوسعه ان يعوّل على المصادرات القبلية. لذا لم يبق لديه الا البحث الخارجي من خلال الملاحظة والتجارب؛ علها تكشف لنا عن صفة الضرورة في العلاقة السببية.
وإذ يمكن ان نتساءل: هل هناك سبيل - مثلاً - لأن نستكشف العلاقة الحتمية بين تمدد الحديد وبين الحرارة حين نراهما مقترنين معاً باطراد؟ يجيب هيوم - ومن حقه ذلك - بأن كل ما نراه انما هو وجود اقتران مطرد، فالتجربة لا تتمكن من أن تضيف لنا شيئاً آخر اكثر من ذلك. وهو يضرب لنا مثلاً على ذلك، ويقول بان (كرة بيلياردو تتدحرج باتجاه كرة اخرى، تتصل الاثنتان ببعضهما، فتتحرك الثانية، لا يوجد هنا شيء قابل للملاحظة يمكن تسميته علاقة حتمية) .


لقد بحث هيوم عن مصدر هذه الفكرة، فلاحظ أنها تقترن مع صفة أخرى نطلق عليها الاطراد او التتابع المستمر، فحيث لا يوجد اطراد، فلا ضرورة هناك، كما هو الحال مع مثال حركة كرة البيلياردو. فبهذا المفتاح أقام فيلسوفنا تفسيره لوجود الضرورة في علاقة السببية. فنحن حين نلاحظ ظاهرتين تتصفان بالاقتران والتعاقب باطراد فانه سينشأ في مخيلتنا رباط قوي بين فكرتي الظاهرتين، بحكم العادة. فلو أنه حضرت احدى الفكرتين؛ فما على الفكرة الاخرى الا أن تعقبها، وهو ما يبرر لنا كيفية الحكم على الاشياء الخارجية. اذ لو تحسسنا بوجود الظاهرة السابقة لكنا نحكم بضرورة وقوع الظاهرة الاخرى؛ نتيجة ما اعتدنا عليه من مشاهدات حسية جعلت أذهاننا مهيأة لافراز العلاقة القوية بين الفكرتين. فمثلاً في حياتنا اليومية نتحسس على الدوام بأن هناك تلازماً بين ظاهرتي النار والاحراق، وبحكم العادة تنشأ في مخيلتنا علاقة قوية بين فكرتي هاتين الظاهرتين، لكن بسبب هذه القوة فانا نضطر الى أن ننزعها على الواقع ونظن أنها خارجية، بحيث كلما لاحظنا ناراً سنحكم عليها بأنها تحرق، مع أنه من الناحية المنطقية لا دليل على ذلك، رغم ما نجده من التهيؤ الذهني الحاد الذي أطلق عليه هيوم (تداعي المعاني).

لا يمانع من الناحية الواقعية ان يكون أي شيء سبباً لأي شيء آخر، او ان تحدث الاشياء من غير اسباب، وان ما يستدل به على السببية ليس العقل بشكله القبلي، بل التجربة من خلال الاحساسات المتكررة لحالة الاطراد، مما يعني ان الاحساسات القليلة لا تبعث على خلق الضرورة في مخيلتنا الذهنية بواسطة تداعي المعاني.
تلك هي فلسفة هيوم في تحليله النفسي لعلاقة السببية. وهي فلسفة تبرر قيام الدليل الاستقرائي من الناحية النفسية، وذلك بردها الى مركز العمليات اللا عقلية المسماة بالطبيعة القاهرة، وإن كانت تعجز عن تبريره منطقياً.


1 ـ تتعلق السببية كمفهوم نفساني بكثرة ما يتحسس به الفرد من تكرار في علاقة الاقتران بين الظاهرتين المتعاقبتين، لا انها صيغة قبلية.
2 ـ يستحيل تبرير الدليل الاستقرائي من الناحية المنطقية، وإن كان يمكن تبريره نفسياً بواسطة تداعي المعاني الناشئ عن العادة، وذلك من خلال تحليل السببية بالصورة التي فيها تُنتزع الضرورة من المخيلة النفسية لتفرض على الواقع.


وعلى العموم ان التفسير النفسي لهيوم ناجح الى الحد الذي فيه اقرار لما تتأثر به مخيلتنا من تصورات انطباعية قد تفرضها على الواقع الموضوعي، لكن ذلك يختلف عما يراد تفسيره منطقياً. لهذا نجد في العلاقة الخاصة للسببية أن الانطباع الحسي المتكرر يمكنه أن يؤثر على المخيلة كحالة نفسية تفسرها نظرية تداعي المعاني، أما من الناحية المنطقية فلا تفسير لذلك سوى الارتكاز الى قوانين الاحتمال وحساباته، بدلالة ان أي خطأ ملحوظ يحدث في التجربة يفضي الى تغيير طبيعة الحكم المنطقي، رغم بقاء الاثر النفسي الذي يمكن أن يؤدي اليه التداعي. فعلى سبيل المثال - وكما يقول المفكر الصدر -: (نفرض أن انساناً حاول أن يجرب أثر استعمال مادة معينة على المصابين بالصداع، فلاحظ ان استعمال تلك المادة في أشخاص كثيرين قد اقترن بظاهرة معينة، فسوف يستنتج أن تلك المادة سبب لهذه الظاهرة. ومرد الاستنتاج - في رأي هيوم - الى العادة الذهنية. ولنفرض ان الممارس للتجربة قد كشف، بعد ذلك، ان شريكه - االذي قدم اليه مرضاه المصابين بالصداع الذين أجرى تجاربه عليهم - كان يتعمد اختيار المريض الذي تتوفر فيه الظروف التي تؤدي الى وجود تلك الظاهرة، لكي يضلل الممارس للتجربة في اكتشافه، فمن الطبيعي ان يزول اعتقاد الممارس بالعملية بعد هذا الاكتشاف، فلا يتوقع وجود الظاهرة في شخص بسبب استعماله لتلك المادة) .

ان كنّا لا نمنع الاثر النفسي الذي يبلغه الخيال في الاحكام الاستقرائية، لكن ذلك لا يحيل من وجود منطق خاص يقوم عليه الاستقراء، وهو منطق الاحتمال الذي لم يقتنع به هذا الفيلسوف.

نقد هيوم 
نقد التفسير النفسي واستبداله بالتفسير القائم طبقاً للاحتمال؛ كما مرت علينا بعض النصوص الدالة عليه ، وكذلك فان منه ما يكشف عن كون المفاهيم الخاصة بهيوم تفضي بمنع اقامة أي حالة من حالات التنبؤ الاستقرائي ، وهو ما يتفق عليه هذا الفيلسوف من دون معارضة. اضافة الى ذلك فان هناك نقداً آخر يكشف عن ان هيوم قد استخدم الدليل الاستقرائي دون ان يشعر، فهو حين يفسّر منشأ الافكار ويردها جميعاً الى الانطباعات الحسية؛ يصل الى نتيجة عامة تقر بأن كل فكرة لابد ان تنشأ عن نوع من الانطباع، وقد طبق هذه النتيجة العامة على فكرة السببية التي لم يجد لها انطباعاً حسياً واعتبرها كغيرها من الافكار الناشئة من الانطباعات. وهو بهذا استنبط حكمه من التعميم السابق بشكل غير مشروع . وكذا نفس الحال بالنسبة الى تعميمه القائل ان كل انطباع هو اقوى من الفكرة التي تنبعث عنه.

هيوم بين الطبيعة والعقل

 هذه النواقص والتناقضات الحادة والمتعددة الوجوه في العقل الانساني قد أثّر بي كثيراً، وشوش عقلي لدرجة أصبحتُ معها مستعداً لرفض أي اعتقاد واستدلال، ولا أستطيع القبول بأي رأي على أنه اكثر احتمالاً من غيره. أين أنا وما أنا؟
 ولكن من حسن الحظ انه في حين يعجز العقل عن تبديد هذه الغيوم، تكفي الطبيعة نفسها لهذا الغرض وتشفيني من الكآبة والهذيان الفلسفي؛ إما باسترخاء هذا الميل العقلي او بتذكر ما، وانطباع مشرق للحواس يمحو كل هذه الاوهام. وهكذا اتناول طعامي، والعب بالنرد، واتحادث مع الاخرين واصرح مع اصدقائي، ثم بعد ثلاث او اربع ساعات من اللهو ارجع الى هذه التأملات فأجدها قاحلة وسخيفة ولا أجد أية رغبة في نفسي للخوض فيها ثانية. وهكذا أجدني عازماً عزماً تاماً على الحياة والتكلم والتصرف كجميع الناس في حياتهم اليومية، ولكن على الرغم من ان ميلي الطبيعي وانفعالاتي الحيوانية تهبط الى هذا القبول الخامل للمبادئ العامة في العالم؛ فأنا ما زلت اشعر ببقاء شيء من حالتي السابقة يجعلني ارغب في إلقاء جميع كتبي واوراقي في النار واقرر ان لا انبذ ملذات الحياة ابداً في سبيل التأمل والفلسفة؛ لأن هذا هو شعوري في ذلك المزاج الذي يسيطر علي الان، ربما استسلم، لا بل عليّ ان استسلم لتيار الطبيعة فأسلم امري لحواسي وفكري. وبهذا الاستسلام الاعمى اظهر بصورة تامة مبادئي ووضعي الريبيين. ولكن هل يعني هذا بانه يجب عليّ ان اناضل ضد تيار الطبيعة الذي يقودني الى الخمول والملذات؟ وان عليّ ان انزوي الى درجة ما بعيداً عن معاملات الناس ومجتمعهم الذين يمداني بالمسرات؟ وأن عليّ ان اعذّب عقلي بدقائق وفلسفات في الوقت الذي لا استطيع فيه اقناع نفسي بمنطقية هذا العمل الشاق، ودون ان يكون لي أمل في الوصول بوساطته الى الحقيقة واليقين؟ ما هو الواجب الذي يجعلني أسيء استعمال وقتي بهذا الشكل؟ وما الغاية التي تخدمها، سواء كان لمصلحة الانسانية جمعاء أو لمصلحتي الشخصية؟ كلا إذا كنت سأتصرف أحمقاً مثل جميع أولئك الذين يفكرون أو يعتقدون بوجود أي شيء عن يقين فان حماقاتي ستكون طبيعية وسارة. وحين أناضل ضد ميولي فسيكون لي سبب مقبول لمقاومتي. ولن أُقاد تائهاً في قفار موحشة، وممرات وعرة كالتي سرت فيها حتى الان..) .

*

نقد فكرة السببية عند دافيد هيوم

محاولته تطبيق المنهج التجريبي أثناء دراسته الطبيعة للبشرية والمعتقدات والفضائل الأخلاقية والقوانين وقد ترتب عن ذلك تشييده لنسق فلسفي جديد من المعرفة يتفادى التشذر والتجزئة. لقد تأثر بفرانسيس بيكون وجان لوك واسحاق نيوتن ورأى في التحليل الدقيق للإنسان شرط الفلسفة الأول لكي تحمي الحقيقة العلمية من الوقوع الزلل ولكي تعثر المعرفة الإنسانية على قاعدة صلبة.

ارتاب من التأمل الفلسفي. في سبيل ذلك فند كل الحجج المعقدة وبراهين الأديان على وجود الله ودعى إلى تطبيق المبادئ التجريبية عند تفسير نشاط الذهن البشري بالاستفادة من فيزياء نيوتن وبالتالي قام بتأسيس علم الإنسان بدل علوم اللاّهوت.

لقد وجد هيوم نفسه في عصر ارتكزت فيه الأنساق الفلسفية (ديكارت ومالبرانش وسبينوزا ولايبنتز) على فكرتي الجوهر والسببية
 دور دافيد هيوم لكي يدفع بالحركة الريبية إلى وضعيتها الجذرية منكرا وجود الجوهر الروحاني وفكرة السببية بصفة عامة التي قام بكنسها من دائرة المعرفة والوجود والقيم أيضا.

لم تعد الذات كما هو الشأن عند بركلي جوهرا وإنما أضحت مع هيوم مجرد مؤلف للمعرفة وبهذا المعنى اعتبر هيوم الريبي الذي حرم كانط من النوم لمدة طويلة وساهم في حصول يقظته التامة وصحوته الفكرية من السبات الدغمائي.

في البدء توجد الانطباعات التي تحدثها الأشياء في الإنسان ويسمي هيوم الانطباعات مجموعة الأحاسيس والأهواء والانفعالات التي تتكون في الذهن نتيجة تأثره في الحس، وبعد ذلك تتشكل الأفكار من هذه الانطباعات ويسميها انعكاسات ونسخ ضعيفة من الانطباعات. لكن إذا كانت الانطباعات حية وفاعلة فإن الأفكار خافتة وذاوية ولا تعبر عن الأشياء في حد ذاتها وانما عن تمثلاتنا عنها التي ترتسم في الذهن.

ريبية هيوم في الوقوع في الوهم إذا ما اعتقد الإنسان أن أفكاره تعبر عن الواقع الموضوعي ويقع الناس في هذا الوهم نتيجة العادة التي تدفعهم إلى حمل الأشياء الخارجية ما يـأتيهم من مشاعر داخلية.

حينما يبدأ المرء في التفكير حسب هيوم فإنه لا يهتم سوى بذاته بالرغم من اعتقاده أنه يدرك كيفيات العالم الخارجي. بيد أن طرافة هيوم في تأكيده على سخاء générosité الذات عاطفيا. لقد كان أول من جعل من نموذج الميكانيكا السماوية عند نيوتن لكي يفسر الطريقة التي تستخلص بها الأفكار من بعضها البعض في العالم الذهني وأول من قارن ترابط الأفكار بنوع من الجذب الذي يحدث في العالم الذهني وما يترتب عن ذلك من تأثيرات خارقة للعادة في عالم الطبيعة وتجلي لأشكال متعددة ومتنوعة.
اذا كان من المتعذر علينا تصور أفكار متميزة ومنعزلة فأنه يستحيل علينا صياغة فكرة دون وجود أفكار أخرى مترابطة معها وبالتالي يجب توفر على قوة تربط الأفكار بعضها ببعض تماما مثل قوة الجاذبية الكوني التي تربط بين الأجسام السماوية في العالم الفيزيائي.
في هذا السياق يميز هيوم بين ثلاثة أنماط من الترابط Association أو الجمع:
- الترابط بالتشابه ressemblance: تستدعي فكرة معينة ما يشبهها من أفكار عن طريق مبدأ تناسب العنصر مع المجموع أو الجزء مع الكل.
- الترابط بالتجاور أو التماس contiguïté: تستدعي فكرة معينة ما يتجاور معها من أفكار تنتمي الى نفس السياق الزمني أو المكاني. مثال تأملات الزمن الضائع عند بروست
- الترابط السببي أو بواسطة السببية: تستدعي فكرة معينة فكرة أخرى اذا مثلت هي السبب والفكرة الأحرى النتيجة. مثال الإشهار هو السبب والاستهلاك هو النتيجة.
لماذا سلط هيوم انتباهه على مسألة السببية؟
توجد عدة اعتبارات دفعت هيوم الى الاهتمام بالسببية ودراستها بطريقة نقدية:
- السببية هي أحد الشروط التجريبية التي تسمح بترابط الأفكار
- فكرة السببية وجدت في جوهر الأنساق الميتافيزيقية التي منحت لله دورا مركزيا في الخلق وجعلته سببا أولا. إذا كان العقلانيون فكروا في العلاقة السببية من زاوية الاستنباط فإن هيوم يرفض ذلك جملة وتفصيلا وسيفكر في العلاقة السببية من زاوية الاستقراء وسيربطه بالتكرار والعادة ويلاحظ وجوده في العديد من المرات عن طريق التجربة.
لقد بحث هيوم في الانطباع الخاص الذي ولدت منه فكرة السببية وتبين له أن علاقة التجاور في المكان والتعاقب في الزمان هي التي جعلت الناس يعتقدون في وجود علاقة ضرورية بين مجموعة معينة من النتائج ومجموعة أخرى من الأسباب إذا توفرت ظروف متشابهة (السبب هو النار، الدخان هو الأثر).
النتيجة: السببية توجد في ذواتنا وليس في الأشياء الخارجية.
العلاقة السببية عند هيوم ليست حقيقة موضوعية ولا معطى فيزيائي في الأشياء ولا بنية منطقية للفكر بل هي تتشكل في الذات نتيجة توفر عوامل نفسية ويوجد في الفكر البشري اتجاه كوني يمر من لفظ إلى آخر ينبع من تجربة التكرار والمعاودة. بهذا المعنى تظهر لنا التجربة انتظام في تعاقب أو تتابع بعض الظواهر مثل الثلج الذي يتبع البرودة والتبخر الذي يتبع الحرارة. تنبع فكرة السببية عندئذ من العادة.
يسمح علم الإنسان الذي سعى هيوم إلى تشييده من توحيد الطبيعة البشرية بمنح الإدراك مضمونا نفسيا والتفريق بين الانطباعات التي تضم الانفعالات والصور الحاضرة مباشرة أمام الفكر والأفكار التي تمثل نسخا ضعيفة عن الانطباعات ولقد شمل هذا التفريق بين الانطباعات والأفكار من جهة القوة والمصداقية.
بما أن الأفكار لا تتطابق دائما مع الانطباعات وإنما تظل تابعة لها يبلور هيوم نقدا فلسفيا للأفكار بالاعتماد على منهجية صارمة وذلك بأن يراقب الأفكار بإيجاد معادل واقعي لها في الانطباعات وتوضيح الأفكار الغامضة بمقارنتها بالانطباعات التي تتطابق معها ورفض الأفكار التي تفتقد للأسس الحسية مثل الجوهر والهوية الشخصية والسببية، فالفكر هو بصدد تذكر الأفكار الماضية وبلورة ترابطات بينها عبر الخيال.
ماذا لو لم تشرق الشمس غدا؟
يعتبر هيوم، مثل كل التجريبيين، الاستنباط رهانا خاسرا وغير مقبول ويبرهن على ذلك بأن لاشيء يوحي بأن غدا سيكون مشرقا مثل اليوم تماما ولا شيء في نظام الأشياء وترتيب الكون يشير إلى أن علاقة معينة بين مجموعة الأحداث تظل ضرورية وكونية. تصور نظام الأشياء على غرار نظام الأفكار.
في المقابل يعطي هيوم إلى الاستقراء أساسا غير منطقي ولكنه نفسي ويعتبره تخمينا احتماليا يقع اشتقاقه من التجربة المتداولة وقد تحول الى قانون نتيجة الوقوع في التعميم بكثرة التكرار والإعادة وبذلك يكون قد ردم الفجوة التي ظلت قائمة في الاتجاه العقلاني بين الفكر العلمي والتجليات الأكثر عقلانية في الحياة العاطفية. بما أن الاتجاه التجريبي يشتغل بواسطة الاستقراء فإنه يكف عن إصدار أحكام تامة ويعزف عن القول بوجود اليقين المطلق حول الأشياء الخارجية والمواضيع المدروسة.
كما العلم لا يقدر على التخلص بشكل نهائي من الاعتقاد. بهذا المعنى يكون من المحتمل بصورة عالية أن تشرق الشمس غدا ولكن ليس من المستحيل تماما ألا يحدث، بما أن هذا الأمر – إمساك الشمس عن الشروق- ليس متناقضا من الناحية المنطقية ولا من الناحية الفيزيائية. لقد عدلنا ساعة الشروق بحكم العادة وهذا ما يحدث دوما في كل يوم.
إن الاستقراء هو رهان حول المستقبل لا يمكن أن يستخف به أي باحث في المجال العلمي والبعد المعرفي ويطرح جانبا سؤال اللّماذا؟ ويثير بشكل دائم سؤال الكيف؟ وطموحه نحو تحقيق المزيد من الاختراعات واكتشاف القوانين لا يعرف حدودا ولا يفتر عند علاقات ثابتة ولا يتوقف عند صياغة تامة لحقيقة نهائية.
الاعتقاد فكرة قوية وحية يقع اشتقاقها من انطباع حاضر بعد انعقاد اجتماع بينهما.
 الحقيقة لا توجد بلا اعتقاد حتى وان كان الاعتقاد لا ينتمي إلى نظام الحقيقة. لقد بين هيوم على معرفة العالم أهم من معرفة الذات التي تريد معرفته وبرهن على ذلك بالتشكيك في يقينية الهوية الشخصية وتبني نظرة ريبية مختلطة لا يمكن أن تشكك في وجود العالم الخارجي إذا ما اعتبرت الاعتقادات فاقدة للقيمة وغير وجيهة وبالتالي يقر هيوم بوجود إحساسات كونية من التناغم والتعاطف تمنح التفكير والفعل نقاط ارتكاز صلبة. لكن كيف أدت مراجعة مبدأ السببية من طرف هيوم إلى ميلاد العلم الحديث؟
++++++++++++++++++++++++++

هيوم أعظم المفكرين

نظمت القناة الرابعة في راديو بي بي سي منذ فترة , استفتاء طلبت فيه من مستمعيها اختيار أعظم عشر فلاسفة في العالم . وجاءت نتيجة الاستفتاء أن كارل ماركس هو الأول , والثاني دافيد هيوم , والرابع نيتشه , والسادس كانت , والثامن سقراط , والتاسع أرسطو, والعاشر كارل بوبر .

عرف هيوم أهم المعارف الأساسية التي تهمنا وهي :
1 - أن الأحاسيس والعواطف والانفعالات هي التي تقرر غالبية تصرفاتنا وتوجهاتنا , وأن الفكر والمنطق يتبع لهم , وأننا نعتمد بشكل أساسي أحكام قيمة وليس أحكام واقع .
2 - وعرف أصول وأسس السببية التي يعتمدها عمل عقلنا بشكل أساسي .
3 - و أن الذات أو الأنا متغيرة ومتطورة وليست ثابتة , وعدم وجود جوهر للذات .
4 - وأصول الدافع الديني .
والعجيب أنه نشر هذه الأفكار والمعارف الدقيقة منذ أكثر من 200 سنة , ولم يتبناها إلا القلائل , ولم تنتشر بشكل واسع 

مدى دقة الأفكار التي ذكرها ويؤكد صحتها. فنحن لا تهمنا الحقيقة أو المعارف الدقيقة , بل ما يفيدنا وتساعدنا في حياتنا وتمنحنا اللذة والسعادة وتبعدنا أن الألم والشقاء . وهذا ما ذكره وأكده هيوم .
اول مسلسل ابليس 

أشهر كتبه: كتاب في الطبيعة الإنسانية ألفه بين 1739-1740 . كتاب ( بحث في الفهم الإنساني ) ألفه في 1748عام . وكتاب ( بحث في المبادىء الأخلاقية ) عام 1751. و وكتاب ( محاورات في الدين الطبيعي ) عام 1754, وكتب أخرى.
لقد وضع هيوم نظرية متكاملة تفسر المعرفة , والأخلاق , والدين , والاقتصاد ، على أساس الطبيعة البشرية . وفي نظره إن كل ما ينتجه الإنسان من علوم ومعارف مشروط بطبيعته المكونة بصفة أساسية من مجموعة من الرغبات والانفعالات والمشاعر والاعتقادات ، ومن بنية ذهنية قوامها ملكات معرفية ثلاثة هي الإدراك الحسي ، والمخيلة , والفهم.
كانت المشكلة الأساسية بالنسبة لهيوم هي مشكلة المعرفة: طبيعتها ووجودها . استفاد هيوم من لوك في حله لهذه المشكلة، ذلك لأنه استعار من لوك "المنهج التجريبي في الاستدلال أو البرهان"، واعترف بأن لوك قد سبقه في البدء بدراسة الفهم البشري كنقطة أولى لدراسة المعرفة.
إلا أن استخدام هيوم للمنهج التجريبي تميز عن استخدام لوك له في الدقة والصرامة المنهجية، بل والشجاعة التي أدت بهيوم إلى السير مع الفلسفة التجريبية حتى نهايتها المنطقية والتي تمثلت عنده في نزعة شكية أو نسبية، إذ ذهب هيوم إلى أن كل معارفنا نسبية ودرجة الاحتمال فيها عالية، وأننا لا نستطيع أن نعرف بدقة الطبيعة الحقيقية لموضوعات الميتافيزيقا مثل النفس والألوهية والحرية والغائية.
كل ما نعرفه معرفة يقينية هو أشياء العالم الحسي التجريبي الخاضع للإدراك الحسي والخبرة التجريبية، فهذا هو الحد النهائي للمعرفة البشرية الذي لا تستطيع تجاوزه.

أهم مؤلفاته تحت اسم "بحث في الطبيعة البشرية".
فالطبيعة البشرية عنده تبدأ بالإحساس وبملكة الإدراك الحسي ، ثم ملكة الفهم التي تستقبل من الحواس انطباعات تعاملها كأفكار فتبني عليها , وتقيم بينها علاقات . وأن العلم الدقيق للطبيعة البشرية هو علم النفس، ويجب أن تكون الفلسفة تعتمد على ذلك . فالفلسفة الحقة عنده هي علم النفس. وقد كان هذا الإعلان من قبل هيوم ثورياً في عصره .
لم يسبق لأحد من المفكرين أن اعتبر علم النفس هو الأساس الذي يجب الانطلاق منه لبناء فلسفة موضوعية توضح حقيقة الإنسان 

يعتبر الكثيرين أن هيوم الرائد للمذهب التجريبي , فهو يعتبر من طليعة الفلاسفة الذين بشّروا بالمذهب التجريبي ، وكرّسوا كلّ جهودهم الفلسفيّة لتثبيته والدفاع عنه . وهو بشكل عام من أعظم الفلاسفة . وكان مؤثراً بشكل مباشر على الأعمال الفلسفية الأخلاقية والكتابات الاقتصادية لفلاسفة آخرين مثل آدم سميث و إيمانويل كانت , والكثير غيرهم .
نظر هيوم إلى كل معرفة تخص الإنسان على أنها فلسفة قيمية وأخلاقية بما فيها نظرية المعرفة 

"العقل عبد للانفعالات، ولا يمكنه أن يفعل أي شيء سوى أن يخدمها ويطيعها "
أنه يرى أن الأحاسيس والعواطف والانفعالات هي ما يشكل الطبيعة الإنسانية . فالإنسان يسلك في حياته اليومية حسب نفس الصفات التي حددها هيوم للطبيعة البشرية ، واستخدام العقل والتفكير العقلاني مقصور على الممارسة العلمية والموضوعية. وإذا أردنا البحث عن الدوافع الأولى والأساسية للسلوك البشري فيجب علينا الانتهاء حتماً إلى الإحساس والعاطفة والانفعال لأن العقل لا يمكن أن يشكل دافعاً للسلوك. فهو يرى إن العقل الإنساني ليس سوى ملكة منظمة لما يتلقاه الإدراك من انطباعات على المستوى المعرفي ، أو ما تتلقاه النفس الإنسانية من لذة وألم. وهذا أكدته الدراسات الحديثة الآن " الذكاء العاطفي " .

هذا الدور التنظيمي المحدود للعقل يجعل للانفعال الأولوية القصوى لدى هيوم ، بل إن العقل نفسه لدى هيوم يعد ملكة في خدمة الانفعال ، حيث تضفي شيئاً من العقلانية والتبرير العقلاني المنطقي لدوافع وتوجهات ليس لها أدنى علاقة بالعقل بل تنتمي كلها إلى الانفعال.
ويصر هيوم على أن العقل والمنطق ليس له دور كبير في حياة البشر وسلوكهم . كما أن دوره متواضع في مجال الاعتقاد ، ولا يمكن للبشر أن يسلكوا ويستمروا في الحياة بدون اعتقاد , وعلى أساس العقل وحده لا يمكن الوصول إلى أي اعتقاد، وإذا كان البشر يسلكون وفقاً للعقل لتوقفوا عن الإيمان بأيّ اعتقاد لكن هذا غير ظاهر أو ملاحظ بالمرة، فالبشر يمارسون الاعتقاد كل يوم وفي كل وقت، وهذا أكبر دليل على أن العقل لا يشكل دور كبير في الاعتقاد الذي يتبناه الإنسان .

وإذا كانت الانطباعات حسية فالأفكار أيضاً حسية، وكل الفرق بينهما أن الانطباعات إدراكات تنطبع على الإدراك الحسي، والأفكار إدراكات تنطبع على العقل. وما ينطبع على الإدراك الحسي يكون قوياً وعنيفاً، وما ينطبع على العقول يكون خافتاً ضعيفاً. والإدراك المنطبع على الإدراك الحسي هو تأثر مباشر للحواس بالأشياء وبالخبرة التجريبية، أما الإدراك المنطبع على العقل فهو مجرد صورة خافتة للأشياء والخبرة.

وإذا كان الإدراك الحسي يتلقى تأثيرات قوية من الخارج فإن العقل لا يتلقى إلا صوراً , بمعنى أنه لا يتلقى الانطباع الحسي نفسه بل يتلقى صورة ذهنية عنه. ونتوصّل إلى التمييز بينهما بمعرفة مقدار القوّة والحيويّة الذي يصحب كلاً منهما في الذهن، فالإدراكات التي تنطوي على مزيد من القوّة والحيويّة , هي التي يدعوها هيوم انطباعات، وتندرج في هذه الطائفة جميع إحساساتنا وعواطفنا وانفعالاتنا.
+++++++++++++++++++
وأمّا الأفكار، فهي الصور الواهنة لهذه الانطباعات التي نجدها في إدراكنا حال غيبة الموضوع عنّا، فنحن حين نواجه البحر نحصل على إدراك للبحر على درجة كبيرة من القوّة والحيويّة، وهذا هو الانطباع. فإذا غبنا عنه وتصوّرناه كان إدراكنا للبحر صورة لذلك الانطباع لا تتمتّع بما كان الانطباع يتّسم به من قوّة ووضوح، وهذا هو الفكر. فالانطباعات لها السبق دائماً على الأفكار، فكلّ فكرة بسيطة أو مركّبة مردّها إلى تلك الانطباعات.
+++++++++++++++++++++++++++
.فالوجود ليس عنصراً من عناصر فكرتنا عن الأشياء، أي أنّا لا نملك فكرة للوجود؛ لأنّ ذلك يتطلّب أن نملك مسبقاً انطباعاً عن الوجود. ففكرتنا عن الشمس هي نفسها فكرتنا عن الشمس الموجودة . وبعض الأفكار ليست نسخاً لانطباعات مباشرة ، وإنّما هي مفاهيم انتزاعيّة عن أفكار أخرى ، هي بدورها نسخ لانطباعات مباشرة، ومن تلك الأفكار فكرتنا عن الوجود.

ولأن هدف هيوم الأساسي الكشف عن الطريقة التي يفكر بها الإنسان والتي تتحدد وفق طبيعته، ولأن هذه الطبيعة لدى هيوم طبيعة حسية انفعالية في الأساس , فلقد ذهب إلى أن التفكير غير ممكن إلا بحضور إدراكات في الذهن، وهذه الإدراكات إما أن تكون انطباعات أو أفكار.
ولأن الأفكار ذاتها ليست سوى صور عقلية لانطباعات حسية فمعنى هذا أن كل تفكير بالنسبة لهيوم ينطوي على استقبال لانطباعات، وبذلك يعطي الأولوية للإدراك الحسي في المعرفة.
وترد ا لمعرفة إلى تأثر الحواس بالأشياء في صورة انطباعات وأفكار، وهي تتبع عملية المعرفة إلى أبسط مكوناتها أو مدخلاتها الأولى من الإحساسات. كما أنها في نفس الوقت تنظر إلى المعرفة على أنها تبدأ بمرحلة الإحساس ثم الإدراك الحسي الذي يتلقى الانطباعات , ثم الذهن الذي تنطبع فيه الإحساسات في شكل صور ذهنية، ثم يصنع الذهن من هذه الصور الذهنية لأفكار , ثم لعلاقات .

و لهيوم نظرية خاصة فيه الجوهر، إذ يرفض أن يكون للجوهر وجود حقيقي في الأشياء ويذهب إلى أنه مجرد طريقتنا نحن في التفكير، وهو يختزل الجوهر إلى الانطباعات . وسبب حضور هذه الفكرة في أذهاننا , عادة عقلية في جمع صفات جزئية وأفكار بسيطة ترتبط معاً بعلاقات تحدثها المخيلة، ويطلق عليها اسماً عاماً بهدف امكان التواصل مع الآخرين وإفهامهم ماذا نقصد. وبالتالي فالجوهر ليس سوى اسم كلي لمجموعة من الصفات والأفكار البسيطة. و نظر هيوم إلى الجوهر على أنه مجرد اسم , وتعد نظريته هذه حول الجوهر من أكثر النظريات الفلسفية ثورية في العصر الحديث، وأثرت على فلاسفة التحليل والوضعية المنطقية .

فالمعرفة عند هيوم هي إقامة علاقة بين الأفكار، سواء كانت هذه الأفكار ترجع مباشرة إلى انطباعات الحواس أو كانت ترجع إلى انطباعات التفكير. ومعنى هذا أن المعرفة تضم المضمون المادي الذي تمثله انطباعات الحواس والشكل النظري المجرد الذي تمثله انطباعات التفكير. ويرى أن كل العلاقات التي يمكن أن تظهر بين الأفكار تتمثل في سبعة:
التطابق , والهوية , والعلاقات الزمانية والمكانية، والكم أو العدد، ودرجات الكيف، والتضاد، والسببية.
ويقسم هيوم هذه العلاقات إلى نوعين:
الأول يعتمد حصرياً على الأفكار التي تقارنها ببعضها البعض، وذلك مثل التطابق والتضاد ودرجات الكيف وأعداد الكم.
أما النوع الثاني فيعتمد على شيء من الاستدلال مثل الهوية والعلاقات الزمانية والمكانية والسببية.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق